يقول الملاك للرعاة: [1]

أنه وُلد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب

(إنجيل لوقا  ۲ : ۱۱)

ويقول أشعياء النبي عن هذا الحادث عينه: [2]

لأنه يولد لنا ولد ونعطى ابنًا، وتكون الرئاسة على كتفيه، ويُدعى اسمه عجيبًا، مشيرًا، إلهًا قديرًا، أبًا أبديًا، رئيس السلام. لنمو رياسته، وللسلام لا نهاية على كرسي داوود وعلى مملكته، ليثبتها ويعضدها بالحق والبر، من الآن وإلى الأبد.

(أشعياء ٩: ٦-٧)

تأملنا في الماضي في علاقتنا بيسوع الطفل علاقة اختبارية عشنا بها هذه السنة، وأشهد أنها كانت ذات أثر فعال فينا وفي كل من اتصل بنا.

نريد أن نتأمل معًا في هذا العيد علاقتنا بهذا الميلاد السعيد، لأنه كما سمعتم من الملاك ومن أشعياء النبي أن المولود هو لنا وأنه ابننا: نعطى ابنًا فهو حادث سعيد يخصنا جدًا كما يقول الملاك ها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب [3].

ولكي أستوفي علاقتنا بهذا الميلاد حقها من الفرح العظيم كاختبار نعيشه، يلزمني أن أعود بكم وأصوّر لكم المواليد السابقة لكل العظماء السابقين، فإبراهيم أب الآباء وُلد في يوم من الأيام في أور الكلدانيين، وجاء الخبر إلى أبيه ، وفرح تارح (ولم تفرح البشرية)، ثم مات تارح ومات إبراهيم وبكاه ولداه اسحق وإسماعيل ودفناه في مغارة المكفيلة. وكذلك كان مولد اسحق وموته، فرح وحزن متلاحقان، كذلك مولد يعقوب والأسباط. ويوسف وموسى أعظم قائد عرفه التاريخ سار بأمّة ٢ مليون في برية قفر ٤٠ سنة، ويشوع وجميع الآباء والأنبياء: فرح يوم الميلاد، ونواح وبكاء وعويل كثير يوم الممات!

كل البشرية، كل أولاد ماتوا، ماتوا جميعًا، وكان الحزن على موتهم أضعاف أضعاف الفرح في مولدهم، لأن فرح الميلاد إلى يوم، أما الحزن على الميت فإلى أيام كثيرة. ويقول الكتاب عند موت يعقوب أنه بكى عليه المصريون سبعين يومًا [4]. هذا في مصر، ثم أخذوا يعقوب إلى أرض كنعان، وعند دفنه في مغارة المكفيلة عادوا فناحوا هناك عليه نوحًا عظيمًا وشديدًا جدًا [5].

هذا هو ميلاد يعقوب إسرائيل وهذا هو موته. وهذا هو الإنسان عامة حزنه أكثر من فرحه مئة ضعف. ولا يخلو الكتاب من نبي لعن يوم ميلاده عندما أراد الملك ورؤساء الكهنة خنق كلمة الحق في فمه، التي كانت تغلي في عظامه.

ولكن من الأمور العجيبة والمفرحة جدًا يا أحبائي، أن هذا الذي تم في آخر الأيام كنهاية لكل ميلاد، ثبت كل هذه المواليد السابقة وجعلها نقطًا مضيئة في تاريخ الخلاص!! ولو لم يولد المسيح لبقيت هذه المواليد نكرة لدى العالم كله. فكل هذه المواليد التي لكافة الآباء والأنبياء والعظماء كانت تستمد وجودها وكيانها وعملها ونعمتها من هذا الميلاد الفائق. لقد ولدوا على رجاء وماتوا على رجاء، حتى ولد الرجاء الذي لا يموت قط.

ولكن اليوم يبشرنا الملاك ها أنا أبشركم بفرح، بفرح عظيم يكون الجميع الشعب. إنه وُلد لكم اليوم مخلّص هو المسيح الرب [6]. إنها أول مرة في تاريخ البشرية أن يبشِّر بميلاد مخلّص هو المسيح الرب، ثم أول مرة يقال أنه وُلد لنا، وفي مكان آخر نورًا للأمم ومجدًا [عهدًا] لشعبك إسرائيل [7].

