توقف بعضنا كثيرًا أمام شخصية الرجل اللبناني “نشأت عبد النور” مدعي النبوة، ولجأنا إلى السخرية كسلاح مضمون النجاح في التنكيل بالفكر الذي روجه النبي الجديد، ودعوته الإلهية التي استثنى منها المصريين بعدما ضاق ذرعا من عدم ملاحقة نكاتهم وتعليقاتهم الساخرة، التي حالت دون أخذ الموضوع برمته على محمل الجد.
لكننا بحاجة إلى وقفة مع النفس، ومراجعة لما نقوم به نحن كمسيحيين من صناعة وتنجيم أشخاص، ووضعهم في مرتبة لا تزاحم مكانة الأنبياء فقط، بل تصل نجوميتها عنان السماء وهم لا شيء؛ فكّر معي عزيزي القارئ: هل نحن بالفعل ليس لدينا عالم خاص من «النشأتات» إن جاز التعبير عنه بالجمع؟ ولماذا رفضنا “نشأت”؟ هل لادعاءه النبوة بشكل صريح أم لأننا نرفض من يجعل من نفسه وصيا علويًا علينا؟
في تقديري أن الأخيرة نمررها طوال الوقت، إذ نرتضي بأوصياء، ونصنع قديسين، وأنبياء، وآلهة أيضًا.
يخاطب المسيحي -في نسخته الحديثة- الله خلال صلاته كصديق ودود، ويحث أبناؤه على رفع جميع الحواجز اللغوية الجامدة تجاه الإله الذي تنازل وأخذ صورتنا البشرية، معددًا مميزات هذا الإله غير المتعالي عن حياتنا، بينما في الوقت نفسه يطلق ألقابًا لا حصر لها على آباء وبطاركة الكنيسة بداية من سيدنا، نيافة، الحبر الجليل، قداسة، الأب المعظم، أب الآباء، جناب القس، أبي القديس، وغيرها من ألقاب تتشابه مع النمط المتبع منذ عصور قدماء المصريين حتى الحكم الروماني، حين كان اللقب الملكي الكامل لفرعون يتألف من 5 أسماء متوالية، كمبالغة في التفخيم الدنيوي وتعبيرًا عن السلطة والقوة المقدسة.
هذه ليست مجرد كلمات عابرة، بل يتبعها نمط حياة كاملة يجعل الأشخاص العادية: “آلهة”، مكتوب عليها: “ممنوع الاقتراب”، فمهما حاولت إقناع هذا الإنسان المسيحي الغارق في التعاملات المنسحقة مع آباء الكنيسة، بأنه يحق لنا كأفراد مراجعة ما يقوله رجال الدين، وأنه لا حدود أمام العقل والتساؤلات وعلى أصحاب النيافة الرد والقبول لطالما أنهم اختاروا سلك هذا الطريق الذي يجعلهم في صدارة المشهد، لن يقتنع بذلك، وسيفاجئك بمستوى أعمق من الخنوع المغلف بكلمات تبدو في ظاهرها روحانية مثل: لا تدين أحد، ابن الطاعة تحل عليه البركة، ونحن علينا قبول ما يقوله لنا القديسون وأصحاب الحل والربط، وربما يلكم وجهك بالعبارة الأكثر انتشارًا بين الأجيال السابقة: “ابتعد عمن يرتدي جلابية سودا وإلا حرقتك نارها”، ليغلق عليك أي فرصة للجدال أو مراجعة الأفكار.
هذا النمط من الخنوع لا يتوقف عند حد معين وليس له سقف، التمجيد المبالغ قد يكون لكتاب، أو فكرة، أو شخص، أو مكان، أو حتى للمعجزات الشعبوية الخارقة المعبأة في كتيبات، والتي يتم تداولها في المكتبات الكنسية ولا يقبلها طفل لديه القليل من التعقل، لكن هذا الإنسان المسيحي المحترف في صناعة “نشأت” يقبلها دون مراجعة، بل ويجدها وسيلة فعالة لكسب أرضية صلبة من البشر في صفه.
خلال زيارتي مع إحدى قريباتي لطبيب نفسي له شعبية جارفة في الأوساط المسيحية، كلما ذكر الطب النفسي ذكر اسمه، جدوله الأسبوعي مقسم بين الظهور على القنوات المسيحية والحديث في الاجتماعات الكنسية، وكتابة الكتب النفسية المتداولة كنسيًا، بخلاف السفر والتنقلات داخل مصر وخارجها، مما جعل أخذ موعد منه مهمة شبه مستحيلة.
وبعد نجاحنا في الحصول على ميعاد، وصُدمنا من ثمن الكشف المرتفع الذي لا يتناسب مع أحاديثه المنطلقة من مبادئ روحانية، لكن قلنا في النهاية هذا عمله وأجره وهو الذي يحدده، لا أزمة في ذلك، لكن ما كان صادمًا أكثر أن المقابلة لم تكمل 5 دقائق، وصف فيها حالة قريبتي باكتئاب حاد، وكتب أدوية خطورة أعراضها الجانبية تصل حد التفكير في الانتحار، دون أن يخطرها أو ينبهها بذلك.
بعدها ساءت حالة قريبتي حتى تابعت مع طبيب آخر أوقف كل الأدوية التي كتبها الطبيب المسيحي الذي تمتلئ عيادته بصور القديسين وكتيبات معجزاتهم كأي تاجر شاطر صنع لنفسه صنمًا على أيدي العقليات التي تٌعلي مراتب من يخدرهم باسم الدين، كي يتمكن من بيع الوهم في زجاجات أو روشتات طبية لا فارق إذن.
حتى نحن أنفسنا كذبنا ما رأيناه، فهو على مدار سنوات يحتل مكانة تشبه القديسين، أو لنقل تشبه “نشأت” الذي نصنعه بأيدينا كل يوم، بكنائسنا تارة، بانغلاقنا على أنفسنا وأنشطتنا وأفكارنا وحتى أطبائنا، وتارة أخرى بعزل وانتقاد من يراجع تلك الأفكار، واعتباره خارجًا عن المألوف والنظر له بفوقية الأتقياء للخاطئين.