في فصل “الله: غضوب؟”، تباحثنا في حقيقة أن الله غير خاضع للأهواء. ولكن لا بد من موازنة ذلك بفهم وجود وعمل الله في الخليقة. فكون الله بلا هوى لا يعني أن حياتنا صارت متروكة للصدف. حاشا! فدور الله يمتد لما وراء خلق الإنسان لأن حصر دور الله في بدء الخلق يجعلنا مؤمنين بنوع من الربوبية [1] حيث يصير الله مجرد قوة خلق مجردة بدون أن يكون فيه قدرة على إقامة علاقة شخصية مع الإنسان والخليقة ومثل هذا الإيمان لا وجود له في المسيحية. فوجود الله في الخليقة هي الطريقة التي يعمل بها في الخلق وتقديم العناية لنا ولسائر الخلائق. من اللازم أن نفهم أن العناية لا تتطابق مع القدرية لأن مثل هذا الفكر بعيد كل البعد عن روح التعاليم المسيحية. يقول ق. يوحنا ذهبي الفم:
من هم الذين يجدفون على الله؟ هم الذين يضعون حتمية القدر فوق حكمة العناية الإلهية… إن الذين سجدوا للمسيح، واستحقوا أن يعرفوا أسرارًا كثيرة، وعرفوا عقائد الحق والحكمة التي أتت إليهم من السماء واستمتعوا بحياة وهبها لهم الله، ثم انزلقوا إلى الإيمان بالتواكل والقدرية يكونون قد دمروا أنفسهم بإرادتهم ورفضوا بغباء شديد الحرية الممنوحة لهم من الله(ق. يوحنا ذهبي الفم، التواكل والقدرية والعناية الإلهية – ترجمة د. جورج عوض إبراهيم – مركز الدراسات الآبائية، 2014 – صـ 20)
وتوسع الآباء في مفهوم العناية الإلهية مستخدمين العظات المكتوبة والأمثلة. فيقول ق. كليمنضس السكندري:
“فكما أن الفأس لا يقطع إلا إذا استخدمه شخص ما، أو المنشار ما لم يستخدمه أحد، لأنهم لا يعملوا من تلقاء ذاتهم، بل لهم خصائص مادية طبيعية فيتمموا عملهم بقوة المستخدم؛ كذلك بواسطة عناية الله الفائقة، وبواسطة الأسباب الثانوية، فالقوة العاملة تعمل بالتتابع في سائر الأشياء”
(ق. كليمنضس السكندري، كتاب مدرسة الإسكندرية – الكتاب الأول: ما قبل أوريجانوس، للقمص تادرس يعقوب ملطي – إصدار كلية البابا شنودة الثالث اللاهوتية، أستراليا، 1995 – صـ 347)
وعلى الرغم من أن العلامة أوريجانوس لا يعد من آباء الكنيسة اللاهوتيين، إلا أنه سار في خطوات من سبقه في مدرسة الإسكندرية بخصوص مسألة العناية الإلهية. يقدم أوريجانوس رؤى جديدة فيما يخص مدى عناية الله حتى وسط الشر، فيقول:
الله لم يصنع الشر، ولا يمنعه حين يصنعه الآخرين، على الرغم من قدرته على ذلك. فبواسطة هؤلاء الذين فيهم الشر، يجعل السائرين نحو اقتناء التقوى أكثر شهرة واستحقاقًا للمديح. فلو أن الشر اختفى سوف لا يوجد ما يقف مقابل الخير، والخير، إن لم يكن له ضد، لا يستطيع أن يشع بنوره العظيم اللمعان وما استطاع أن يبرهن على سموه(أوريجينوس، كتاب مدرسة الإسكندرية – الكتاب الثاني: أوريجانوس، للقمص تادرس يعقوب ملطي – إصدار كلية البابا شنودة الثالث اللاهوتية، أستراليا، 1995 – صـ 393)
فالله ليس هو سبب الشرور ولكن كونه ضابط الكل (البانتوكراطور) فهو قادر على توظيف الشر لتحقيق الصلاح في النهاية. يلخص القمص تادرس يعقوب ملطي الفكر السكندري الخاص بالعناية الإلهية في الكلمات التالية:
آمن [لاهوتي مدرسة الإسكندرية] بعناية الله بصورة كتابية؛ أي أنها احتوت الخليقة بشكل عام والإنسان بشكل خاص. فهي تفوق الزمان والمكان، فهي دامت مهتمة بالإنسان حتى من قبل خلقته، أي قبل وقت خلقته حين كان في فكر الله، وتظل تعتني به وستظل تحتضنه إلى الحياة الأبدية، أو في الدهر الآتي. العناية الإلهية تعتني بالمؤمنين وغير المؤمنين والطبائع غير العاقلة. ويستعلن هذا بواسطة الأحداث المفرحة وخلال الشر والأحداث المحزنة(القمص تادرس يعقوب ملطي، مدرسة الإسكندرية – الكتاب الأول: ما قبل أوريجانوس، صـ 346)
خاتمة اﻷساسيات النظرية:
قوة الله خلقت العالم من العدم. لكن قوته لا تقف أمام حرية إرادتنا التي تختار الشر حتى لو كان هذا يعني أننا نصير غرباء عنه. فصلاحه يحتم أن غضبه يختلف عن غضبنا، بل حتى خبرة الوقوع تحت تأديبه هي في النهاية لفائدة الإنسان. وبهذه الأحكام الإلهية، أصبحت العلاقة بين الله والإنسان والخليقة في حالة من النظام. قبل السقوط، ظل هذا النظام في حالة من الانسجام. لكن السقوط أثر على هذا النظام، وجعل العلاقة بين الإنسان والخليقة ضارة فلم يعد الإنسان قادرًا على القيام بدوره كوسيط بين الله والخليقة. بواسطة النعمة الإلهية، تم رد الإنسان مرة أخرى بتجسد الكلمة الذي صار وسيطًا بين الآب من ناحية والخليقة بشكل عام والإنسانية بشكل خاص من الناحية الأخرى. وبالتجسد، تم استعلان الله لنا فعرفنا أن الله ثالوث وصرنا عارفين بمحبة الله تجاه البشرية.
علاوة على ذلك، فالتجسد سمح لنا أن نقبل الصورة التي شوهناها مرة أخرى والروح الذي فقدناه عاد ليسكن فينا مرة أخرى. لذا فالعلاقة الإلهية-الإنسانية لا بد من فهمها في ضوء السنرجيا [2] حيث يقدم الله عنايته الإلهية ويرد الإنسان بطاعته للوصايا الإلهية. اشترك الكثير من القديسين في هذه السنرجيا وقبلوا مواهب شفاء تحكموا فيها بقوى الطبيعة لأجل مجد الله. العالم المادي الذي سقط بات قادرًا على نقل الحياة الإلهية لنا في حياة الكنيسة السرائرية (المياه تنقل التجديد في المعمودية، والخبز والخمر ينقلا لنا الحياة الإلهية في الإفخارستيا، إلخ). وفي ضوء هذا الاستعلان وهذا التدبير الإلهي الخاص بالتجسد، كما تقودنا الكتب المقدسة والتقليد الكنسي، يستطيع المرء أن يبدأ في فهم العناصر عسرة الفهم الموجودة في الكتاب المقدس مثل أحداث القتل الجماعي والكوارث الطبيعية مثل الطوفان العظيم وسدوم وعامورة، إلخ.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
كاتب وباحث دكتوراه اللاهوت اﻷرثوذكسي بكلية الثالوث، تورونتو - بكالوريوس الدراسات الدينية، ماكماستر