المقال رقم 2 من 3 في سلسلة الخلاص بين الشرق والغرب

نستكمل الحديث عن عقيدتي التبرير وعمل النعمة بين كممثل عن حركة وكأحد أبرز رجالات الإصلاح الي المؤثرين في كافة الطوائف البروتستانتية بجميع أشكالها وأنواعها، وبين ق. يوحنا كممثل عن اللاهوت الأرثوذكسي الشرقي، وكأحد أبرز معلمي وخطباء الكنيسة على مر العصور.

يهدف البحث إلى إظهار جوانب كل فكر من فكري هذين اللاهوتيين المسيحيين المؤثرين كُلٌّ في مجاله اللاهوتي. مما يسلط الضوء على التباينات الأساسية بين اللاهوت الشرقي الأرثوذكسي واللاهوت المصلح الغربي البروتستانتي.

دحض وراثة الخطية الأصلية من آدم

على العكس من اعتقاد كالڤن بوراثة خطية ، يرفض ق. يوحنا ذهبي الفم فكرة الأصلية من آدم، بل يرى أن الخطية حملت الموت للجميع، أي سار الموت إلى الجميع من جراء شخص آدم، وليس خطيئته نفسها، حيث يقول في تفسيره لرسالة ق. بولس الرسول إلى أهل رومية التالي: [1]

وقد حاول [بولس الرسول] أن يشرح كيف وبأي طريقة دخل الموت إلى العالم وساد عليه، ويقول إن هذا حدث بخطية الإنسان الواحد [أي آدم]. وماذا يعني بقوله: وفي شخصه اجتاز الموت إلى جميع الناس؟، يعني أن الموت قد اجتاز إلى الجميع لأنه [أي آدم] سقط في الخطية، وأولئك الذين لم يأكلوا من الشجرة جميعهم صاروا مائتين في شخصه.

(يوحنا ذهبي الفم، تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية)

ويشير ق. يوحنا ذهبي الفم إلى أن خطية آدم التي حدثت في الفردوس، قد حملت الموت للجميع، وقد ساد الموت واستبد على البشر كالتالي: [2]

غير أنه لابد وأن نسأل ما هي الخطية التي وُجِدَت في ذلك الزمان [أي قبل يقول البعض إن بولس الرسول يشير إلى الخطية التي حدثت في الفردوس، طالما أنها لم تكن قد بطُلَت بعد، بل إن ثمرها قد أينع، حيث إن هذه الخطية قد حملت الموت إلى الجميع، وقد ساد الموت واستبد.

(يوحنا ذهبي الفم، تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية)

ويشرح ق. يوحنا ذهبي الفم كيف ملك الموت على جميع الذين آتوا من آدم، على الرغم من أنهم لم يأكلوا من الشجرة مع آدم كالتالي: [3]

وكيف ملك الموت؟ على شبه تعدي آدم. ولهذا فإن آدم هو مثال للمسيح. وكيف يقول إنه مثال المسيح؟ لأنه كما أن الذين آتوا من آدم على الرغم من أنهم لم يأكلوا من الشجرة، إلا أن الموت ملك عليهم، وهكذا صار آدم سببًا [علةً] للموت الذي دخل إلى العالم، بسبب الأكل من الشجرة، هكذا أيضًا، فإن أولئك الذين انحدروا من المسيح، على الرغم من أنهم لم يعملوا أعمالاً بارةً، إلا أن المسيح صار سببًا للبر الذي منحه للجميع بواسطة صليبه.