هنا أريد أن أنبه ذهنكم وأركز بشدة على قول الملاك وأشعياء النبي أنه وُلد لكم، يُولّد لنا بمعنى أن الطفل المولود، كونه يخصنا أو أنه بتعبير أشعياء النبي نُعطى ابنًا، هو من صميم كياننا، وفي نفس الوقت هو رب ومسيح. فالمولود ينبغي أن يكون موضع فرح عظيم، لأنه مولودنا ويبقى معنا إلى الأبد.

الصورة التي يريد أن يصورها الوحي الإلهي، إن كان من فم الملاك أو فم أشعياء النبي، هي وكأننا جميعًا -أي البشرية- أمّ عاقر، أو مصابة في كل أولادها الذين تلدهم، فإنهم يموتون ولا يعيشون، أو كأنهم يولدون ليموتوا سريعًا، أو ربما بأقصى عمق في التعبير؛ أن البشرية كانت تلد أمواتًا أو تلد الموت ذاته عنصر اللعنة الأولى!! فكان الفرح بميلاد الإنسان، كل إنسان، فرحًا عابرًا أو كذبًا يكذبه نواح الموت الشديد والسواد الذي يغطي كل البيت!

ولكن جاء اليوم السعيد حقًا في عمر البشرية، الذي فيه يولد لنا ولد ونعطى ابنًا من السماء يبقى لنا إلى الأبد، وكأننا نحن -أي كل البشرية- حملنا به دون أن ندري، ومخضنا به دون أن نشعر، ثم ولد بمرأى من الملائكة ميلادًا عجيبًا حقًا، اشتركت فيه السماء والأرض معًا، «من الروح القدس والعذراء مريم معًا» – أو كما يقول لحن «بي جين ميسي» البديع الذي يقال ردًا على قراءة ال يا للميلاد البتولي. يا للطلقات الروحانية. يا للعجب العجاب. كقول الأنبياء.

وميلاده من الروح القدس يشير بوضوح أنه ابن الله، أما ميلاده من عذراء لم تعرف رجلًا يعمق حقيقة المولود أنه ابن البشرية جمعاء من حيث الجسد ابن الإنسان. هنا يتحد إعلان الملاك وُلد لكم مع نبوة أشعياء يُولد لنا ولد ونُعطى ابنًا في تصوير مبدع للبشرية؛ كأم عاقر انفك عقمها من السماء في شخص العذراء، فولدت ابنًا للحياة، وهو الحياة ذاتها أتى من السماء ويعود إليها، لا يسود عليه الموت أو التراب بل يطأه بقدميه، لأنه هو هو القيامة والحياة، يقوم ويخلّص أسرى الموت، والذين في القبور أنعم عليهم بالحياة الأبدية!!

لهذا ظهر الملاك وجمهور جند السماء يوم ميلاد المسيح ممجدًا الله ومطوّبًا البشرية معًا المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة، ظهر بالبشرى السعيدة هـا أنـا أبشركم بفرح عظيم، فرح عظيم حقًا لأنه لن يلغيه حزن الموت عليه، بل ستثبته القيامة لحياة أبدية. فلم يعد في المسيح حزن على موت، بل صار للموت مع المسيح رجاءٌ وفرحٌ أعظم من فرح الميلاد، بقدر ما أن القيامة أعظم من ميلاد الجسد. أنظر كيف كان يستقبل الشهداء يوم استشهادهم بالفرح والتهليل، وكأنهم في عيد، ثم أنظر كيف نعيّد نحن ليوم استشهادهم باعتباره يوم ميلادهم.

ميلاد المسيح نقلنا من الخوف العظيم إلى الفرح العظيم:

تقول البشارة وإذا ملاك الرب وقف بهم، ومجد الرب أضاء حولهم، فخافوا خوفًا عظيمًا [8].

لماذا هذا الخوف؟ لماذا يخاف رعاة بسطاء طيبون من ظهور ملاك ومن حضور مجد الله؟

إن هذا القول لمحزن ومؤسف للنفس أشد الحزن والأسف، هل لان مجد الرب أضاء حولهم يخافون خوفًا عظيمًا؟ ما كان ظننا هذا!

