المقال رقم 1 من 1 في سلسلة أقوال المؤرخين في صلب يسوع
«( أقوال المؤرخين في صلب يسوعwp-content/uploads/2025/03/أقوال-المؤرخين-في-صلب-يسوع.jpg
  • لماذا التاريخ ولدينا النبوات؟

صَلب يسوع على أيدي الرُّومان هو أحد أكثر الحَقائق ثبوتًا عن حياته… إن حاوَل أحد الدَّارسِينَ أن يشرح حياة يسوع بطريقة لا تفسِّر موته، يجب إذًا أن يكون هذا هو المُؤشِّر الأوَّل على أنه يوجَد شَيءٌ مَا خَاطئ. [1]

(Bart D. Ehrman, Why Was Jesus Crucified)

حتى القرن الثاني الميلادي، لم يكن السؤال عن مصير يسوع [2] مطروحًا للجدل. على مدار القرن الأول، كان المتعارف عليه بين المسيحيين أن مؤسس جماعتهم مات مصلوبًا على أيدي الرومان وبسبب شكوى اليهود عليه. هذه كانت حقيقة مُسلَّمًا بها وليست محل جدل.

بنهاية القرن الأول، ومع التوسع في مناقشة هوية يسوع، ظهرت جماعات تُقدم تصورًا ليسوع كإله ذي جسد أثيري، جسد لا ظل له، لا لحم له ولا دم، جسد لا يترك آثارًا على الرمل، وبالتالي لم يكن يتألم بالفعل. وبدأوا يشرحون أحداث حياة يسوع في ضوء قراءتهم اللاهوتية تلك.

امتدادًا لهذا الفكر الدوسيتي ال، ظهر شخص يُدعى باسيليدس في القرن الثاني، كانت أطروحته أنَّ هناك إلهين: إله العالم، وهو إله العهد القديم الذي هدفه الأساسي إبعاد الناس عن المعرفة الحقيقية، وفي مقابله “الآب” إله العهد الجديد الذي يُحاول إنقاذ البشر.

قراءة باسيليدس اللاهوتية فسّرت نهاية حياة يسوع بأنّ الآب قد استطاع أن يخدع إله العالم عن طريق خداع اليهود والرومان. ففي الوقت الذي كان المسيح ذاهبًا فيه نحو الصليب، تغيّر شكل فأصبح هو نفسه شكل المسيح، وصُلب سمعان القيرواني فعلًا مكان يسوع. وفي الوقت نفسه، كان يسوع واقفًا يرى ما يحدث ويضحك على الخدعة التي نفّذها في اليهود والرومان وعلى رأسهم إله العالم وإله العهد القديم [3].

وهناك قراءات أخرى مُتأخرة زمنيًا لنهاية حياة يسوع، مثل أنّه‌ صُلب لكنه نزل حيًا وذهب ليعيش في أماكن أخرى بعيدة، وهناك من وصل بالقصة إلى أنه مات في الهند وقبره لا يزال هناك.

وبصرف النظر عن كل هذا الكلام، ما الذي يمكن للمؤرخين أن يقولوه عن نهاية حياة يسوع؟

آخذين في الاعتبار أننا هنا نتكلم عما يمكن للتاريخ أن يدرسه، ولا نتكلم على اللاهوت، ولا نتكلم على أيِّ فرضية تفترض تكذيب الحواس، مثل فرضية باسيليدس، التي ارتأت إن الناس الذين قد عاينوا صلبه، ظنوه يسوع لكنه لم يكن يسوع. هذه الفرضية من المستحيل على المؤرخ أن يستطيع إثباتها، لأن المؤرِّخ يبحث في شهادات مردها إلى الحِسِّ.

المؤرّخ معني بالأخبار التي انتشرت ونتجت عن رؤية الناس للحدث ومعاصرتهم له وقدرتهم على التحقق منه، وإلا فلا قيمة لشهادة شخص عايش زمنيًا وجغرافيًا بعيدًا عن وقت الحدث ومكانه، ومنقطعًا كذلك عن الجماعة التي حصل وسطها الحدث. فمثلًا شهادتي بلا قيمة بالنسبة لمؤرخ يريد تأريخ حادث 11 سبتمبر على سبيل المثال.

في هذا المقال والأجزاء التالية من سلسلة أقوال المؤرخين في صلب يسوع، لن نستخدم لقب المسيح لأنه يحمل دلالة لاهوتية، والقضية التي سنتعرض لتقديمها ستكون تاريخية مادية، حدودها هي فقط ما يستطيع المؤرخ دراسته.

سنستخدم أدوات النقد التاريخي والأدبي ومصادر متخصصة، وبالتالي قد تجد بعض الكلام الذي لا يتفق مع القراءات الكنسية لكنه منضبط تاريخيًا.

ونحن هنا لا نهدف إلى أيّة قضية لاهوتية، بل نستخدم هذا الموضوع الشيق كأداة لعرض منهجية التأريخ، وكيف تتم دراسة الحدث التاريخي إذا كانت وثائقه مركّبة ومعقّدة بتعقيد الوثائق المسيحية.