(يوحنا ذهبي الفم، تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية)

ويدحض ق. يوحنا ذهبي الفم فكرة إدانة شخص بسبب خطية آخر في سياق دحضه لفكرة وراثة خطية آدم كالتالي: [4]

ما يقوله [بولس الرسول] يعني الآتي: فلو أن الخطية قد استطاعت أن تصنع كل هذا [أن يجتاز الموت لجميع الناس]، وبالطبع من خلال خطية إنسان واحد، فكيف لا تستطيع نعمة الله، وليس فقط نعمة الله الآب، بل والابن أيضًا أن تحقق الكثير [أي خلاص الجميع]؟ وهذا يُعد أكثر تماشيًا مع المنطق. لأنه أن يُدان أحد بسبب خطية آخر، فمن الواضح أن هذا ليس مبررًا كافيًا [بحسب المنطق الإنساني]، بيد أن يخلُص أحد بسبب عطية الآخر، فهذا أكثر قبولاً وأكثر تماشيًا مع المنطق. فلو أن البشرية قد أُضِيرت بالخطية، فبالأولى كثيرًا ستنال فيض النعمة وعطية البر. إذًا، فالطبيعي والأكثر تماشيًا مع العقل والمنطق، قد برهن عليه كما سبق وأشرنا، فطالما أنه قد قَبِلت فكرة أن بخطية الواحد قد اجتاز الموت إلى الجميع، سيصير مِن السهل قبول أنه بعطية الواحد سيخلُص الجميع، وكون أن هذا الخلاص هو ضرورة حتمية، فقد دلَّل عليه في الآيات الآتية.

(يوحنا ذهبي الفم، تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية)

ويفسر ق. يوحنا ذهبي الفم آية  لأنه كما بمعصية الإنسان الواحد جُعِلَ الكثيرون خطاة هكذا أيضًا بإطاعة الواحد سيُجعل الكثيرون أبرارًا  [5]، ويوضح كيف جعل آدم نسله خطاةً؟ ولكنه لم يذكر أي شيء عن توريث آدم خطيئته لنسله، بل ما نتج عن خطيئته أن الجميع صاروا فانيين من الفاني كالتالي: [6]

لأنه أن يكون ذاك [أي آدم] قد أخطأ وصار فانيًا، وأن كل مَن انحدر منه قد أخطأوا وصاروا فانيين، فهذا لا يُعد أمرًا غير طبيعيًا على الإطلاق، ولكن أن يصير آخر [أي المسيح] خطيةً بسبب معصية ذاك [أي آدم]، فأيّ علاقة طبيعية يمكن أن تقوم هنا؟ لأن هكذا سيُعتبر هذا الإنسان خاطئًا، دون أن يكون مسئولاً عن الحكم، طالما أنه لم يصر من ذاته خاطئًا. إذًا، ماذا تعني هنا كلمة خطاة؟ من ناحيتي يبدو لي أنهم تحت حكم الدينونة ومحكوم عليهم بالموت. ومن حيث أنه بموت آدم، قد صرنا جميعًا فانيين، فهذا قد بيَّنه الرسول بولس بوضوحٍ وبطرقٍ كثيرةٍ.

(يوحنا ذهبي الفم، تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية)

ولادة الأطفال بلا خطية

يُؤكِّد ق. يوحنا ذهبي الفم على حقيقة أنَّ نفوس الأطفال بعد السقوط ليست شريرة مثلها مثل نفوس الأبرار، وعلى العكس، مما أدَّعى أوغسطينوس وكالڤن بأن نفوس الأطفال شريرة ووارثة للخطية الأصلية رأسًا من نفس آدم الخاطئة كالتالي: [7]

لأن نفوس الأبرار هي في يد الله [8]. وإنْ كانت نفوس الأبرار هكذا، فإن نفوس أولئك الأطفال أيضًا؛ فليست هي شريرة، ونفوس الخاطئين أيضًا تُسَاق مباشرةً من هنا.

(يوحنا ذهبي الفم، شرح إنجيل متى ج2)

يرى ق. يوحنا ذهبيّ الفم أنَّ الأطفال بلا خطية، وأنهم يُعمَّدون لينالوا عطايا البر، والتقديس، و، وسُكنى الروح القدس فيهم، وليس بسبب وراثة الخطية الأصلية. حيث يقول التالي: [9]

ولهذا السبب نفسه نُعمِّد حتى الأطفال، ولو أنهم بلا خطية، ولكن لكيما ينالوا بقية العطايا من تقديس، وبر، واختبار للتبني والميراث، حتى يشَّبوا إخوةً وأعضاءً، ويصيروا هيكلاً للروح.

