- الفعل الثقافي في سبيل الحرية
- ☑ الوجود في ومع العالم
- مستويات الوعي والشرط التاريخي
- الثورة الثقافية والفعل الثقافي
العالم الثالث لا يحاول التوجُّه إلى إدارة العالم الأول، حيث لا محل –كما يرى هو ومن يماثلونه – لحوار بين الأعداء. إلا أن باولو فريري يدعو القطاعات الصامِتة حتى الآن في عالم الوَفرة، أو القطاعات التي تعد، على الأقل، أكثر يقظةً في المجتمعات المُتخمة ترويضًا واستهلاكًا، يدعوهم إلى أن يعيدوا من جديد اكتشاف عالمهم الذي يعيشون فيه وأن يقوموا بمهماتهم التي يحيون من أجلها في هذا العالم.
يرى فريري أن مرور الجماهير من مرحلة الوعي شبه الجامِد إلى مرحلة الوعي شبه الانتقالي الساذج، تمثل لحظة استيقاظ الوعي لدى النخبة، ولحظة حاسِمة للوعي النقدي لدى الجماعات التقدمية.
في البداية يظهر إدراكًا هشًا لدى الجماعات الصغيرة من المثقفين الذين ما يزالون يتميزون بالاغتراب الثقافي للمجتمع كليًّا، باغتراب عزَّزه فيهم “تشكيلهم الجماعي”، ولأن التناقضات تتماثل تمامًا مع تناقضات مجتمع في مرحلة بعث انتقالي أوضح، تتضاعف تلك الجماعات وتصبح قادرة أكثر فأكثر على أن تنجز وبدقة ما يعوض مجتمعها، ويتزايد ميلها أكثر فأكثر للارتباط بالجماهير الشعبية بأشكال متنوِّعة. من خلال الأدب، الفنون التشكيلية، والمسرح، والموسيقى، والتعليم، والرياضة، والفن الشعبي. والمهم هو هذه الصلة الحميمة بالشعب والتي استطاعت بعض هذه الجماعات أن تنجزها.
وعند هذا الحد، يصبح الوعي النقدي المتزايد لهذه الجماعات التقدمية، خارجًا من مرحلة الانتقال الساذج للجماهير الناهضة، ويصبح تحديًا لوعي نُخَب السلطة.
ويجب علينا أن ننظر إلى هذا التلاعب الشعبي بالجماهير من منظور ديني، فهو من الناحية الأولى نوع لا يمكن إنكاره من الأفيون السياسي الذي يحافظ لا على سذاجة الوعي المنبعث فحسب، ولكن أيضًا على أن يظل الشعب معتادًا أن يُوجَّه من آخرين. وهو بقدر ما يستغِل، من الناحية الثانية، احتجاج الجماهير ومطالبها، بقدر ما يسارِع من عملية اكتشاف الجماهير للواقع بما يبدو متناقضًا في ظاهره،
وبالرغم من أن خروج الجماهير عن صمتها لا يسمح ببقاء الأسلوب السياسي السابق المُغلَق، إلا إن هذا لا يعني أن الجماهير أصبحت قادِرة أن تعبِّر عن نفسها ومصلحتها، وإنما هي فحسب قد اجتازت مرحلة إدراكها شبه المنغمِس إلى مرحلة إدراكها الانتقالي الساذج. أما القيادة الشعبية ذات الطابع الأمريكي فيمكننا أن نقول عنها أنها استجابة ٌكافية لحضور الجماهير في العملية التاريخية، إلا أنها قيادة متلاعِبة تتلاعب بالجماهير حيث لا تستطيع أن تتلاعب بالنُخبة.
في عملية الانتقال تظهر التناقضات على السطح، مثيرةً للصراعات التي يصبح فيها الوعي الشعبي مطلبًا أكثر فأكثر، مُسبِّبةً لحذر أكبر فأكبر في روع النُخب، وتنحفر خطوط هذا الانتقال التاريخي بحدَّة أكثر، فتلقى الضوء على التناقضات الملازمة للمجتمع التابع. هنا تنخرط جماعات المثقفين والطلاب المنتمين، وهم أنفسهم المنتمون إلى النخبة المتمايزة في الواقع الاجتماعي مع اتجاهها إلى نبذ المخطَّطات المُستَوردة والحلول الجاهزة سلفًا. وتكف الفنون تدريجيًا عن أن تكون مجرد تعبير عن الحياة السهلة للبرجوازية المرفَّهة، وتشرع في البحث عن إلهامها في حياة الشعب الشاقَّة. ويتجاوز ما يكتبه الشعراء حبهم المفقود، وتصبح حتى نغمة الحب الضائع ذاتها أقل ثمالة، وأكثر موضوعية وطقسية. لقد صاروا الآن يتناولون مجال العمل والعمال، لا كمفاهيم مجردة أو ميتافيزيقية، وإنما كأناس مجسَّدين يحيون حياة ملموسة.
