جميع الليتورجيات في الكنيسة - التي تتكون من العبادات والأصوام والصلوات والألحان - لا تكون وليدة اللحظة، بل هي نتاج تطور تاريخي معقد عبر الزمان منذ العصر الرسولي إلى الآن. فكيف تطور الصوم الكبير من الصوم الأربعيني وحده، وأصبح سابقًا لصوم الفصح، أو ما ندعوه أسبوع الآلام. وما هي تاريخية أسبوع الاستعداد "أسبوع هرقل"، من أين أتى، وكيف ثبت في الكنيسة؟
القرن الأول
كان يصام في القرن الأول الميلادي يومًا واحدًا فقط، وهو يوم الجمعة العظيمة، بغرض الحزن في قلوب المسيحيين على إخوتهم من اليهود الذين لم يؤمنوا بالرب وقيامته. ثم تطور من يوم إلى يومين بإضافة يوم السبت اليهودي الذي كان مكرما من اليهود أيضًا كصوم للمسيحين، استعدادًا منهم للاحتفال بأحد القيامة “يوم الرب العظيم”.
أما الجمعة والسبت فصومهما معا(الدسقولية 5 :15: 1)
وأوضحت الدسقولية أن صوم السبت أكثر صرامة من صوم الجمعة حيث قالت:
ولكن إذ لم يقدر أحدًا أن يصوم الإثنين معا، فليصم السبت حتى صياح الديك(الدسقولية 5: 18)
القرن الثاني
ظل هذا التقليد بصيام أيام متفاوتة حتى عهد القديس إيريناؤس (130- 200م)،
فيوجد من يصوم يوم، أو اثنان، أو مدة أربعين ساعة دون أي طعام.
لأن النِّزاع ليس محصورًا في اليوم فقط، بل يتعلق أيضًا بطريقة الصوم، فالبعض يظنون أنهم يجب أن يصوموا يومًا واحدًا، وغيرهم يومين، وغيرهم أكثر. والبعض يحسبون يومهم أربعين ساعة نهارًا وليلًا. وهذا الاختلاف في حفظ الصوم لم ينشأ في أيامنا، بل في أيام آبائنا قبل ذلك بوقت طويل( يوسابيوس القيصري على لسان القديس إيريناؤس)
هذا كله بالنسبة إلى أسبوع الفصح (الآلام)، أما ما يخصّ الصوم الأربعيني، فلا نجد عنه في القرون الأولى أي تعليم، إلا في إشارة وحيدة:
إن أيام الصوم التي ثبِّتت هي الأربعين المقدسة والأربعاء والجمعة(العلامة أوريجانوس (185-254م))
القرن الرابع
تطور صوم الفصح في هيئته الأخيرة في القرن الرابع إلى صوم ستة أيام متواصلة، ودعي “أسبوع البصخة” وتم تقنينه في الكنيسة في عهد الملك قسطنطين (306-337م)،
وتطور صوم الأربعون المقدسة أيضًا فقد كان صومًا مستقلًا بذاته لا يرتبط بعيد الفصح (أسبوع الآلام)، إذ كان يبدأ بعد عيد الغطاس مباشرةً على مثال صوم المسيح أربعين يومًا في البرية.
أول ما تم ذكره عن دمج الأربعين المقدسة، وأسبوع البصخة، كان في القرن الرابع في كنيسة الإسكندرية زمن البابا أثناسيوس، حيث كان يصام 35 يومًا ثم أسبوع البصخة، تبدأ يوم الإثنين، وتنتهى يوم سبت النور، فيكون مجموع الصوم 41 يوم كاملًا (ست أسابيع)، ففي الرسالة الفصحية الأولى للقديس أثناسيوس تم ذكر صوم الفصح ولم يُذكر الصوم الأربعيني، وفي الرسالة الفصحية الثانية تم ذكر الصومين متتاليين بحيث يبدأ يوم 9 مارس ويكون إثنين البصخة هو 13 أبريل، ويوم سبت النور 18 أبريل فيكون المجموع 41 يومًا.
واستمر هذا الوضع قائماً حتى نهاية حبرية البابا كيرلس الكبير (421- 444م) على أقصى تقدير. وهو النظام الذي تبنته مصر وفلسطين وليبيا.
القرن الخامس
بعد مجمع خلقيدونية سنة 451م، تمثلت كنيسة الإسكندرية بالكنائس الشرقية الأخرى، فأضافت أسبوع آخر للصوم المقدس، حيث صار الصوم في كل الشرق سبعة أسابيع. ولكن في كنيسة الإسكندرية ظل التمييز واضحًا بين الصوم الكبير، وصوم أسبوع الفصح.
القرن السابع
تمت إضافة أسبوع ثامن إلى الصوم الكبير، وسمى “أسبوع هرقل” نسبة إلى الملك هرقل (610- 640م).