ولكن هذا هو ميراث الإنسان الأليم وخبرته المحزنة مع الله التي ورثها من آدم «آدم آدم، أين أنت؟» فقال آدم: سمعت صوتك في الجنة فخشيت لأني عريان فاختبأت. [9].

هذه هي أول خبرة الخطية أي رعبة الخوف والاختباء من الله، التي تغلغلت في أعماق ميراثه النفساني والعصبي، الخوف من مجرد ظهور الله أو سماع صوته!! ومع الخوف تلقائية سريعة للاختباء، هذا هو سر هروب الناس من الكنائس أو من الصلاة، وذلك واضح كل الوضوح أنه بسبب الخطية الرابضة في أعماق اللاشعور والإحساس بعصيان أوامر الله. وهكذا صار كل عصيان لصوت القدوس يعقبه عريّ، عريّ جسدي ونفسي. فالنفس بالخطية أي بالعصيان تنفصل عن الله وتتعرى من غطاء ستر الله المنير الذي هو الحق والقداسة والكمال، وبالتالي أو بالضرورة تستجيب الحواس الجسدية لهذا الخوف فيظهر الجسد الترابي بعوزه ونقصه مربوطًا بغرائزه منفصلًا عن مصدر كماله وقداسته ونوره. هذه هي أول درجة دخلها الإنسان في خبرة الخوف، وهي الخوف المرعب من ظهور الله بسبب الشعور بالتعري الداخلي والخارجي بسبب الخطية.

أما الدرجة الثانية، أو ما نسميه بالدينونة، عندما نطقها الله في وجه آدم ملعونة الأرض بسببك، بالتعب تأكل كل أيام حياتك [10] بعرق وجهك تأكل خبزًا حتى تعود إلى الأرض التي أُخذت منها [11]. وبعد سماع الحكم مباشرة نفذ النطق الإلهي وطُرد آدم وامرأته من أمام وجه الله. وقد يظن أحد أن هذا حدث لآدم فقط، ولكن يلزم أن ندرك أن كل ما حدث لآدم صار ميراثًا للبشرية كلها في صميم كيانها النفسي والجسدي.

صدقوني يا أحبائي أنه لو سمع أي ولد مثل هذا الحكم من أب جسدي، فإنه يرتعب ارتعابًا وخصوصًا إذا وجد أحد الخدام يمسك بيده ليخرجه من البيت إلى الأبد!! هذه هي رعبة الدينونة في الخوف.

أما الدرجة الثالثة، فهي خبرة الموت. وكانت أول خبرة هي رؤية آدم و ثمرة الخطية والدينونة، ابنها واقعًا على الأرض ميتًا مقتولًا بيد أخيه ، لقد حبلت حواء بالخطية فولدت موتًا. إنها أول مواجهة للإنسان تجاه حقيقة الموت. إنها رعبة فوق ما يتصور الإنسان يقول عنها ال [12]:

فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضًا كذلك فيهما، لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت، أي إبليس، ويعتق أولئك الذين خوفًا من الموت كانوا جميعًا كل حياتهم تحت العبودية [عبودية الخوف من الموت].

(رسالة بولس الرسول إلى العبرانيين ۲: ١٤-١٥)

إن رعبة الموت مرعبة للغاية، لأن فيها يحس الإنسان الواقف أمام الميت بفقدان كيانه هو، مدركًا في الحال مصيره المحتوم. لذلك أصبح الإنسان عبدًا ذليلًا رعديدًا للموت ولأخبار الموت ولكل ما من شأنه يؤدي إلى الموت!

الآن ندرك سر ذلك الخوف العظيم الذي عصف بالرعاة عندما أضاء مجد الرب حولهم وسمعوا صوت الملاك!! كذلك ندرك سر أيّ خوف أو رعبة تنتابنا من الوقوف في حضرة الله. أنه لا يزال لم يولد لنا ولد ولم نُعط ابنًا هو المخلص، المسيح الرب.

وهذا هو سر رعبة الرعاة يوم البشارة بسبب حضور الرب. وهنا مقارنة غاية في القوة والشمول نسمعها مرة أخرى من فم الملاك [13]:

وكان في تلك الكورة رعاة متبدين يحرسون حراسات الليل على رعيتهم، وإذا ملاك الرب وقف بهم، ومجد الرب أضاء حولهم، فخافوا خوفًا عظيمًا. فقال لهم الملاك: «لا تخافوا! فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب: أنه وُلد لكم اليوم في مدينة داود مُخلّصٌ هو المسيح الرب».