وإن لم تكن الهيمنة لثقافة السكوت فإن انبثاق الوعي الشعبي يتضمن حضور الجماهير في العملية التاريخية ممارِسةً ضغطًا على نُخبة السلطة، ولا يمكن فهم هذا الوعي إلا بكونه يشكل بُعدًا لظاهرة أكثر تعقيدًا. نقصد إلى القول بأن انبثاق الوعي الشعبي، بالرغم من كونه ما يزال وعيًا انتقاليًا بشكل ساذج، فإنه أيضًا لحظة في تطور الوعي لدى النخبة السلطوية. إذ لن يوجد في بنية هيمنة “سكوت جماهير” شعبية إلا بوجود نُخب سلطة تُسكِتها، كما أنه لا نخبة سلطة بدون جماهير، وبالضبط فكما أن هناك لحظة مفاجأة بين الجماهير عندما تشرع في رؤية ما لم تكن تراه قبلاً، فهناك كذلك مفاجأة مماثِلة بين النخب في السلطة، فالجماهير تصبح مشتاقة إلى الحرية، إلى هزيمة صمتها الذي لا يفارقها، وتشتاق النخب بدورها إلى “بقاء الوضع الراهِن” بأن تسمح بتحويلات سطحية لا غير، مُصمَّمة لإعاقة أي تغيير فعلي لسلطتهم في تغيير ذواتهم.
وعندما يبدأ المجتمع المُغلَق في التصدع، كيفما كان، يصبح المُعطَى الجديد حضورًا للجماهير مليئًا بالمطالب. ولا يعد السكوت باديًا كمُعطَى غير قابل للتغيير، ولكن كنتيجة للواقع الذي يمكن، بل ويجب أن يتغير.
هذا الانتقال التاريخي والذي تعيشه مجتمعات أمريكا اللاتينية، بدرجة قد تزيد أو تنقص، يتماثل مع مرحلة جديدة للوعي الشعبي، مرحلة “الانتقال الساذج” بعد أن كان الوعي الشعبي شبه جامد، ومحدودًا ولا يلبي التحديات المرتبطة بالحاجات الحيوية. وفي عملية النهوض من السكوت تتسع قدرة الوعي الشعبي لدرجة أن يتمكن الناس من رؤية وتمييز ما لم يكن قبلاً مرئيًا في وضوح.
وتحت تأثير التغيرات التحتية التي أحدثت أول “تصدُّعات” في مجتمعات أمريكا اللاتينية، دخلت في المرحلة الحالية من التحوُّل التاريخي والثقافي بعضها أكثر كثافة من بعضها الآخر. في حالة البرازيل كحالة خاصة، بدأت هذه العملية مع إلغاء الرق وفي نهاية القرن التاسع عشر، وتسارعت خلال الحرب العالمية الأولى، وتسارعت مرة أخرى بعد كساد 1929، ثم زادت كثافتها أثناء الحرب العالمية الثانية، واستمرت بين كرَّ وبين فرَّ حتى عام 1964، عندما أعاد الانقلاب العسكري الأمة بالعنف إلى السكوت.
ومع ذلك، فما هو مهم، هو أنه بمجرد ظهور التصدعات في البنية، وبمجرد دخول المجتمعات إلى دورة تحول، بدأت الحركات الأولى للنهوض بالجماهير، الخاضعة إلى الآن والساكتة، لكي تعبِّر عن نفسها. وعلى كل حال، هذا لا يعني أن الحركات في اتجاه النهوض تحطم تلقائيًا ثقافة السكوت.
ومن ناحية أخرى، فإذا استولت مجموعة على السلطة من خلال انقلاب، كما في وضع بيرو الحالي، (وقت كتابة الكتاب) ثم بدأت تتخذ إجراءات وطنية دفاعية ثقافية واقتصادية، فسوف تخلق سياستها هذه تناقضًا جديدًا يؤدي إلى أيًا مما يلي:
أولًا، أن يتجاوز النظام الجديد نواياه ويلتزم بأن يقطع نهائيًا مع “ثقافة الصمت” على كلا الصعيدين داخليًا وخارجيًا،
وثانيًا، أن يرتد خوفًا من نهوض الشعب، ويعيد من جديد فرض الصمت على الشعب،
ثالثًا، أن تتبنى الحكومة نمطًا جديدًا من مبادئ الشعبية الأمريكية.
ولندرس أولًا التشكل الثقافي والتاريخي الذي أسميناه “ثقافة السكوت”. فهذا النمط من الثقافة هو تعبير فوقي.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