كان الملك هرقل ملك الروم ذاهبًا إلى بيت المقدس، ووجد هناك اليهود قد أحدثوا خرابًا كبيرًا بالكنائس، والقبر المقدس، ومكان الجلجثة حيث صُلب الرب، وأحرقوا المسيحين بالنار. وعندما رأه المسيحين من الرهبان والأساقفة، طلبوا منه أن يأخذ بثأرهم ويقتل اليهود، ولكنه لم يستجب، لأنه عاهد اليهود ألا يقتلهم، وهنا وعده المسيحيون بأنهم سيصومون أسبوعًا إلى انقضاء الدهر إكرامًا وغفرانًا له، وبالفعل كتب البطاركة والأساقفة إلى جميع البلاد لصوم أسبوع باسم الملك هرقل.(كتاب: “مصباح الظلمة وإيضاح الخدمة” لابن كبر – الباب الثامن عشر، بتصرف)
فكانت هذه الحادثة التاريخية بداية صوم هذا الأسبوع، حيث بعث بطريرك الروم إلى البابا أندرونيكوس (616-623م)، ولكن بعد موت الملك هرقل تراجعت كنيسة الروم وباقي الكنائس عن صوم هذا الأسبوع، ما عدا الكنيسة القبطية.
عن جمعة هرقل:
أهل مصر القبط إلى الآن يصومونها، إلا الشام والروم الملكية، فإنهم بعد موت هرقل رجعوا يأكلون في هذه الجمعة بيضا وجبنًا وسمكًا(“نظم الجوهر” لسعيد ابن بطريق 877-940م)
وجاء أيضًا:
وذلك أن الأسبوع الأول ليس من الأربعين يوما الصوم، بل نحن نصومه عبادة من أجل الملك هرقل، الملك لم قتل اليهود، وفسخ العهد الذي كان عاهدهم به، فهو كان خبر مشهور معروف في أخبار هرقل.(“نظم الجوهر” لسعيد ابن بطريق 877-940م)
وفى موضع آخر يكمل:
أما اليونان وأهل القسطنطينية الذين نسميهم الروم، فأنهم يصومون من أول الأسبوع الثاني الذي هو بدء صوم الأربعين يومًا، فأما أسبوع كفارة هرقل فلا يصومون.(المقالة الثامنة من كتاب: “الدر الثمين في إيضاح الدين”، الأنبا ساويرس بن المقفع أسقف الأشمونين)
هذا الأسبوع من الصوم قد تأسس بصورة تتنافى مع الروح المسيحية، فلا يوجد صوم يستطيع أن يمحى الخطايا دون توبة حقيقة. كما صامت إيزابيل الملكة عندما أرادت قتل نابوت اليزرعيلى ورجمه. وإن فرضنا أن هذا الصوم فرض على الروم لوقت وظروف معينة حتمت عليهم ذلك، فلماذا يصوم العالم أو الكنيسة القبطية عن هذا الذنب؟
وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ: لِمَاذَا لاَ يَحْمِلُ الابْنُ مِنْ إِثْمِ الأَبِ؟ أَمَّا الابْنُ فَقَدْ فَعَلَ حَقًّا وَعَدْلًا. حَفِظَ جَمِيعَ فَرَائِضِي وَعَمِلَ بِهَا فَحَيَاةً يَحْيَا.(حزقيال 18 : 19)
ومن المضلل أن نطلق عليه “أسبوع الاستعداد” وكأننا نبرئه من هذا الإثم، فمنطقيًا كيف نستعد للصوم بصوم مثله لا يختلف عنه لا في قراءاته ولا قوانينه أو ليتورجيته.
وتتوالى السنين ويأتي البابا إبرآم ابن زرعه في القرن العاشر ويشترط فرض صوم يونان ثلاثة أيام كشرط أساسي مقابل أن يصوم هذا الأسبوع، وبالفعل وافق الشعب. مع العلم أنه تم التراجع عن هذا الصوم مرة أخرى بعد نياحته فنجد أن قوانين البابا خريستوذولس البطريرك 66 لم تذكر هذا الأسبوع من ضمنها.
المصادر:
– يوسابيوس القيصري، تاريخ الكنيسة (24:5)، تَرْجَمَة القمص مرقص داود، القاهرة، الطبعة الثانية، مايو 1979م، ص 278.
– كتاب “صوم نينوى والصوم الكبير، الباب الثاني، الفصل الثاني”، للراهب القس أثناسيوس المقاري.
– كل الرسائل الفصحية بدءًا من البابا أثناسيوس الرسولي حتى البابا كيرلس الكبير، نفصل بين الـ35 يومًا الأولى للصوم، والستة أيام التالية التي لأسبوع الفصح.
– مجلة مار مرقس يوليو 1971 – الأربعين المقدسة ص 5،6
– كتاب أصوامنا بين الماضي والحاضر، القس كيرلس كيرلس، طبعة أولى، 1982
– كتاب صوم نينوى والصوم المقدس الكبير، أبونا أثناسيوس المقاري
– Cross, F.L., & Livingstone, E.A. The Oxford Dictionary of The Christian Church (ODCC), (2nd edition), 1998, p. 661
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
Studies at Evangelical Theological Seminary in Cairo - ETSC
تمت الدراسة ايضا بمدرسة تيرانس للتعليم اللاهوتي والوعظ