(يوحنا ذهبي الفم، عظات على المعمودية)

يؤكِّد ق. يوحنا ذهبي الفم في سياق تفسيره لحادثة قتل أطفال بيت لحم على خلو الأطفال من أية خطية موروثة أو فعلية، كما يؤكِّد على دخولهم الملكوت ونوالهم المكافآت -على خلاف أوغسطينوس وكالڤن الذين يؤكِّدان على أن مصير الأطفال غير المعمَّدين هو جهنم والهلاك الأبدي- بالرغم من أنهم كانوا قبل تدبير خلاص الرب، ولم يكونوا مُعمَّدين للخلاص من الخطية الأصلية الموروثة حسب المفهوم اﻷوغسطيني والكالڤيني. حيث يقول التالي: [10]

قد يُقال: أيّ نوع من الخطايا كان لهؤلاء الأطفال بحيث كان يجب أن يمحوه؟ حتى لو لم توجد خطايا، فإنه توجد مجازاة بمكافآت للذين يقاسون الشر هنا. فبأيّ شيء تضرر به الأطفال الصغار لدى ذبحهم لسبب مثل هذا؟ تقولون: لأنهم كانوا سيُحقِّقون أعمالاً عظيمةً وكثيرةً من البر لو عاشوا […] لهذا السبب يدخر الله لهم بشكلٍ مبكرٍ مكافأة ليست بصغيرة بإنهاء حياتهم لسبب كهذا. ولو كان الأطفال سيصيرون أشخاصًا عظامًا لما كان الله قد سمح لهم بأن يُختطَفوا قبلاً؛ لأنه إنْ كان الله يحتمل بآلام عظيمة جدًا الذين سوف يعيشون في الشر على الدوام، فبالحري أكثر ألا يأذن لهؤلاء الأطفال بالرحيل، لو سبق وعرف أنهم سيحرزون أمورًا عظيمةً.

(يوحنا ذهبي الفم، شرح إنجيل متى ج١)

يرى ق. يوحنا ذهبي الفم، على العكس من أوغسطينوس وكالڤن، أن موت الأطفال الأبرياء مغبوط، حيث يقول صاحب كتاب سر الموت التالي: [11]

انظر أنت تعيش خمسين أو مائة عام، تصبح ثريًا، ويصير لك أولادًا، وتعطي مهورًا ليتزوج أبناؤك وبناتك، وتسيطر وتحكم على أمم وشعوب. وبعد كل هذا يأتي الموت، وبعد الموت تأتي الدينونة التي ليس لها نهاية وليس فيها توبة. هذا هو السبب في أننا نعتبر أولئك الذين يموتون أطفالاً مباركين، ولهذا نقول كلنا نتمنى لو أننا مُتنا عندما كُنا أطفالاً! لأنه بالنسبة لنا نحن الأشخاص الأكبر سنًا، يكون كأس الموت خطيرًا بسبب خطايانا، بينما يكون الموت للأطفال نافعًا. وما نعتقده بداية العقاب هناك، فإنه بالنسبة لهؤلاء الأطفال بداية الخلاص، إذ ما هي الأشياء التي سيعطي الأطفال حسابًا عليها إذا لم يختبروا الخطيئة؟ من أجل ماذا سيُعاقبون عندما لا يكونون قد عرفوا الخير والشر بعد؟ […] أيها الأطفال المباركون، إن رقادكم مبارك أيضًا! يا موت غير الفاسدين إنك بداية الحياة الأبدية الحقيقية! أيتها النهاية يا بداية الفرح الذي لا ينتهي.