(إنجيل لوقا ٢: ٨-١١)

واضح جدًا يا أحبائي قدرة الملاك العجيبة على إدراك سر رعبة وخوف هؤلاء الرعاة. فهو إذ يدرك سبب خوفهم العظيم يسرع فيطمئنهم لا تخافوا! لقد انقضى زمان الخوف والرعبة من الله، ومن منظر مجد الرب عندما يضيء أمام الإنسان. ها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون للجميع، لأنه ولد لكم اليوم من سيخلصكم من كل أسباب الخوف العظيم. هذا المولود، المسيح الرب، سيلغي سلطان الخطية على الإنسان ويكسر عنه شوكة الموت، ويصالح الإنسان بالله وينهي على الدينونة ورعبتها. افرحوا، افرحوا فرحًا عظيمًا!! لأنه ولد لكم اليوم مُخلّصٌ.

إنها بشارة عجيبة حقًا للإنسان البائس، إنها نطق إلهي جديد وعجيب يزيل كل الآثار المرعبة للنطق الأول باللعنة والموت والطرد الذي تغلغل في أعماق نفسية الإنسان.

يا أحبائي انتبهوا، فالملاك ينطق هنا بفم الله، لان حضرة الله كائنة ومضيئة مع ظهور الملاك، انتبهوا فالله نفسه يسلم الإنسان نطقًا جديدًا عوض النطق الأول لآدم، الله نفسه يدعونا أن عوض الخوف العظيم الذي عشناه بميراثنا الآدمي ونسجته الخطية والموت والدينونة في الحمنا ودمنا ومحنا وعظامنا، في ظلمة مرعبة هذه الدهور كلها، نطرحه كله الآن كأمر إلهي صدر لنا اليوم بحضرة الله ونوره العجيب، لنفرح فرحًا عظيمًا لأن آدم الثاني المخلّص المسيح الرب وُلد لنا اليوم، فنلنا بميلاده بشرية مجددة فيه، مهيأة للعودة إلى حضن الله الأبوي.

فلا رعبة في المسيح من خطية، ولا خوف في المسيح من دينونة، ولا رعدة في المسيح من موت. لذلك يشدو الملاك افرحوا فرحًا عظيمًا، قد وُلد المخلص في مدينة داود.

يا أحبائي، يوجد نقطتان على الأرض تخلوان تمامًا من الخطية والدينونة والموت :مغارة بيت لحم، والجلجثة.
في الأولى وُلدت الحياة، وفي الثانية اُستعلنت الحياة.

وُلد لكم اليوم مخلّص:

السؤال الذي نريد استجلاء غوامضه هو: كيف أن طفلًا مولودًا يسمّى بل ويعيّن وهو في المهد، مُخلصًا؟ هذه مضادة عقلية مُحيّرة لان الطفل يحتاج لمن يعينه ويخلصه!!

وبالرجوع إلى نبوة أشعياء [14] تزداد المضادة حدة، ولكن يصاحبها الشرح:

لأنه يولد لنا ولد ونعطى ابنًا، وتكون الرئاسة على كتفيه، ويُدعى اسمه عجيبًا، مشيرًا، إلهًا قديرًا، أبًا أبديًا، رئيس السلام. لنمو رياسته، وللسلام لا نهاية على كرسي داوود وعلى مملكته، ليثبتها ويعضدها بالحق والبر، من الآن وإلى الأبد.

(أشعياء ٩: ٦-٧)

هنا المضادة تبلغ أقصى حدتها وعنفها، فالولد الذي يولد كابن لنا هو هو إله قدير، وهو هو للبشرية كلها أب أبدي. ويفصح أشعياء عن هذا الإعجاز غير المدرك عقليًا بقوله ويدعى اسمه عجيبًا.

