تنيح في غضون الأسبوع الماضي أبونا أنطونيوس بطريرك الكنيسة الإريترية الأرثوذكسية منذ عام ٢٠٠٤ في منفاه الذي فرضته عليه الحكومة الإريترية على مدى خمسة عشر عامًا، لم يعد فيها إلى كرسيه إلا في عام ٢٠١٧ حيث عاد يومًا واحدًا ثم أعادته السلطات إلى منفاه. خلال هذه المدّة، تم عزل أبونا أنطونيوس من منصبه بواسطة المجمع الإريتري المقدس وتعيين بطريرك جديد باسم أبونا ديسقوروس ثم تنيح الأخير وسيم بطريركًا جديدًا باسم أبونا كيرلس في حياة أبونا أنطونيوس، عاد المجمع الإريتري وحرمه من عضويته في الكنيسة كليًّا عام ٢٠١٩ بحجة الهرطقة (دون محاكمة)، ما أدانته سائر الكنائس الأرثوذكسية اللا خلقيدونية.
لم تعتبر الكنيسة القبطية الأرثودكسية أبونا ديسقوروس أو أبونا كيرلس بطاركة شرعيين وظلت لا تذكر سوا اسم البطريرك الإريتري أبونا أنطونيوس في صلواتها، الآن وقد تنيح أبونا أنطونيوس، هل يتثنى للكنيسة القبطية الاعتراف بالبطريرك الإريتري الحالي الذي اختاره الشعب والمجمع؟ دعونا نلقي نظرة على التاريخ.
بطريركان على الكرسي المرقسي
في القرن الثالث عشر زاد الصراع بين فريقين في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، رأى أحدهما في يوأنس بن أبي سعيد الشخص المناسب لسدة الكرسي المرقسي بينما رأى الفريق الأخر في الراهب غبريال الشخص المناسب للكرسي، فبعد أن اُختير غبريال من قِبل الأراخنة وسيم قمصًا استعدادًا لسيامته البطريركية، اتفق الفريق الأخر على يوأنس، ولحسم الصراع بين الطرفين، رأوا حل نزاعهم بالقرعة الهيكلية ووقعت على غبريال إلا أن الفريق التابع ليوأنس أبطل القرعة ولم يأخذوا بها وسيم يوأنس على أي حال باسم يوأنس السابع عام ١٢٦٢ م، إلا أنه عُزِل وتولى مكانه غبريال باسم غبريال الثالث بعد ست سنوات.
مع مرور الوقت، ازدادت الخلافات بين البابا غبريال والسلطان فعزله وأعاد يوأنس السابع إلى كرسيه مرة أخرى وفي هذه الفترة الثانية من بابوية يوأنس السابع تنيح البابا غبريال الثالث، بناءًا عليه، تقدم البابا غبريال على البابا يوأنس في الترتيب البطريركي إذ تنيح أولًا فيعتبر البابا غبريال هو البابا السابع والسبعون بينما يوأنس هو البابا الثامن والسبعون في عداد بطاركة الأقباط، ولم يصر تواجد كليهما في نفس الزمن أو صراع الفريقين التابعين لهما على الكرسي سببًا في شق الكنيسة القبطية الأرثوذكسية.
بطريركان على الكرسي القسطنطيني
على الصعيد الخلقيدوني نجد وضعًا مشابهًا حين استقر الإمبراطور مايكل في القرن التاسع على تحديد إقامة البطريرك إغناطيوس ليجبره على الاستقالة بعد توليه بطريركية الكرسي القسطنطيني وسيم موضعه فوتيوس بطريركًا، مع أنّ الأخير كان علمانيًا (الأمر المخالف للقانون الكنسي). مع مرور الوقت، استمر الصراع بين العرش الامبراطوري والكرسي البطريركي حتى عُزل فوتيوس ليعود إغناطيوس إلى كرسيه ولم يعد فوتيوس لمباشرة أعمال البطريركية إلا بعد نياحة إغناطيوس، بالرغم من هذا الصراع إلا أن كليهما يعدا قديسين في الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية (الخلقيدونية).