(نيقولاوس ب. ، سر الموت)

دحض التعليم بخطية الطبيعة أو الخطية الطبيعية

ينكر ذهبي الفم فكرة ”خطية الطبيعة“، التي نادى بها كلٌّ من أوغسطينوس وكالڤن، حيث يؤكد ذهبي الفم على حرية الإرادة في اختيار الفضيلة أو الرذيلة أثناء تفسيره لرسالة بولس الرسول إلى أفسس قائلًا: [12]

ماذا يعني بقوله بالطبيعة؟ إنه يقصد بكلمة الطبيعة هنا الولادة، كالباقين أيضًا، أي دون أن نتصرف في أيّ شيء بطريقة روحية. وحتى لا يُتهَم الجسد، ولكي لا يعتقد أحد أن هذا يمثل خطيةً كبيرةً، لاحظ كيف يُجنِّبهم ذلك بقوله: عاملين مشيئات الجسد والأفكار، أي شهوات اللذة. لقد أثارنا غضب الله، أي أننا كنا سبب الغضب، وليس شيئًا آخر سوى ذلك. لأنه كما أن الذي يُولَد من إنسان، هو بالطبيعة إنسان، هكذا نحن أيضًا، وكذلك الباقين، كُنا بالطبيعة أبناء الغضب.

(يوحنا ذهبي الفم، تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس)

وينفي ق. يوحنا ذهبي الفم أيضًا موضوع خطية الطبيعة في موضع آخر، قائلًا في تعليقه على سفر أيوب: [13]

إنه قال [يقصد أيوب]: ربما أخطأ بنيّ وجدَّفوا على الله في قلوبهم [14]. وإنْ كان هذا شيئًا ليس في طبيعتهم، لكنهم على كل حال بشر مُعرَّضون للسقوط. ألم تكن له هو نفسه مثل هذه الأفكار أبدًا؟ لذلك مهم جدًا الخوف والحذر حتى من هذه الخطايا الخفية.

(يوحنا ذهبي الفم، تفسير سفر أيوب)

حرية والإرادة ورفض الإرادة المقيَّدة بالشر

يرفض ق. يوحنا ذهبي الفم فكرة القدرية أو الجبرية على فعل الخير أو الشر، بل يرى أن الله يريد مننا أن نكون صالحين بإرادتنا كالتالي: [15]

أرأيت كيف أن هذا [الإيمان] أكثر صعوبةً؟ إذًا، فهو يُبرهن على كل شيء بالإيمان، لأن التأثير على الإرادة بواسطة الأفكار الإنسانية أكثر صعوبةً جدًا من التأثير على الطبيعة. ولهذا السبب فإن الله ذاته يرغب أن نكون صالحين بإرادتنا.

(يوحنا ذهبي الفم، تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس)

ويؤكد ذهبي الفم على أن السقوط في الخطية ناتج عن رغبة إرادية، لأن الإنسان لا يُجبَر على ارتكاب الخطية كالتالي: [16]

لكي نُدرِك أن السقوط في الخطية ناتج عن رغبة إرادية، فالإنسان لا يُجبَر على ارتكاب الخطية.

(يوحنا ذهبي الفم، تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية)

ويتحدث ذهبي الفم عن أن ممارسة البر أو ممارسة الإثم هو رهن بموقف النفس، وليس له علاقة بطبيعتها، داحضًا بذلك أي تعليم عن القدرية والجبرية، يجعل من البشر أبرارًا أو خطاةً بالطبيعة كالتالي: [17]

