كل ما نعرفه عن الثالوث القدوس يكمن في استعلان التجسد الذي به صار ابن الله إنسانًا ومشى بيننا على الأرض. ففي خضوع المسيح للمعمودية، ثلاثة أقانيم الثالوث استُعلنوا وصاروا معروفين للبشرية. والعلاقة بين الآب والابن هي موضع تركيز كلمات المسيح في إنجيل يوحنا. فعلاقة يسوع بأبيه تصبح الباب الذي من خلاله ندخل في علاقة مع الثالوث أو بالحري نصير منسوجين في الثالوث بحسب تعبير ق. أثناسيوس. يعد يوحنا 17 بداية جيدة لفهم علاقة الآب بالابن في سياق التجسد. يؤكد يسوع أن علاقته بالآب هي علاقة مجد مشترك. الآب يُمجد الابن بينما يمجد الابن أبيه (يوحنا 17: 1-5).
يرى الآباء الكبادوك أن المجد المشترك بين الآب والابن هو أقنوم الروح القدس. فبعد صلاته من أجل تلاميذه، يبدأ يسوع في الصلاة من أجل المؤمنين ويقول:
ولست أسأل من أجل هؤلاء فقط، بل أيضًا من أجل الذين يؤمنون بي بكلامهم، ليكون الجميع واحدًا، كما أنك أنت أيها الآب في وأنا فيك، ليكونوا هم أيضًا واحدًا فينا، ليؤمن العالم أنك أرسلتني. وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني، ليكونوا واحدًا كما أننا نحن واحد. أنا فيهم وأنت في ليكونوا مكملين إلى واحد، وليعلم العالم أنك أرسلتني وأحببتهم كما أحببتني. أيها الآب أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون أنا، لينظروا مجدي الذي أعطيتني، لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم. أيها الآب البار، إن العالم لم يعرفك، أما أنا فعرفتك، وهؤلاء عرفوا أنك أنت أرسلتني. وعرفتهم اسمك وسأعرفهم، ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به، وأكون أنا فيهم.(يوحنا 17: 20-26)
فمن الواضح أن هناك علاقة حميمة بين الآب والابن وأننا مدعوون للشركة في هذه العلاقة لنكون واحدًا فيهم. فأن نكون في المسيح هو أن نشترك في جسده، أي الكنيسة المنبثقة من جنبه المسكوب منه ماء، رمز المعمودية، ودم، رمز الإفخارستيا. وعلى الرغم من أنه شيء رائع أن نكون في المسيح وأن نكون أقرب إلى الآب إلا أنه من اللازم أن نعرف، نحن البشر، هذا المسيح الذي دُعينا للشركة فيه.
كمسيحيين، نعرف أن المسيح هو أحد الثالوث الذي انحدر من علو السماء وتجسد من الروح القدس ومن العذراء مريم صائرًا إنسانًا مثلنا في كل شيء ما خلا الخطية وحدها. في إنجيل مرقس، يُعرف المسيح لأول مرة كابن لله بواسطة إنسان وهو جثة هامدة معلقة على الصليب [1]. ففي أقصى حالات الانكسار الإنساني الأتية كنتيجة للموت، نسمع شهادة قائدة المئة أن المسيح المصلوب هو الله. فهوية المسيح كإله كامل وإنسان كامل تتجلى أمامنا في آلامه وموته.
يسرد سفر التكوين قصة الخليقة إلا أنه يتركها بلا نهاية واضحة، فلا نسمع على سبيل المثال رأى الله الإنسان الذي خلقه وإذ الإنسان حسن جدًا
أو انظروا هوذا الإنسان حسن جدًا.
فقط في إنجيل يوحنا، نسمع على لسان بيلاطس البنطي وهو يشير إلى المسيح قائلًا: هوذا الإنسان!