بطريركان على الكرسي الإثيوبي
بعد نياحة أبونا تكلا هيمانوت البطريرك الإثيوبي عام ١٩٨٨، تم سيامة أبونا ميرقوريوس إلا أن الحكومة الإثيوبية عزلته بعد عامين وظل هاربًا مع مجموعة من الأساقفة الذين ظلوا أوفياء له ولم يعتبروه معزولًا، وعُرف هذا المجمع باسم الكنيسة الإثيوبية الأرثوذكسية بالمنفى وظلت بعض الكنائس الإثيوبية خارج إثيوبيا وفية لبطريركها خصوصًا بأمريكا حيث ظل هناك بعيدًا عن أثيوبيا حتى عام ٢٠١٨. إلا أن خلال هذه المدّة، سيم بطريركًا جديدًا للكنيسة الإثيوبية الأرثوذكسية باسم أبونا باولص عام ١٩٩٢ حتى نياحته في ٢٠١٣ وخلفه أبونا ماثياس عام ٢٠١٣.
على الرغم من عدم تدخل الكنيسة القبطية في الشأن الكنسي الإثيوبي بشكل صارم، إلا أنها عبرت عن موقفها بوقف الاشتراك في الصلوات الليتورجية بين إكليروس الكنيستين دون منع الشعب من الاشتراك في الإفخارستيا لأسباب رعوية، مع حلول عام ٢٠١٨، استقرت الكنيسة الإثيوبية الأرثوذكسية على عودة أبونا ميرقوريوس شريكًا لأبونا ماثياس في إدارة شئون الكنيسة الإثيوبية الأرثوذكسية، ودمج الكنيسة الإثيوبية الأرثوذكسية في المنفى مع الكنيسة الإثيوبية الأرثوذكسية في إثيوبيا، مع ذكر كلا البطريركين في الصلوات الليتورجية حتى يتنيح أحدهما ويصير الآخر هو البطريرك الإثيوبي الوحيد ويبدأ التسلسل الرسولي/ البطريركي من بعده ببطريرك واحد على الكرسي الإثيوبي الواحد.
الكنيسة الإريترية اليوم
مما سبق يتضح لنا من التاريخ أن الكنيسة كثيرًا ما أدركت الفجوة بين ما هو قانوني ومعتاد (أي بطريرك واحد على كل كرسي) وبين الاستثناءات التي ينتج عنها الحفاظ على الوحدة الكنسية، لعله وقتًا مقبولًا في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية وباقي الكنائس الأرثوذكسية اللا خلقيدونية أن تعترف بشرعية البطريرك الإريتري الحالي للحفاظ على وحدة الكنيسة حتى وإن اختلفنا على قانونية سيامته في حياة بطريرك آخر، حتى وإن اختلفنا على حرم أبونا أنطونيوس من كرسيه أو من عضويته في الكنيسة الإريترية الأرثوذكسية.
هذا بالإضافة لقبول حقيقة أن الكنيسة في إريتريا مستقلة بمجمع مقدس خاص منذ عام ١٩٩٤ إلى أن تم سيامة أول بطريرك لها باسم أبونا فيلبس في عام ١٩٩٩ بيد البابا شنودة الثالث، مما يعني أنه لم يعد لنا حق التدخل في شئونها أو إملاء أي شيء عليها كما كان الحال في الكنيسة الأثيوبية بعد اعتراف البابا كيرلس السادس باستقلالها منذ عام ١٩٥٩ بترقية أبونا باسيليوس لرتبة البطريرك الإثيوبي.
أظن أنه آن الأوان للم شمل الكنيسة الأرثوذكسية اللا خلقيدونية دون تعالي على باقي الكنائس الأخرى حتى وإن ضلت الطريق فالتاريخ يؤكد أننا أنفسنا لسنا فوق احتمالية الخطأ كما يؤكد التاريخ أن هذه المشاكل تُحل بالنهاية بشكل أو بأخر مع مرور الوقت.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
كاتب وباحث دكتوراه اللاهوت اﻷرثوذكسي بكلية الثالوث، تورونتو - بكالوريوس الدراسات الدينية، ماكماستر