وبناءً على ذلك، فإن الجسد يوجد بين حالة الإثم والبر، مثلما يحدث بالنسبة للآلات [هناك آلات إثم وآلات بر]، وارتكاب الإثم أو ممارسة البر يتوقف على مَن يستخدم الآلات. كما يحدث مع الجندي الذي يحارب من أجل وطنه، والسارق الذي يتسلَّح ليهجم المواطنين، الاثنان يتحصنان بنفس الأسلحة. إذًا، فالجريمة ليست عملًا يتعلق بنوع السلاح المستخدَم، بل هي مسئولية أولئك الذين يستخدمون هذه الأسلحة لكي يفعلوا الشر. وهذا يمكن أن نقوله بالطبع في حالة الجسد، حيث يصير فعل الإثم أو فعل البر رهنًا بموقف النفس، وهذا ليس له علاقة بطبيعتها. لأن العين إذَا نظرت نظرةً غير بريئة للجمال، صارت آلةً للإثم، لا حسب طبيعتها أو عملها، لأن عمل العين هو أن تنظر، لكن هذا النظر لا يكون للشر، ولكن إذَا نظرت العين نظرةً غير نقية، فسيكون ذلك راجعًا للفكر الخبيث الذي أمر بهذا.

(يوحنا ذهبي الفم، تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية)

يرفض ق. يوحنا ذهبي الفم فكرة الإرادة المقيدة بالشر بعد السقوط، وفكرة العجز التام للطبيعة البشرية عن فعل الخير، مدافعًا عن حرية إرادة الإنسان في اختيار الخير والشر، الفضيلة والرذيلة، كالتالي: [18]

لكنك قد تقول إني مُضطر بسبب طبيعتي، نعم أنا أحب المسيح، لكنني مجبر بسبب طبيعتي. فإذَا كنت تعاني من العوز والقهر، فستنال الصفح، ولكن إنْ كان سقوطك بسبب اللامبالاة، فلن تنال أيّ صفح. إذًا، لنفحص هذا الأمر بالتدقيق، أي هل كان ارتكاب الخطايا نتيجةً لإجبار وإكراه، أم نتيجة تراخي ولامبالاة كبيرة للغاية. يقول الناموس: لا تقتل، أي إجبار وأي إكراه هنا؟ إذًا، فأنت تُكرِه نفسك على القتل. لأنه مَن منا يريد أن يغمس سيفه في رقبة قريبه، ويصبغ يده بالدماء؟ لا أحد. أرأيت أن العكس هو ما يحدث، فحين يخطئ المرء، لا يكون هذا راجعًا لضغوط وإكراه. لأن الله وضع حنوًا ورفقًا في طبيعتنا، حتى نحب بعضنا بعضًا، لأن الكتاب يقول: كل حيوان يحب نظيره، وكل إنسان قريبه [19]. أرأيت كيف أننا نحمل في طبيعتنا بذور الفضيلة؟ بينما بذور الشر، فهي خارج الطبيعة، فإنْ سادت علينا بذور الشر، فهذا دليل على تراخينا الشديد.

(يوحنا ذهبي الفم، تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس)

كما يرفض ذهبي الفم الإرادة المقيدة بالشر في موضع آخر قائلًا: [20]

والقوانين الوضعية أيضًا تعرف أن تصفح عن الخطايا التي تُرتكَب تحت ضغوط، ولا وجود لخطية تُرتكَب تحت ضغوط، بل أن الخطايا تنشأ من الفجور. فالله لم يخلق الطبيعة الإنسانية لترتكب الخطية بهذا الشكل، لأنه لو حدث هذا، لما كان هناك عقاب أو دينونة، لأننا نحن أيضًا لا نُحاسَب عن الخطايا التي تُرتكَب تحت ضغوط أو بالإكراه، وبالأكثر جدًا، يصفح الله الكليّ الصلاح، والمحب للبشر محبة فائقة، عن الخطايا التي تُرتكَب تحت ضغوط.

(يوحنا ذهبي الفم، تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس)

وأيضًا يرفض ذهبي الفم فكرة ”خطية الطبيعة“، التي نادى بها أوغسطينوس في صراعه مع الهرطقة البيلاجية، ونادى بها أيضًا چون كالڤن، حيث يؤكد على أن الفضيلة هي التي تتوافق مع الطبيعة، بينما الشر هو بخلاف الطبيعة تمامًا كالتالي: [21]

أرأيت كيف أن الفضيلة تتوافق مع الطبيعة، بينما الشر هو بخلاف الطبيعة تمامًا، كما هو الحال مع المرض والصحة؟ وما الذي يجبرك أن تكذب وأن تقسم؟ ليس هناك ما يدفع لذلك، فهذا أمر نلجأ إليه بمحض إرادتنا، وليس فيه أيّ إجبار.