(يوحنا 19: 5). وفيما بعد، نسمع المسيح من الصليب معلنا إتمام خلقة الإنسان في قوله قد أُكمل
(يوحنا 19: 30). فكمال خلقة الإنسان لا يُرى إلا في شخص المسيح المصلوب والمتألم الذي في آلامه ننظر قوة لاهوته. لذا يعتبر يسوع هو الإنسان الكامل. وبسبب كماله كإنسان وسلطان لاهوته كإله، يتخذ الدور الُمعطي في البداية للإنسان كوسيط قادر على التحكم في الخليقة بدل من أن تتحكم فيه الخليقة. فنرى المسيح يشفي المرضى ويمشي على المياه، ويهدئ العاصفة ويقيم الموتى ويقوم من بين الأموات بقوته الذاتية. وفي كل هذه المعجزات، يظهر لنا لاهوته وناسوته معًا.
يقدم ق. ساويرس الأنطاكي حادثة مشي المسيح على المياه كمثال لتوضيح هذه النقطة فيقول:
وهو يصنع الأعمال الإنسانية بطريقة فوق الإنسانية: فبطريقة منزهة يقدم عناصر الطبيعة بطرق جديدة. فمن الواضح أن المياه غير ثابتة ولا يمكن أن تحتمل أو تدعم وزن الأقدام الأرضية المادية. ولكن بقوة فوق الطبيعة، يُقدمها خاضعةً. فلو أنه بأقدامه غير المبتلة ذات الوزن الجسدي المادي، سار على المياه ذات المادة غير الثابتة سائرًا فوق المياه كما لو أنها أرض مرصوفة، فهو يبين لنا بهذا العبور أن أعماله الإنسانية غير منفصلة عن قوة لاهوته.(ساويرس الأنطاكي، ترجمة أندرو لاوث، عالم اللاهوت، كتاب: “مكسيموس المعترف”، روتليدج، 1996، ص 289)
في التجسد، طريقة الوجود اللاهوتية وطريقة الوجود الإنسانية اتحدتا في شخص المسيح الواحد الذي فيه نشترك بسبب ناسوته المساوي لناسوتنا. هذا يسمح لنا بأن نصير أبناء متبنين للآب وشركاء للطبيعة الإلهية. كما يقول ق. أثناسيوس:
صار الله إنسانًا كي يصير الإنسان إلهًا.(أثناسيوس، تجسد الكلمة، فقرة 64)
فصيرورة الله إنسانًا لا تعني تغير أو تحول في طبيعته اللاهوتية لطبيعتنا البشرية. فالفعل “صار” هنا يعني الاتحاد. ففي النصف الأول من الجملة: “صار الله إنسانًا” تعبر عن الوحدة الطبيعية التي فيه اللاهوت والناسوت يجتمعا معًا بلا اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير في الأقنوم المركب الخاص بالكلمة المتجسد. أما النصف الثاني من الجملة: “كي يصير الإنسان إلهًا” يعبر عن وحدتنا مع الله الناتجة عن نعمة التبني. الوحدة الثانية (أي وحدتنا مع الله) تُشبه وحدة الزيجة حيث يصير الرجل والمرأة جسدًا واحدًا على الرغم من احتفاظ كل منهما بطريقة وجوده وأنهما يظلا أشخاصًا مختلفين.
وبالعودة للعلاقة مع الخليقة، نرى طريقًا جديدًا قد انفتح أمامنا في المسيح لنستعيد السلطان المُعطى لنا من الله على الخليقة. بالفعل، استطاع بعض القديسين أن يصنعوا المعجزات مثل ق. البابا كيرلس السادس أو مصاحبة الوحوش مثل ق. برسوم العريان الذي عاش مع حية في قلايته.
وعلاوة على ذلك، يقول المطران باولص مار غريغوريوس من الكنيسة السريانية الهندية الأرثوذكسية:
الإنسان في المسيح يخلص العالم: فهو يعيد الخليقة لله لتمتلئ بمجده [أي الله](باولص غريغوريوس، الحضور الإنساني، الروحانية البيئية، وعصر الروح – صـ 65)
وبطريقة أخرى، يمكننا أن نقول أنه كلما لاحظنا مكانتنا في الخليقة كوسطاء بين الله والخليقة، كلما استعدنا ميزة وجودنا في المسيح، وكلما استطعنا أن نعيد العالم إلى هدفه المنشود.
