المقال رقم 2 من 13 في سلسلة الله اﻷب أم الطبيعة اﻷم؟

يبدأ الكتاب المقدس بقصتي الخليقة اللتين فحصهما أباء الكنيسة ووصلوا للحقائق التالية:

الله خلق كل الأشياء المنظورة وغير المنظورة، وخلق كل الأشياء من العدم، وخلق كل شيء بالابن خلال الروح القدس. بالتأكيد، لم تورد هذه الحقائق بالنص في الكتاب المقدس بل بالحري جاءت كتفسير من الآباء الذين تأملوا الله في الكتب المقدسة. الله، كونه خالق كل الأشياء المنظورة وغير المنظورة، هو الوحيد الذي يستطيع أن يعيد خلقة الإنسان الساقط والعالم الساقط. الله، حين خلق كل الأشياء من العدم، لم يحتاج لوجود مادة سابقة الوجود ليخلق بواسطتها العالم كما ظن بعض الفلاسفة في القديم. بل بالحري، هو جلب كل الأشياء من العدم دون الحاجة لشيء خارج ذاته.

إن استخدام صيغة الجمع في العبرية هلم نخلق الإنسان (تكوين 1: 26) لم يعني اليهود في شيء كونهم رأوا أن هذه الصيغة إما أنها صيغة تعظيم للخالق أو أن الخالق كان يتشاور مع جمع من الملائكة قبل أن يبدأ في خلقة الإنسان [1]، إلا أن المفسرين المسيحيين رأوا في صيغة الجمع ثلاث أقانيم : الآب والابن والروح القدس خالقين معًا في وحدة الألوهة. ففي عقيدة الثالوث، وحدة العمل تعكس وحدة الإرادة التي بدورها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بوحدة الجوهر الإلهي.

أما عن طريقة الخلق، قدم الآباء أراء مختلفة. قدم البعض تفسيرًا رمزيًا مثل ، والعلامة السكندري، وق. أسقف هيبو، بينما اتخذ البعض الآخر طريقة حرفية مثل ق. الكبير. فسواء كانت كلمة “يوم” تعني أربعة وعشرين ساعة أو حقبة زمنية، فهذا لم يكن موضع اهتمام الكنيسة بالقدر الذي يجعلها تضع رأيًا نهائيًا في هذا الموضوع. هذا يوضح أن هذا السؤال لا يؤثر على الخلاص، الأمر الذي يعد هدف الكتاب المقدس والكنيسة.

على الصعيد الأخر، يمكن لكل الآباء أن يتفقوا على أن الله خلق العالم لأجل الإنسان وأن الإنسان بدوره يعد وكيل الخليقة. فمن الأفضل أن تُقرأ الثلاثة إصحاحات الأولى من سفر التكوين في إطار العلاقة الثالوثية بين الله، والخليقة، والبشرية.

قصة الخليقة الأولى في التكوين لها صدى إنشاء المعابد الوثنية في القديم حيث كان يُعد كل شيء استعدادًا لوضع صورة الإله أو الوثن في وسط المعبد حيث يُكرس المعبد لعبادة هذا الإله. بطريقة مشابهة، نرى الله يخلق السماء كسقف ويفصل بين اليابسة حيث يقف الشخص والمياه حيث يتطهر الشخص قبل العبادة في المعبد، وأخيرًا نرى صورته في الإنسان موضوعًا في الوسط.

في القصة الثانية، نرى العلاقة بين الإنسان والخليقة في أن الله قدم الحيوانات ل ليعطيها أسماء. في العالم القديم، كان تسمية الشخص يعد نوع من خلق هُوِيَّة جديدة لهم. فحين غير الله اسم إبرام لإبراهيم أو ساراي لسارة أو سمعان لبطرس، كان يلقي الضوء على جانب جديد أو هُوِيَّة جديدة سيتبناها الشخص من ذلك الوقت فصاعدًا. لهذا، أنعم الله على آدم بميزة أن يكون له شركة في الخلق معه بأن يخلق هُوِيَّة للحيوانات غير العاقلة بتسميته إياهم. ويمكن أن نفهم علاقة الإنسانية بالخليقة بطريقة أخرى في كلمات الله لآدم و:

وباركهم الله وقال لهم: «أثمروا واكثروا واملأوا الأرض، واخضعوها، وتسلطوا على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدب على الأرض”. وقال الله” إني قد أعطيتكم كل بقل يبزر بزرًا على وجه كل الأرض، وكل شجر فيه ثمر شجر يبزر بزرا لكم يكون طعامًا. ولكل حيوان الأرض وكل طير السماء وكل دبابة على الأرض فيها نفس حية، أعطيت كل عشب أخضر طعامًا.

(تكوين 1: 28-30)

فمن ناحية، أُعطيت الإنسانية سلطان وسيادة على الخليقة، بينما من الناحية الأخرى، يعتمد الإنسان على الخليقة ليحيا. فالعلاقة بينهما هي علاقة اعتماد متبادل فتعتمد الخليقة على الإنسانية من لتجد هويتها ونظامها وتعتمد الإنسانية على الخليقة من أجل الطعام والبقاء. عظمة الإنسانية بالمقارنة بالخليقة في معادلة الاعتماد المتبادل تكمن في كون الإنسانية هي صورة الله التي تنقل لنا الحضور الإلهي. على عكس ما قد يظنه الكثيرين، إلا أن الله لم يخلق الإنسان ليلتقي تأثير قُوَى الخليقة عليه. بل بالحري، خلق الله الإنسان وسكن فيه بصورته وبنفخة روحه القدوس في أنفه ليكون الإنسان هو الكائن الأولي الذي يؤثر على باقي الخليقة.

ففي خطة الله لخلق الإنسان لإتمام هذا الدور، خلقه الله ككائن مركَب من جسد مرئي مشابه لجسد الحيوان يشترك به مع الحياة البيولوجية الخاصة بالحيوانات ونفس عاقلة غير مرئية يشارك بها الحياة الإلهية والكائنات السمائية. فبنفسه التي تشترك مع الله، يستطيع الإنسان أن يقدم للخليقة فكرة عن الله غير المنظور. وبجسده، يقدم الإنسان الخليقة المنظورة أمام الله كشفيع ووسيط بين الله والخليقة. سيصبح السقوط فيما بعد سببًا في تغير هذه الحالة الكاملة التي أرادها الله للإنسان.

هوامش ومصادر:
  1. الكتاب المقدس اليهودي الدراسي، تكوين1. [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: الله اﻷب أم الطبيعة اﻷم؟[الجزء السابق] 🠼 الله اﻷب أم الطبيعة اﻷم؟ <br />من طوفان نوح حتى كوفيد١٩[الجزء التالي] 🠼 [۳] الله كآب والابن كأخ
[۲] الله كخالق 1
معيد بكلية الثالوث، تورونتو في الأكاديمية البطريركية، تورونتو  [ + مقالات ]

كاتب وباحث دكتوراه اللاهوت اﻷرثوذكسي بكلية الثالوث، تورونتو - بكالوريوس الدراسات الدينية، ماكماستر