Search
Close this search box.
المقال رقم 3 من 4 في سلسلة الفعل الثقافي في سبيل الحرية
كما أوضح "التوسير": تهيمن ثقافة الصمت على البنيان السفلي الذي انبثقت منه. ولا يمكن فهم ثقافة السكوت إلا إذا أُخذت كجزء من كلية أكبر، ويجب علينا أيضًا أن نتعرَّف على الثقافة أو الثقافات التي تحدد من صوت "ثقافة السكوت". ولسنا نقصد من ذلك أن "ثقافة السكوت" هي كيان يتم تحضيره في معامل متخصِّصة ثم نقله إلى العالم الثالث.

وحيث أن الكائن الذي يعيش لمجرد أن يعيش، ليس بقادر على أن يتفكر في نفسه وعلى أن يعرف بمعيشته “في” العالم، تقوم الذات الموجودة بالتفكير في حياتها عبر نفس مجال الوجود، كما تبحث في علاقتها بالعالم، أما مجال وجودها فهو نفسه مجال عملها. الثقافة والقيم، ذلك المجال الذي يلتقي فيه الناس مع الجدل ما بين الحتمية وبين الحرية. إن وعي البشر وفعلهم يتميزان بالانعكاس وبالقصدية، وبالزمنية، وبالتعالي. عن مجرد الصلات التي تربط الحيوانات بالعالم. إن صلات الحيوانات غير نقدية، فهي لا تتعدى رابطة بقاءها.

وعند هذه النقطة، أرى من الملائم أن نحلل بشكل واضح منظم مفهوم “التوعية”. على أن تنطلق نقطة البداية لهذا التحليل من الفهم النقدي للإنسان ككائن يوجد في ومع العالم. فلأن الشرط الأساسي للتوعية هو أن فاعلها يجب أن يكون ذاتًا لأنه الكائن الواعي. فالتوعية، كالتعليم، على وجه الحصر وبشكل نوعي، عملية بشرية والناس كائنات واعية، ليسوا فقط في العالم، ولكنهم أيضًا “معه”، جنبًا إلى جانب الآخرين. ثم إن البشر ككائنات “منفتحة” هم فقط القادرون على إنجاز العملية المعقدة للتحويل المتزامن للعالم بفعلهم، واستلهام، والتعبير عن واقع العالم في لغتهم الخلاقة. تشير كلمة توعية إلى عملية يتملك فيها البشر، لا كمتلقِّين بل كذوات عارِفة، إدراكًا عميقًا لكلٍ من الواقع الثقافي الاجتماعي المشكل لحياتهم، وقدرتهم على تفسير ذلك الواقع.

(الفقرة التالية هي اقتباس من كلمات “” مباشرة، وهي فقرة دسمة وعصية على الترجمة، حاولت شرح بعض العبارات لكني فضلت الاحتفاظ بالفقرة رغم صعوبتها)

طريقة التدريب والتعليم التي ندافع عنها في منطقة هامة من العالم الثالث، هي “بيداجوجية طوباوية” [يقصد “تلمذة” تتطلع لأفق صالح] وفي حد ذاتها حقيقة تملؤنا بالأمل، إذ ليست الطوباوية مجرد المثالية أو اللا-عملية. وإنما هي التشهير والتبشير. [يقصد بالتشهير إظهار سلبيات أو مشاكل الوضع السائد، ويقصد بالتبشير الدعوة للأصلح] ولن يجدي أسلوبنا دون رؤى للإنسان وللعالم. فهو يصيغ تصورًا إنسانيًا علميًا يجد تجسيده في ممارسة حوار يقوم فيه المدرسون والدارسون معًا بتحليل الواقع المختزل للصفات الإنسانية [يقصد اظهار الواقع الذي يضعف من الصفات الانسانية] ويشهرون به، بينما هم يبشِّرون بتغييره تحت راية تحرير الإنسان. لأنهم أي البشر هم القادرون على تحديد أهدافهم.

(باولو فريري)

القطاعات المسيطرة على العالم الثالث تنظر إليه على أنه غير قابل للنمو بعيدًا عن المجتمعات الموجهة له، وأن هذا الاتجاه هو مصدر الحركة “لإنقاذ” العالم الثالث الذي يتلبسَّه ، وتعليمه وتصحيح تفكيره وفقًا للمعايير الخاصة بالمجتمعات الموجهة.