وكوننا صرنا أبناء الله بالتبني من خلال التجسد، الآب لا يعد يرانا بمعزل عن الابن كوننا في المسيح. فنحن بالفعل صرنا لحم من لحمه وعظم من عظامه (أفسس 5: 30). وبالتجسد، يصير البكر بين أخوة كثيرين (رومية 8: 29) وبكر كل الخلائق الذي يصالح كل شيء لنفسه (كولوسي 1: 15و 19).
يعلق الشهيد الأنبا إبيفانيوس -نيح الله روحه- على هذه الآية في كولوسي، فيقول:
المسيح يُعلن باعتباره الصورة المنظورة لله غير المنظور وكأصل كل خليقة، سواء مادية أو غير مادية. فهو أساس الخليقة وكل الخليقة تعتمد عليه… المسيح يظهر كالوسيط الذي به تتصالح الخليقة مع خالقها(إبيفانيوس المقاري، خلاصًا هذا مقداره – صـ86)
كذلك يؤكد ق. يوحنا ذهبي الفم على كون المسيح أخ لنا بسبب التجسد فيقول:
ولذا يقول:هو لا يستحي من أن يدعونا أخوة–قائلًا أنه سيعلن اسمه لأخوته.لأنه حين لبس جسدًا، لبس الأخوة أيضًا، وفي نفس الوقت صار في أخويتنا(يوحنا ذهبي الفم، سلسلة أباء نيقية وما بعد نيقية، فيليب تشاف – السلسلة الأولى، الجزء الـ14، صـ 720)
وفي كلمات ق. يوحنا ذهبي الفم، نسمع صدى كلمات ق. أثناسيوس الذي قال:
وبهذا يتبين قول الرسول:أنه صارلا تعني أن الكلمة مخلوق، بل تعني أن الجسد الذي اتخذه كان كجسدنا وبالتالي فهو يُدعى أخًا لنا كونه صار إنسانًا(أثناسيوس، ضد الأريوسيين – المقالة الثانية 14، 10)
وأكثر من ذلك، فبالرغم من قول الله قبل التجسد مجدي لا أعطيه لأخر في إشعياء 42: 8 إلا أنه في المسيح يعطينا مجده كنعمة إضافية يسكبها علينا على الرغم من عدم استحقاقنا (يوحنا 17: 22). الله لم يعد يرانا بعد كـ”آخر” بل بالحري كأعضاء في ابنه الحبيب. فصوت الآب في الأردن قائلًا: أنت هو ابني الحبيب الذي به سررت
كان موجهًا للابن، ولكن باتخاذ الإنسان مكانه في المسيح، تصير هذه الكلمات منطبقة عليه كابن للآب بالتبني.
وحين اضطهد شاول الكنيسة واستوقفه المسيح على الطريق لدمشق، لم يقل له المسيح: “لماذا تضطهد الكنيسة؟” بل بالحري قال له المسيح: لماذا تضطهدني؟
فالكنيسة، كونها جسده، لم تعد غريبة عنه. لهذا، فإنه واجب الكنيسة السامي أن تنشر رسالة إنجيل الإيمان والرجاء والمحبة: حتى تستطيع الإنسانية أن تقبل التبني للآب في المسيح. وفي ختام هذا الفصل، علينا أن نؤكد أننا حين نتكلم عن أبوة الآب فهذه الأبوة على الرغم من كونها حقيقية إلا أنها تختلف عن أي أبوة أرضية يمكننا تخيلها. فالطريقة التي نتكلم بها عن الله مهمة جدًا في البحث اللاهوتي كما سنرى فيما بعد.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
كاتب وباحث دكتوراه اللاهوت اﻷرثوذكسي بكلية الثالوث، تورونتو - بكالوريوس الدراسات الدينية، ماكماستر