واضح جدًا يا أحبائي من هذه النبوة ومن كل ملابسات البشارة التي نطقها الملاك بحضرة الله ومن ظروف الميلاد البتولي العجيب أن هناك حدثًا إلهيًا خطيرًا، وأمامنا تجسد إلهي، فالولد المولود لنا من لحمنا ودمنا هو ابن الله الإله القدير، وهو نفسه سيصير للبشرية من واقع تجسده أبًا لها يحمل همها وخلاصها إلى الأبد، قديرًا في خلاصه وفدائه لجنسنا الذي اتحد به..

ولكن أين وكيف سر الخلاص في ميلاد المسيح؟

الاتحاد المتبادل:

واضح يا أحبائي بحسب السر الحادث أمامنا والسابق التنبؤ به أن ابن الله اتخذ جسدًا طاهرًا من العذراء اتحد به فصار إنسانًا وهو ابن العلي، وهو بذلك يفتح الطريق إلينا لنتحد نحن به كما اتحد هو بنا لنصير فيه وبه أبناء الله مولودين من الله.

فكما وُلد المسيح ابنُ الله وصار إبن الإنسان بالاتحاد بطبيعتنا التي اتخذها من العذراء، هكذا فتح لنا الطريق لنولد نحن أيضًا من الله بالروح القدس بالاتحاد بالمسيح.

فاتحاد الله بنا فتح الطريق لاتحادنا به. هذا هو سر تهليلنا وفرحنا في هذا العيد. لقد وُلد المسيح لنولد نحن!!

هذا هو سر الخلاص الأبدي والباب والطريق. فالاتحاد الذي أكمله الله بنا في اتضاع المذود فتح الطريق أمامنا لرجاء لا ينتهي!!

ولكن من الأمور البديهية في اللاهوت العقائدي أن اتحاد ابن الله بالطبيعة البشرية يختلف اختلافًا جوهريًا عن اتحادنا نحن بالمسيح. فإبن الله برغم اتحاده بالطبيعة الأقل لم يفقد كإله شيئًا مما كان له قط، ولا صار ذا طبيعتين بل طبيعة واحدة للإله الكلمة المتجسد، إله كامل وإنسان كامل بآن واحد. أما نحن فاتحادنا بالمسيح بالإيمان في المعمودية والأسرار لا يعطينا أي امتياز قائم بذاته بدون المسيح. فسنظل بشرًا إلى الأبد، لأنه اتحاد بالمشاركة. فكل الامتيازات التي ننالها كأبناء الله ننالها في المسيح بالإيمان والأسرار وبدوام الشركة في المسيح، فإذا توقفت الشركة كعلاقة إرادة ونعمة في الصميم، توقفت كل الامتيازات التي للخلاص وتوقفت نعمة .

فاتحادنا بالمسيح لا يصيرنا آلهة ولا يصيرنا كالمسيح في جوهر طبيعته الفائقة، ولكن يدخلنا في سر بنوته للآب كبشر خطاة بررهم بدمه ووحدهم في ذاته بنعمته وتبناهم لله.

والآن تأملوا معي في هذه المجازفة العظمى التي تحملها الله بنفسه ليصل إلى عمق ذلنا وخوفنا وبؤسنا. تأملوا في هذا الطفل العريان الملقى في مذود بهيمة من طين على حفنة من تبن.

هذا التنازل الإلهي الهائل هو لحسابنا، هو دخول فعلى وواقعي بالألم والمعاناة، دخول إلى شركتنا للوصول إلى حل نهائي وأبدي وكامل لقضية بؤس الإنسان وحرمانه من الفرح والنور والسلام الإلهي. هو نزل إلينا حتى إلى طين المذود ليرفعنا من ذلنا إلى مجده. إن اتضاعه يأسرنا!!

الله لم يأتِ إلى عالمنا كملاك أو كضيف عظيم غريب يسمع شكوانا ويهبنا بركاته، وتظل طبيعتنا عاقرًا كما هي تلد للموت وتحيا للألم بلا رجاء ولا معنى.

ولكن مرة أخرى، فلنستمع لصوت الملاك المبشر وصوت أشعياء النبي وُلد لكم .. يولد لنا ولد ونعطى ابنُا الله ملكنا ذاته، الله استأمننا على نفسه، فها هو ذا يبدأ معنا من أول الطريق كطفل ليعيش عيشنا، ويذوق ذلنا، ويعاني أعواز لحمنا ودمنا، ويحس بآلام خطيتنا [في جسده على الصليب] ويدفع ثمنها كله عنا، ويعبر رعبتنا من الموت، ثم كإله يقوم ويقيم طبيعتنا معه، ويهزم الموت ويبدد سلطان الخطية ويرفع اللعنة ويلغي الدينونة، ويرتفع إلى السماء ويصالحنا مع الآب، ويعلن بدء ملكوت الله على قلوب أولاد الله.