لسهولة المتابعة، ستكون السلسلة مقسمة إلى مجموعة محددة من الأسئلة، بحيث إذا توقفت عند سؤال معين يمكنك الرجوع وإكمالها بعد ذلك بسهولة.

  • تفكيك للمُسلّمات الموروثة:
    ١- لماذا التأريخ ولدينا النبوّات؟
    ٢- ما قيمة آباء الكنيسة في البحث التاريخي؟
  • إعادة البناء:
    ٣- الصَّلب ومعيار الحَرَج.
    ٤- مناقشة فلافيوس .
    ٥- بوبليوس كورنيليوس .
  • معايير الأصالة:
    ٦- معيار الشهادات المتعددة.
    ٧- مصدر الآلام لإنجيل مرقس.
    ٨- مصدر الآلام لإنجيل لوقا وأعمال الرسل.
    ۹- الصلب وال.
    ١٠– الطبقة الأولى لإنجيل يوحنا
    ١١– شهادة .

 

ماذا يعني “تأريخ”، وما الذي يريده المؤرِّخ؟

افترض أن كاثوليكيًا ويًا ويهوديًا ولا أدريًا –وكان جميعهم مُؤرِّخينَ أمناء، عارفينَ بالحَرَكات الدينيَّة في القرن الأوَّل– وُضِعوا جميعًا في محبسٍ داخِلِ جامعة هارفارد، وأُجبروا على نظامٍ غذائيٍّ قاسٍ وَلم يُسمَح لهم بالخروجِ إلى أن يخطّوا وثيقة إجماعٍ حوَل هُويَّة يسوع النَّاصريّ، وعَن مسعاهُ في وقتِهِ وزمانِهِ. أحد شروطِ تِلك الوثيقة أن تعتَمِد فقط على مَصادِرِ واحتجاجات تاريخيَّة نَقيَّة. ستُعاني الوثيقة غير الدِّينيَّة -أي تِلكَ الصِّياغة التوافُقيَّة- النَّاتجة من كُلِّ العِلَلِ التي تشوبُ التصريحاتِ المَجمَعيَّة [أي الجَمَاعيَّة، وليس المقصود بها “المَجامِع الكَنَسيَّة”] التي توصَّل إليها الأعضاء. أحيانًا ستُختار بعناية لُغة تفتقِرُ إلى التَّحديد كيما يتم تخطِّي نِقاطَ الخِلافِ، وأحيانًا سيُقِرّ الأعضاء علانيَّة مَواضِعَ الخلاف التي لم يتوصَّلوا فيها إلى اتفاق. لن تعكس هذه الورقة البيضاء المكتوبة عن يسوع آراء أيّ فردٍ من أعضاء اللجنة الجائعة بالكامِل. بالطَّبعِ لن تتضمَّن تأكيداتً من تِلك التي يتمسَّك بها الكاثوليكيّ والبروتستانتي بالإيمان. الشَّرَط الأساسيّ الذي بمُقتضاه يجِب أن تكونَ تِلك الوثيقة الاتفاقية مفتوحَةَ للتَحَقُّقِ لجميع الأفراد الذين يستخدمون وسائل البحث التّأريخيّ الحديث سينتِج وثيقة ذات مَنظورٍ ضَيِّق ورُؤية مُتشظِّية وربمًا أيضًا تشوُّهات. [4]

(John Paul Meier, Rethinking the Historical Jesus)

الفقرة السابقة مدخل ممتاز لفهم معنى التأريخ وعلاقته مع الماضي. التأريخ هو محاولة مجموعة من الباحثين لدراسة بقايا الماضي التي تُشير إلى حدث ما، ويحاولون التحدث والتناقش حول هذه البقايا وطبيعتها وتفسيرها، وما يمكنهم بناءه عليها، لمعرفة شيءٍ عن الحدث الذي وقع في الماضي.

وعلى هذا، ولكي يستطيع المؤرخون القيام بعملهم، فهم يحتاجون إلى اتباع منهجية قابلة للتطبيق عليهم جميعًا. بمعنى أنه لا يصح أن يدخل كل واحد بافتراضات لاهوتية أو أيديولوجية ويكتب بها نسخته من التاريخ، لأن من يختلف معه لاهوتيًا وأيديولوجيًا لن يستطيع فهمه أو الاشتباك معه في نقاش.

وبالتالي، فالمؤرخّ مُسلّم مسبقًا بأنه سيترك التصوّرات الذهنية التي لا يستطيع إثباتها بمنهجيات التاريخ على باب الجامعة. وبناء عليه، التاريخ في صورته التي تخرج من تحت يد مُؤلِّفه -الذي هو المؤرِّخ- لن يعطيك نفس القراءات التي تستطيع الوصول إليها باللاهوت.

