لابد أن نتعرف أولاً إلى الله لكي نتعرف إلى أسباب تدبيره من جهة الإنسان (الخلق والخلاص) التي هي انعكاس خارجي لصفات الله الجوهرية في ذاته الواحدة من حيث الأبوة والبنوة فيه -الآب والابن- الآب لا يتميز عن الابن إلا بالأبوة، والابن لا يتميز عن الآب إلا بالبنوة. على أن هذا التمايز الذي يجعلهما اثنين في واحد، لا يخرج عن كونه ”علاقة“ داخلية جوهرية تختص بالله في ذاته الواحدة وجوهره الواحد. هذه العلاقة الذاتية -التمايز- لا يمكن بدونها أن يكون ”الله محبة“ وهي صفة جوهرية في ذات الله الواحد، لأن الحب هو علاقة تستلزم المشاركة، ليمكن القول باكتفاء الله الذاتي في الحب دون احتياج لكيان آخر ليس هو الله.
وما نعنيه بالانعكاس الخارجي لصفات الله الذاتية والعلاقة الداخلية الذاتية في جوهره الواحد هو فيض حب ومسرة الله خارجاً بالخلق والخلاص. وبما أن أعمال التدبير الإلهي من جهة الإنسان كانت انعكاساً لأبوة وبنوة وحياة الله كصفات ذاتية واجبة الوجود في كيان الله، فمن ثمَّة فإن الله استعلن للإنسان عن مكنون كيانه ووجوده.
ولكن عندما أنحط فكر البشر نهائياً إلى الأمور الحسية كان استعلان الله للإنسان في العهد القديم مستتراً، ولكنه أكتمل بالتجسد الإلهي في ملء الزمان في العهد الجديد. بظهور الله ”الكلمة“ في الجسد لكي يستطيع أن يجمع البشرية في ناسوته، فيستطيعوا رؤية الله، ويدركوا الحق بما يعلنه الرب في جسده ويدركون الآب فيه.
فالتجسد والفداء الذي أكمله الابن فتح أرواحنا على كيان الله وفتح كيان الله علينا، واستعلن لنا الأبوة والبنوة والحياة التي في كيانه الإلهي وأعطانا نعمة أن ندرِك ما لا يُدرَك من أعماق الله في المسيح بروح الله الذي سكبه في قلوبنا.
لذلك فإن أحد الأسباب الجوهرية للتجسد هي استعلان ذات الله في كيانه وجوهره أنه آب وابن وروح قدس. وذلك من خلال حياة الابن المتجسد ”يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته“ (يوحنا 17: 3).
لهذا السبب أيضاً فإن الابن لم يتمِّم ذبيحته عن الكل (الخلاص) بمجرد مجيئه مباشرةً إلى عالم الإنسان بتقديم جسده للموت وقيامته ثانية، لأنه لو فعل ذلك لجعل ذاته غير ظاهر. ولكنه صيَّر نفسه ظاهراً جداً بالأعمال والآيات حتى لم يعد يُعرف كإنسان فقط، بل بكونه الإله الكلمة الذي ظهر في الجسد. فكونه ظهر في جسد مماثل لهم جعل البشر يعرفوه بأوفر سرعة ويعرفوا أباه بالأفعال الإلهية التي كان يعملها.
وتلخيصاً لما سبق، فإن الإنسان وبسبب الخطية فقد انحجبت عنه معرفة الله كخالق حقيقي للعالم وكمخلِّص للإنسان. ولأن الإنسان تورط في التعدِّي لذلك أيضاً فإنه فقد القدرة على خلاص نفسه -أي إدراك النور- وعجز عن معرفة الله في ذاته ”Theognosia“ بالرغم من وسائط ناموس موسي وتعليم الأنبياء وضمير الإنسان (الناموس الطبيعي في ضمير الإنسان) والعقل الحر وإنتاجه من الفلسفة العميقة. لهذا فإن كلمة الله أخذ لنفسه جسداً وسلك بين الناس كإنسان حتى يقابل إحساسات كل البشر في منتصف الطريق إذ يكون في مقدورهم -بالمقارنة- أن يحكموا على الأعمال التي عملها المسيح كلمة الله في جسده أنها ليست أعمالاً بشرية بل هي أعمال الله.