هذا هو المعنى العظيم للفرح العظيموُلد لكم مخلص لقد بدأت عظمة الجلجثة من داخل مذود بيت لحم.

يا للسيمفونية الرائعة بين طين المذود وخشبة الصليب، بين القماط والمسمار!!

الفقر والطهارة في ميلاد المسيح:

عسير عليَّ في هذا العيد، البتولي، ألا أعرج على مركز البتولية في هذا التلاقي العجيب بين الله والإنسان في سر التجسد.

فاليوم يستودع الله سر تجسده لعذراء طاهرة، مريم تفك عقم حواء الذي صار لها باللعنة، مريم تحبل بالروح القدس عوض حواء التي حبلت بالخطية وسلمت لعنتها لكل بني جنسها كقول داود في المزمور بالإثم حُبل بي وبالخطية ولدتني أمي [15].

حواء حملت وولدت ابنًا لآدم ليحمل لعنة أبويه، واليوم حملت العذراء بروح القداسة وولدت إبن الله الذي جاء ليخلّص كل بني آدم من الخطية واللعنة والموت.

المنظر أمامنا اليوم بحسب العين البشرية هو هكذا: فتاة طاهرة، عذراء يتيمة، لا أهل لها ولا أصدقاء، تأوي إلى مغارة في الجبل لأنها لم تجد مكانًا واحدًا في المدينة كلها، بعد رحلة مضنية من الناصرة إلى بيت لحم، والوقت شتاء، وهي في نهاية شهرها التاسع وتحس بمخاض الولادة. بمجرد وصولها إلى المغارة، لا تجد مكانًا تضع فيه طفلها، فوضعته في مذود للبهائم بعد أن لفته بالخرق وجلست تسبح الله وتتقبل هدايا الرعاة زبدًا مع عسلًا فهكذا رأى أشعياء بالنبوة ها العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه «عمانوئيل» زبدًا وعسلًا يأكل [16].

هذا ما تراه عين البشر، أما بالرؤيا السماوية، فهنا وفي المذود الله ظهر في الجسد، تراءى لملائكة، سُبِّح به بالمجد، استعلن نورًا للأمم بنجم المجوس الهادي حتى مكان الطفل.

فإذا جمعنا رؤية البشر ورؤية السماء معًا وجدنا تقابلًا مذهلًا بين مجد الله وفقر الإنسان.

وهكذا يليق فعلًا أن يتقابل الله في مجده مع الإنسان في فقره وطهره!! وما أبدعه سر للتقابل!! إنه سيظل قانون المقابلة مع الله إلى دهر الدهور. ففي التجرد والطهارة يُستعلن الله دائمًا للإنسان!! إن بروتوكول المذود والعذراء سيظل الأصول الأساسية التي تتم فيها كل مقابلة مع الله!!

نعم لا يمكن ولا يجوز أن نعبر على قصة الميلاد العجيب دون أن نشدد ونؤكد أن أول حضن بشري حمل الله هو حضن عذراء طاهرة! وأول مكان استقبل جسد ابن الله هو مذود للبهائم! وتمت نبوة العذراء مريم وهي ما تزال حاملًا [17]:

لأن القدير صنع بي عظائم، واسمه قدوس، ورحمته إلى جيل الأجيال للذين يتقونه. صنع قوة بذراعه. شتت المستكبرين بفكر قلوبهم. أنزل الأعزاء عن الكراسي ورفع المتضعين. أشبع الجياع خيرات وصرف الأغنياء فارغين.

(إنجيل لوقا ا: ٤٩-٥٣)

ولقد ظل المسيح نفسه ينبّر بعد ذلك على الفقر والطهارة في إمكانية العبور إلى ملكوت الله مرارًا، وذلك في شرح الصعوبة البالغة على الأغنياء في دخول ملكوت الله أو في أمر الذين خصوا أنفسهم من أجل ملكوت الله.