المصالح التوسعية للمجتمعات الموجهة هي التي تكمن وراء مثل تلك الأطروحات. إذ لا يمكن لهذه المجتمعات أن ترتبط مع العالم الثالث كشريك لها، حيث تفترض المشاركة مسبقًا مساواة بين أطرافها دونما اعتداد بما هم عليه من اختلاف. كما لا يمكن أن تقوم للمشاركة قائمة بين أطراف تعادي بعضها بعضًا.

إن صَمْتْ المجتمع المفعول به، في ارتباطه بالمجتمع الموجَّه، يتم تكراره في العلاقات داخل المجتمع المفعول به ذاته، فتقوم نخب السلطة الصامِتة في مواجهة المجتمع الميتروبوليتاني، بإسكات شعبها هي بدورها. ولن يكون في مقدور مثل ذلك المجتمع التابع أن يكف عن صمته تجاه المجتمع الموجه إلا عندما يكسر ذلك المجتمع ثقافة صمته ويستحوذ على حق الكلام.

إن المجتمع التابع هو من تعريفه مجتمع صامت وصوته ليس صوتًا أصيلًا، ولكنه مجرد الصدى لصوت المدينة الميتروبوليتانية.

وتتسم المجتمعات الأمريكية اللاتينية المُغلقة بأنها ذات بنية اجتماعية هرمية الترتيب تفتقد للمرونة ومحتاجة إلى أسواق داخلية، حيث يتحكم الخارج في اقتصادياتها، وتتميز بتصدير المواد الخام واستيراد البضائع المُصنَّعة، دونما إرادة منها في كلتا العمليتين، وهي ذات نظام تعليمي انتقائي مُزعزَع تعمل مدارسه للحفاظ على الوضع الراهن، وبنسبة عالية من الأمية، وبالأمراض، بما فيها ما يدعونه في سذاجة “الأمراض الاستوائية”، والتي هي في حقيقتها أمراض التخلف والتبعية، وبمعدلات إنذارية لوفيات الأطفال بسوء التغذية، والذي غالبًا ما يترك آثارًا لا سبيل لتقويتها على الكفاءات الذهنية، وانتظارًا لحياة هابطة، وبالمعدل العالي للجريمة.

ويجب على المرء ألا يظن، مهما كان، أن تعليم القراءة والكتابة يفوق “التوعية” في الأهمية، أو أن العكس صحيح. فالتوعية تحدث متزامنة مع محو الأمية أو تأتي بعدها. ويجب أن تكون هكذا، فالكلمة في طريقتنا التعليمية، ليست شيئًا ساكنًا أو منفصلاً عن خبرة البشر القائمة، وإنما هي بعد الثنائية (الفكر / اللغة) لديهم عن العالم.

دور المعلم هنا، هو طرح المشكلات حول الأوضاع القائمة، لمساعدة الدارسين على الوصول إلى رؤية نقدية متزايدة لواقعهم، إن مسئولية المعلم أكبر على كل المستويات. وهو نمط يختلف عن المعلم الذي يعتمد على التلقين.

هو ذات تعريف “تقف وجهًا لوجه أمام ذوات تَعرِف”، فلا يمكنه إطلاقًا أن يكون مجرد مُلقِّن، ولكنه شخص يضبط بشكل ثابت قراءاته لمعرفته، ويعمل على استجماع المعرفة من طلابه، ويشكل التعليم لديه علمًا لأصول تدريس المعرفة، أما المعلم الذي لا تعدو طريقته أن تكون مجرد الحفظ فإنما هو ضد الحوار، ولا يمكنه أن يعدل فعله في شكل المعرفة. وعلى العكس من ذلك فإن الحوار يشكل للمعلم الذي يمارس خبرة فعل المعرفة جنبًا إلى جانب طلابه إنما هو الذي يشكل الضمانة لفعل المعرفة، ومهما يكن، فهو يدرك أنه ليس كل حوار هو في حد ذاته علامة دالة على وجود علاقة المعرفة الحقيقية.

وبقدر ما تكون اللغة مستحيلة دون فكر، فإن اللغة والفكر مستحيلين دون العالم الذي يرجعان إليه، بهذا القدر تزيد الكلمة الإنسانية عن أن تكون مجرد معجم، فهي كلمة فعل. ولذا يجب أن تتضمن الأبعاد المعرفية لعملية محو الأمية: العلاقات بين الناس وبين عالمهم. تلك العلاقات هي مصدر الديالكتيك، الجدل بين المنتجات التي ينجزها البشر في تحويلهم للعالم، وبين التكيف الذي تمارسه عليهم هذه المنتجات بدورها.