فمنذ بدايات تغرُّب الإنسان في الأرض، بدأ افتقاد الله للإنسان واستعلانه لذاته. وإن جاز لنا القول بدأت إرهاصات التجسد الإلهي الذي أضطلع به كلمة الله في ملء الزمان. فنرى في العهد القديم إرسال الله للملائكة لتبليغ رسالة الله. كان الله يتكلم ”بالكلمة“ في الملائكة. أي إن الملاك لم يكن هو ”الله الكلمة“ بل مجرد ملاك. ولكن النطق والرسالة كان هو ”الكلمة“.
من هنا نفهم المكتوب في العهد القديم عن ظهورات ”ابن الله وكلمة الله“ التي كانت في هيئة ملائكة. ولذلك نقرأ الوحي يكتب عنهم تارةً ”الله يقول“، وتارةً أخرى ”الملاك يقول“. بالتالي فإن تجسد كلمة الله ليس ببعيد عن ظهورات الابن في العهد القديم في هيئة ملائكة كما شرح القديس أثناسيوس الرسولي.
الإخلاء في التجسد الإلهي:
يجدر بنا القول أنه بخصوص رسالة التجسد الإلهي التي تختص بفداء الإنسان، يتحتم فهم كل عمل وقول وتصرف أتاه المسيح حال تجسده، على قياس وغاية التجسد. لذلك فإن تجسد الله الكلمة كان يستدعي التزاماً بمحدودية الناسوت. بالتالي فإن قَبُول الجهالة التي للإنسان كانت مِن بين دوافع التجسد الأصيلة، وليس كما تقول هرطقة أبوليناريوس أن اللاهوت ابتلع الناسوت في شخص الكلمة. ولكن اتجاه التجسد كان هو الإخلاء أي حجب اللاهوت في محدودية الناسوت. وفي نفس الوقت استعلان اللاهوت من داخل محدودية الناسوت، ولكن كلاً في موضعه. لم تكن دوافع تجسد الكلمة هي التطلع إلى التفوق والامتياز المطلق الذي للاهوت ”الكلمة“ بالرغم من أنه استخدم لاهوته عند الضرورة لإثبات شخصه وإعلان رسالته في لحظات مصادرة المقاومين لها.
– ومن أمثلة ذلك الإخلاء في الإنجيل قول الرب في (مرقس 13:32& لوقا 2: 52) ”وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ولا الملائكة الذين في السماء ولا الإبن إلا الآب“.
هذا التصريح من المسيح لم يكن عائداً على ”اللوغوس -كلمة الله“ في ذاته كابن الله، ولكنه كان منصبّاً على الابن المتجسد في حالة تجسده كابن الإنسان. ولذلك نلاحظ أنه لم يذكر أن الروح القدس لا يعلم بالساعة أيضاً. لأن الروح القدس يعلم باليوم والساعة. ومكتوب أن الروح يأخذ مما للمسيح، بالتالي فإن الابن يعلم باليوم والساعة باعتباره ”كلمة الله“ ولكن ليس بصفته ابن البشر (متي 24: 42).
ومن ناحية أخرى نقول أن المسيح لبس بشريتنا لكي يخلصها، فنلبسها نحن خليقة جديدة كنعمة منه بالإيمان والأسرار المقدسة. لذلك كان من الضروري من أجلنا أن المسيح -إذا شاء- فهو يعلم كما يعلم الله بصفته الله الظاهر في الجسد، وإذا شاء، فإنه يجهل كما يجهل الإنسان وذلك إثباتاً أنه بشر مثلنا ماعدا الخطية وحدها، وذلك من أجل إتمام الفداء. وبصيغة أخرى نقول أنه ليس من ضرورات خلاصنا كبشر أن يكون لنا علم الساعة، لذلك حجب المسيح تلك المعرفة بإرادته عن بشريته خلال تدبير التجسد. لأنه لو كشف المسيح ذلك لبشريته لأخذنا منه بالتبعية خليقة جديدة تعرف اليوم والساعة. وهذا لا يعلمه إلا الله.
والسُبح لله
بقلم د. رءوف إدوارد
(المصادر الرئيسية كتاب: القديس أثناسيوس الرسولي للأب متي المسكين)
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