منذ أيام، أعلن البيت الأبيض عن إنشاء
The White House Faith Office
[مكتب إيمان البيت الأبيض]، وهو هيئة جديدة تهدف إلى تعزيز التواصل بين الإدارة الأمريكية والزعامات الروحية. سيقود هذا المكتب القس پاول هارڤي
، وهو قس سابق في كنيسة البطريركية الوطنية في العاصمة واشنطن، وسيركز مكتب الإيمان
على بناء علاقات مع القادة من جميع الأديان والمعتقدات بهدف تعزيز دور الإيمان في الحياة العامة. ومن المتوقع أن يسهل المكتب أيضًا مشاركة المجتمعات الدينية في مبادرات السياسة العامة للإدارة الأمريكية [1].
مع قناعتي الخاصة بأن معرفة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب -كشخص- بالمسيحية وعقائدها وتاريخها ومذاهبها… إلخ، لا تزيد عن معرفة بائع الطماطم -الجالس أسفل منزلي- بالفيزياء النووية.
ومع تقييمي الشخصي لشخصية الرجل بأنه معجون بالتجارة والأعمال طوال تاريخه، لدرجة لا تترك مجالًا لغيرها في عقله. راجع مثلًا ما قاله النجم روبرت دي نيرو بشأنه منذ أيام [2].
وبوجود معرفة نسبية بواقع الداخل الأمريكي من حيث توحش أجندة اليسار (اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا) خلال رئاسة چو بايدن، ووصولها لمستويات تهدد سلامة المجتمع الأمريكي بكامله، وما تتطلب هذه الأجندة أحيانًا من ظهور بديل يميني متطرف لمعادلة الكفة المائلة.
إلّا أنني -وفي كل الأحوال- لا أخشى كثيرًا من مظاهر التديّن التي يحيط بها الرجل نفسه، إذ أراها مجرّد أداة تجاريّة مما يجيد استخدامه بمهارة طيلة حياته المهنيّة لتحسين شروط الصفقة أو فرض أوضاع تفاوضية أفضل.
على الأقل فترامب، فيما أعلم، لم ينضمّ بعد إلى فئة الرؤساء الأمريكيين المولودين ثانيةً
[Born again] لحسن الحظ !!
رأينا الأهوال من هؤلاء المولودين ثانية
وأتباعهم، ومنهم عينة چورچ بوش الابن
الذي ادعى سماع صوت الله يحثه على غزو العراق عقابًا له على السبي البابلي لشعب يهوه المختار منذ ٢٦٠٠ عامًا.
ورأينا معتوهًا آخر مثل رونالد ريجان
الذي كان يتوق بشدة لأن يكون الرئيس الذي سيشهد وقوع ملحمة هرمجدون
، ملحمة نهاية الزمان، والتي يسبقها حدث الاختطاف
للمؤمنين [Rapture
] في بعض الأقوال، ومن ثمَّ يتبعها المجيء الثاني للمسيح لبدء الحكم الألفي
في أقوال أخرى.
رأينا من رؤساء أمريكا من كان لا يجرؤ على اتخاذ قرار أو توقيع أمر تنفيذي دون أخذ المشورة الدينية من بيلي جراهام
، أو پات روبرتسون
، أو چيري فالويل
، أو غيرهم من القسوس الأقوياء ذوي النفوذ في البيت الأبيض، والذي تحول إلى النسخة الأمريكية من عرّاف البلاط الملكي قديمًا.
رأينا من يُبشِّرنا بضرورة أن تقوم الولايات المتحدة بدورها المقدَّس في التعجيل بتنفيذ المخطَّط الإلهي نحو المنطقة والعالم ليعود الربُّ بسرعة على سحاب المجد، ولا مانع في سبيل تعجيل هذه اللحظة المقدَّسة بأن يقوم الحُكَّام المؤمنون بـإعمال يد الله
كما تقول أدبيات الصهيونية المسيحية
.
الحق أن الصهيونية المسيحية، ذلك السرطان الخبيث، وإن بدأت بذورها الأولى في بريطانيا في القرن السابع عشر، إلا أن ثمارها قد نمت وترعرعت في أمريكا محمولة على أجنحة البيوريتانيين المتطرفين الذين عبروا الأطلسي هاربين من قمع الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا إلى العالم الجديد، لتصبح أهم وأخطر الحركات السياسية-الدينية في العالم، بما يتجاوز منظمات اللوبي الصهيوني نفسه. وقد وصلت مطالبها ودعمها للمشروع الصهيوني في منطقتنا إلى آفاق لو رآها هرتزل
وجابوتنسكي
وغيرهما من أعمدة الصهيونية لرقصوا طربًا في قبورهم.
ربما يفاجأ البعض لمعرفة أن فكرة زرع وطن قومي لليهود في منطقتنا لم تظهر لأول مرة في الأوساط اليهودية على الإطلاق، حيث كانت تحيتهم التقليدية في تبادل كؤوس وأنخاب عيد الفصح: العيد القادم في أورشليم
لا تعدو كونها عبارات محفوظة يرددونها كموروث ديني.
بل نشأت في أوساط مسيحية بيوريتانية صرفة، وقبل ظهور أولى إرهاصات الحركة الصهيونية بسبعين عامًا كاملًا!!
من مجموعة كتابات وأحلام ورؤى متواضعة المستوى (بمقاييس أدب العالم القديم) لشعب نصف بدائي نصف مرتحل عاش طوال تاريخه على هامش الحضارات العظمى للشرق القديم (مصر والعراق بالذات)، إلى يقين راسخ يعتنقه ملايين المهووسين في أمريكا وحول العالم، وصولًا إلى نجاحه الجزئي في اختراق بعض من المسيحية الشرقية، بل ووصولًا إلى اعتباره أحد العوامل المؤثرة في عملية صنع القرار السياسي في دولة بحجم الولايات المتحدة…
أرجو ألّا تكون نهاية حضارتنا على يدّ أمثال هؤلاء المخابيل.