ولو قست المنتج التاريخيَّ بمعايير اللاهوت فستجده، كما يقول چون ميير؛ يُقدِّم صورة ناقصة ومشوَّشة. لكن هذا ما تُمكنه أدوات البحث، وفي محلِّ نقاشنا الحالي حول الصلب، لا نريد أكثر من ذلك، ولا نحتاج قراءات لاهوتية من الأساس.

 

هل يمكن الاحتجاج بالنبوات عن صلب المسيح؟

قولًا واحدًا: لا!

هناك أكثر من مشكلة في موضوع النبوءات تجعل قبولها قبولًا لاهوتيًا لا يمكن للمؤرخ المحايد أن يغامر به. من ضمن هذه المشاكل مشكلة احتمالية “الدور” أو الاستدلال الدائري (Circular Reasoning).

ودعني أضرب لك مثالًا لتبسيط ما اعنيه. اقرأ معي هذا الجزء من نصوص كهوف قمران [5]:

نزل جانيوس الأسد الغاضب على قمران واعتقل قائدها الغامض “مُعلِّم البِر” ودفعه إلى مُرتزقَتِهِ ليُصلَب. وحِينَمَا غَادَر الملك، أخذوا [القمرانيون] جَسَد مُعلمهم المَكسور وحَرسوه حتى يَوم الدَّينونة… لقد آمنوا أن مُعلِّمهم سيقوم ويقود قطيع المؤمنين الذي له. [6]

(Pesher on Nahum: 4Q169)

من الممكن أن يهتف أحدهم: هذه نبوَّه عن يسوع، وعن صلبه وموته وقيامته! ويريد استخدمها للاستدلال على صلب يسوع وموته وقيامته.

وهكذا، فهو هنا يفترض سيناريو: إنه كان يوجد نصّ يقول كذا وكذا، وبعد زمان كتابة هذا النصّ بحوالي 150 سنة، جاء شخص وانطبقت عليه النبوءة. أليس كذلك؟

فيأتي المؤرِّخ ليقول له: أنا أتعامل مع وثائق تاريخية، وأتعامل مع النصوص المسيحية كنصوص كتبها بشر. ليس لي شأن بقصة الوحي، فهذا أمر يخصّ اللاهوتيين في القسم المجاور. أما في قسمنا، فلا نأخذ بالوحي وما شابه.

ويأتي المؤرِّخ المتخصص في الأدب ليقول: لديّ سيناريو آخر للأحداث. ما المانع إن كان نص قمران قد كُتب بالفعل قبل يسوع بـ 150 عامًا، وكانت المجتمعات المسيحية الأولى عارفةً هذا النص، أو حتى عارفة إياه في صورة قصة شفهية؟ ولكي يصوروا يسوع باعتباره معلِّم البر، استخدموا هذا النص كأنه قالب يكتبون عليه قصة يسوع. وبالتالي، الموضوع ليس نبوءةً وتحقيقًا للنبوءة، ولكن سيرة حياة شخص كُتبت لتقول إن هذا الشخص تتحقق فيه النبوءة.

هذا التمييز بين السيناريوهين، شرحه [7] للتمييز بين:

  • History Remembered: التاريخ الذي تم تذكّره [8]، ويعني التاريخ الذي تم التنبؤ به ويعتقد الناس فيه أنه مُطابق لحدث تم في الماضي.
  • Prophecy Historicized: التاريخ الذي كُتب كمحاكاة لنبوءة [9].

ويعني ذلك أن قبولك لحدث ما باعتباره نبوءةً موحىً بها، أو قبولك لنص ما باعتباره وحيًا، وربطك الاثنين في صورة نبوءة وتحقيقها، وهو الأمر المقبول في الإطار اللاهوتي، لكن المؤرِّخ لديه فرضية أخرى محتملة، ولذلك لا يستخدم المؤرِّخ النبوءات في البحث التاريخي.

‎ ‎ هوامش ومصادر: ‎ ‎
  1. Bart Denton Ehrman, Why Was Jesus Crucified: Bart Ehrman Crucifixion Thoughts, 18 April, 2022 [🡁]
  2. سأستخدم الاسم الشخصي يسوع، وليس اللقب المسيح لسبب ستقرأه بعد قليل. [🡁]
  3. سنعود ثانيةً إلى ، لنرى ما قاله بدقة في الأجزاء التالية. [🡁]
  4. John Paul Meier, A Marginal Jew: Rethinking the Historical Jesus, Vol.1, p.1 [🡁]
  5. Peter Flint, Jesus and the Dead Sea scrolls, Pesher on Nahum: 4Q169 [🡁]
  6. Amy-Jill Levine, John Dominic Crossan, & , The Historical Jesus in Context, 2006, p.128 [🡁]
  7. John Dominic Crossan, The Birth of Christianity, 1999, p.479 [🡁]
  8. التاريخ الذي تم تذكّره [History Remembered]: مُصطلح نحته الدارس مارك إس. جوديكر. [🡁]
  9. التاريخ الذي يحاكي نبوّة [Prophecy Historicized]: مُصطلح نحته الدارسچون دومينيك كروسان. [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جون إدوارد
‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