على قمة أحد تلال الجبال الملاصقة للدير يقف شامخًا متواضعًا راهب من أحد الأديرة العامرة، واحد من أُناس الله الأتقياء الكثيرين الذين تركوا العالم واتجهوا إلى الصحراء ليتفرغوا للعبادة بعيدًا عن صخب العالم واضطراباته، هروبًا من الكثير مما قد يشغل النفس البشرية عن مسعاها الأبدي في معرفة الله والاتحاد به، وهو ما يجب أن يكون مسعى جميع المؤمنين الحقيقيين الذين وضع عليهم اسم المسيح منذ يوم خروجهم من جرن المعمودية حتى وإن لم يختاروا مسلك الرهبنة لفعل لذلك.
يقف مفكرًا بكل صدق وأمانة قلبية ووضوح، أمام الله في حوار مع ذاته عن ماضي وحاضر ومستقبل الرهبنة، التي ترك من أجلها أبيه وأمه وأخوته وشهاداته ومؤهلاته وعلاقاته، التي أحبها وأحب الله بها هو وجميع إخوته الذين حذوا طريق الأنبا أنطونيوس تاركين العالم لأهله منعزلين لعبادتهم وصلواتهم وعمل يديهم، ولكن سرعان ما تغيرت تلك الصورة التي عرفها عن الرهبنة والأديرة مما أدى إلى انحراف البوصلة عن اتجاهها المنشود.
يتذكر كيف ترك هو وأخوته من الرهبان ميراثهم الأرضي من آبائهم وعائلاتهم بالجسد واختاروا الميراث السماوي، وبعد كل ذلك البعد الاختياري عن العالم، يزج المجتمعُ القبطيُ براهب مثله أو أب له في لجان واجتماعات لصياغة مواد دساتير وقوانين تنظم الميراث! يصاب بالسأم والضيق مما آل إليه الحال وأصبحت عليه الأمور.
يزيد فوق همه همًا عندما يتذكر كيف هرب هو وإخوته من كل حروبهم الجنسية التي يحاربهم بها عدو الخير ورغم هذا الأمر الجلل يصر الشعب القبطي دون أي أدنى إحساس بخطورة الأمر على تدخل الرهبان في كل أمور الزواج والطلاق، بل والتشريعات الخاصة بها. وأصبح ما قد يظنه الجميع سخرية أو مزحه هو واقع نعيشه، أن من ترك ميراثه سيشرع للمسيحيين أمام الدولة كيف يتقاسمون الميراث.
وأن من تبتل وترك الزواج سيشرع لنفس الجموع ما يتعلق بعقد زواجهم بل وشروط انفساخ عقدهم وكل تلك الظروف المحيطة بالأسباب التي قد تؤدي لانفساخ العقد أو بطلانه كالزنا أو تغيير الملة أو الهجر الطويل أو الكثير من الأسباب الأخرى، وأن من ترك العالم بمشكلاته وخلافاته سيرسمونه أسقفًا يدير لهم شئون إيبارشيتهم ويعيش وسطهم في عالمهم، وأسرهم تاركًا ديره ورهبنته وعزلته عن صخب العالم، وسيعيش وسط كل تلك الظروف والمحاربات حتى دون شريكة حياة، تُرى هل يَقبل هذا الشعب الصُّلْب الرقبة بأن يكون أسقفهم متزوجًا كما قال بولس الرسول؟
تتداخل الأفكار وتتشابك وتتعقد في ذهن أبينا الراهب في وحدته أعلى تلك التلة ويشتَم رائحة الهواء النقي بعيدًا عن هواء المدينة الملوث، يسأل متعجبًا، ما الذي جعله وهو راهب يفكر في كل تلك الأمور؟ ميراث، زواج، طلاق، بطلان، جنس، أسقف متزوج، يا للهول! ما تلك المصيبة التي فعلتها جموع الأقباط بإقحام هؤلاء المتبتلين تاركي العالم في كل هذه الأمور؟
بينما يتغنى جموع الأقباط بأي مصلح غير مسيحي ينادي بالدولة العَلمانية التي تفصل الدين عن الدولة والقوانين والحكم، يفعلون عكس ذلك تمامًا فيما يخص دينهم في تناقض فج واضح وضوح قرص الشمس في كبد السماء نهار الصيف.
تمر الأفكار متكدسة واحدة تلو الأخرى تاركة خلفها الذهن عاصف، والأسئلة غير مجاب عنها، لمَ يُعثِّر العلمانيون صفو حياة الراهب وأخوته ممن تركوا العالم باعترافاتهم المعثرة هم وبنيهم وبناتهم وزوجاتهم! لمَ انتقلت جُل مراسم احتفالات الأقباط إلى الأديرة من خطوبات ومعمودية وخلافه! ألا يعلم هؤلاء العلمانيون كم العثرات التي من الممكن أن يسقط بها الراهب، يتأوه متألمًا عندما يتذكر الكثير مما هو غير مكشوف عنه ومن الأفضل أن يظل كذلك، مما حدث مع العديد من إخوته الرهبان.
يلوح في الأفق أمام أبينا الراهب طائر بعيد يطير وحيدًا، ينظر الراهب إلى الأرض ثم يملأ صدره بشهيقٍ بطيء ويزفره سريعًا، يتذكر أخر حوار مع أبيه الروحي خاصة بعدما رفض لمرات هذا عددها ترشيحات لذلك المنصب المرموق في تلك الإيبارشية المعروفة.
يحلم باليوم الذي يتم فصل الأسقفية عن الرهبنة وتُركه هو وأخوته الرهبان في كل الأديرة لما قد كرسوا حياتهم لأجله. يود أن يصرخ بأعلى صوتٍ قائلًا لجموع الشعب “أتركونا في أديرتنا لعباداتنا وتسبحاتنا وصلواتنا، أتركونا في سماءنا، بعيدًا عن ضوضاء العالم”.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