إذن، لم يكن مصادفة ميلاد إبن الله في مذود، أو ائتمانه العذراء على تجسده؛ فقد كان هذا من صميم التدبير الإلهي وقصده المسيح لنفسه عمدًا لكي ينبه قلب الإنسان إلى مكان التلاقي!!

ليس معنى ذلك أن المسيح لا يتلاقى إلا مع الفقراء والعذارى! ولكن كل تلاقي مع المسيح لابد أن ينتهي إلى ذلك! أنظر كيف تلاقى مع السامرية على بئر العالم المعطشة، هذه الخاطئة صاحبة الخمسة أزواج، كيف تحولت في الحال إلى شبه عذراء صهيون وانطلقت مبشرة على الجبال العالية تدعو المدينة كلها إلى توبة وإلى طهارة؟ إنه المسيح طفل المذود الإله ابن العذراء نور العالم، الذي يستطيع من أول مقابلة أن يبدد ظلمة العقل وسلطان الخطية والنجاسة ويهبك قداسته، ويعيد للإنسان كل ما فقده!!

ثم أنظر كيف أنه لمجرد أن وقعت عيناه على ذلك اللاوي المتمرس في فنون الصيارفة من مكسب حلال ومكسب حرام، الغني المنغمس إلى أذنيه في الأموال والأرقام، كيف قام في الحال وألقى بكل شيء مرة واحدة وصار من التابعين الذين يقتاتون من الصندوق، وإنجيليًا يبشر بالطوبى للمساكين.

يا أحبائي، أنبه ذهنكم أن السامرية لم تسع للمسيح للتوبة وطلب الطهارة أو البشارة، وحقًا لو حاول كل وعاظ العالم أن يدفعوا هذه المرأة الخاطئة إلى سلوك هذا الطريق ما فلحوا!! لأن خطية النجاسة تكبل صاحبها بقيود الظلام وتوقعه تحت عبودية المُرة. ف الذي قهر الشيطان وربطه، هو وحده الذي يستطيع ذلك وهو عالم بذُلِّ الإنسان، يسبق وينتظره على بئر الشهوة حيث يذهب مساقًا ليستقي كل يوم.

إن المسيح، بدافع من شعوره بسلطان قداسته وطهره، له دائمًا سبق المبادرة مع الخاطئ. إنه على ميعاد دائمًا مع فجورنا. وعند اللحظة الحرجة من الحياة يظهر لتصفية حساب الخمسة أزواج ليقظة الضمير، لفك قيود الظلام وإنارة القلب وإعادة روح الطهارة وجمال البتولية ثم البشارة!!

ما أحوج العالم كله الآن إلى مقابلة سريعة مع المسيح على مستوى المذود والعذراء!!

 

وُلد لكم اليوم، بقلم ، نُشر أوّل ما نُشر في ، عدد يناير ١٩٧٩، الصفحات من ١٦ إلى ٢٦

 

هوامش ومصادر:
  1. إنجيل لوقا  ۲ : ۱۱ [🡁]
  2. سفر أشعياء ٩: ٦-٧ [🡁]
  3. إنجيل لوقا ٢ : ١٠ [🡁]
  4. سفر التكوين ٥٠: ٣ [🡁]
  5. سفر التكوين ٥٠ : ١٠ [🡁]
  6. إنجيل لوقا ۲: ١٠-۱۱ [🡁]
  7. إنجيل لوقا ۲: ٣۲ [🡁]
  8. إنجيل لوقا ٢: ٩ [🡁]
  9. سفر التكوين ٣: ١٠ [🡁]
  10. سفر التكوين ٣: ١٧ [🡁]
  11. سفر التكوين ٣: ١٩ [🡁]
  12. رسالة بولس الرسول إلى العبرانيين ۲: ١٤-١٥ [🡁]
  13. إنجيل لوقا ٢: ٨-١١ [🡁]
  14. سفر أشعياء ٩: ٦-٧ [🡁]
  15. مزمور ٥١: ٥ [🡁]
  16. سفر أشعياء ٧: ١٤-١٥ [🡁]
  17. إنجيل لوقا ا: ٤٩-٥٣ [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

متى المسكين

اطرح عنك ذاتك التي تمنعك من الانطلاق في حرية أولاد الله