ويتعين أن تكون عملية التعلم والقراءة فرصة للبشر لكي يعرفوا ما يعنيه فعلاً نطق: الكلمة: من فعل بشري يتضمن التفكير والعمل، بما يعد في حد ذاته حقًا إنسانيًا أساسيًا وليس امتيازًا لقلة، كما أوضحت في كتابي “الأبجدية للكبار”. ولا يعتبر نطقه لكلمة فعلاً حقيقيًا إن لم يرتبط في نفس الوقت مع حق التعبير عن الذات وعن العالم ومع حق الإبداع والبعث، وحق التقرير والاختيار والحق في المشاركة بشكل مطلق في العملية الاجتماعية التاريخية.

وإن كان التكيف مع العالم يعني – بالنسبة للحيوانات – إعدادها لهذا العالم، فإنه يعني بالنسبة للإنسان أنسنة هذا العالم بتغييره. إذ لا يوجد بالنسبة للحيوانات حس تاريخي ولا اختيارات أفكار أو قيم في تكيفها مع العالم، ولكن بالنسبة للإنسان هناك كلا البعدين التاريخي والقيمي. كما يمتلك البشر حس الخطة في تضاد مع النظم الغريزية للحيوانات.

التعليم في جوهره: فعل ثقافي من أجل الحرية، ولذلك فهو فعل للمعرفة لا للاستظهار. ومحو أمية الكبار خصوصًا هو فعل للمعرفة، وما يحدث بالفعل أننا نختزل ممارسة التعليم إلى عملية معقدة من الأساليب بظن ساذج بأنهما متساويان، وبذا تصبح عملية التعليم عملية بيروقراطية عديمة الجدوى.

إن التساؤلية (المقدرة على التساؤل وعدم أخذ الأمور على علاتها) هي المفتاح لإدراك الوعي، ومن ثم لاستعادة الواقع المختفي أو الغامض لأن إشكالية التساؤلية تعني كلاً من طرح الأسئلة والدعوة إلى طرح أسئلة. ولهذا فهي تعتبر موقف تحدٍ وفي نفس الوقت تعتبر البدء لفعل حقيقي للمعرفة، والبداية لتدمير “الهيمنة”، أي تدمير الممارسة المستقبلية ضد الإنسان.

يوصف العالم الثالث بأنه العالم “المتشيئ” بلا منازع: فهو العالم الذي تم “اكتشافه” وتم غزوه، وتم إخضاعه وكذلك حكمه، ثم تعليمه، وفي النهاية يغيره ويساعده الآخرون. والغرض من هذا الفعل وذلك الاهتمام المنظمين هو تهدئة العالم الثالث. ولقد ظلت تلك التهدئة تحت إحسان حكم العالم الأول، ولا تزال هي النغمة السائدة منذ عهد قريب، ولا تضطلع بآراء هذه المهمة الجديدة جيوش وخدمات مدنية فقط، بل وتضطلع بها الكنائس والجامعات.

لقد تحدثنا عن التحدي الذي يواجه أمريكا اللاتينية في هذه الحقبة من التحول التاريخي. وكلنا إيمان بأن المناطق الأخرى للعالم الثالث لا تعتبر استثناء فيما سبق لنا وصفه. هذا بالرغم من أن كلاً منها سوف يراعي دقائقه الخاصة به. الجماعات الثورية هي التي تمثل النقيض المناهض لليمين، وعلى كل، كما يجب أن يكون هناك اختلاف بين ممارسة اليمين وبين ممارسة الجماعات الثورية التي تحدد نفسها أمام الشعب. مما يجعل اختيارات كل منها اختيارات صريحة. ويتولد هذا الاختلاف بين الجماعتين من طبيعة الجماعات الثورية الطوباوية، من استحالة أن يكون اليمين طوباويًا. ولا يعد هذا التمييز تعسفيًا، ولكنه الكفيل بالإنجاز الجذري لأغراض وأشكال العمل التي تمارسها الجماعات الثورية والتي يمارسها اليمين.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: الفعل الثقافي في سبيل الحرية[الجزء السابق] 🠼 الوجود في ومع العالم[الجزء التالي] 🠼 الثورة الثقافية والفعل الثقافي
فنيس بولس
[ + مقالات ]