(يوحنا ذهبي الفم، تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس)

وينكر ذهبي الفم فكرة ”خطية الطبيعة“ والإرادة البشرية المقيَّدة بالشر بعد السقوط، والعجز التام للطبيعة البشرية عن فعل الخير بعد السقوط، بل يؤكد على مبدأ التآزر أو ال بين النعمة والأعمال، ويشدد على أنه لا يوجد شيء شرير في الطبيعة قائلًا في تفسير رسالة بولس الرسول إلى أفسس: [22]

إن اهتمام الجسد هو التمتع، والإسراف، والطمع، وكل خطية. ولكن لماذا يدعو اهتمام الجسد، حيث إن الجسد لا يمكنه أن يفعل شيئًا بدون النفس؟ إنه لا يقول هذا لإدانة الجسد، مثلما يقول: الإنسان الطبيعيّ [23]، فهو لا يقول هذا لكي يدين النفس. لأنه لا الجسد ولا النفس لديهما القدرة من ذاتهما أن يصنعا أيّ شيء نبيل وعظيم، إنْ لم ينالا نعمة من فوق. من أجل هذا، فإن الأمور التي تمارسها النفس من ذاتها، تُسمَى 'أمور طبيعية‘، ليس لأنها طبيعية بالحق، بل لأنها تقود إلى الهلاك، إذ إنها لا تنال المعونة من الله. لأن الأعين أيضًا هي أعضاء جيدة، ولكنها بدون النور ترتكب أخطاءً لا حصر لها، وهذا يرجع لمرضها، وليس لطبيعتها. إذًا، لو كانت الأخطاء طبيعية، ما كُنا لنستطيع أن نستخدمها، حيث يجب أن نستخدمها؛ لأنه لا يوجد شيء شرير بالطبيعة.

(يوحنا ذهبي الفم، تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس)

يرفض ق. يوحنا ذهبي الفم رفضًا تامًا فكرة أن الطبيعة البشرية تُمارِس الشر بطريقة تلقائية، مثلما تحدَّث أوغسطينوس عن الإرادة المقيَّدة بالشر، والذنب الأصلي، وخطية الطبيعة. حيث يقول في تفسير سفر أيوب: [24]

لاحظ أيضًا إنه [الكتاب المقدس] قال عنه [يقصد أيوب]: يحيد عن كل شر [25] وليس فقط عن شر دون شر. أين هم الذين يقولون إن الطبيعة البشرية مائلة بطريقة تلقائية نحو الشر؟ أية مخالفة وأية شرائع جعلت أيوب على ما هو عليه؟ فلأن الكتاب قال: لأنه لا إنسان صديق في الأرض يعمل صلاحًا ولا يخطئ [26]، لذلك وصف الكتاب أيوب بأنه بلا لوم [كاملًا]. فليس فقط أنه لم يقترف أي عمل مُلوَّث بالخطية، بل أنه لم يقترف ولا حتى ما هو ملوم ومذموم.

(يوحنا ذهبي الفم، تفسير سفر أيوب)

هوامش ومصادر:
  1. يوحنا ذهبي الفم، تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية، ترجمة: د. ، ، 2013، عظة 11: 1، ص 246.  [🡁]
  2. يوحنا ذهبي الفم، تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية، ترجمة: د. سعيد حكيم، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2013، عظة 11: 1، ص 246.  [🡁]
  3. يوحنا ذهبي الفم، تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية، ترجمة: د. سعيد حكيم، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2013، عظة 11: 1، ص 247. [🡁]
  4. يوحنا ذهبي الفم، تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية، ترجمة: د. سعيد حكيم، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2013، عظة 11: 1، ص 248. [🡁]
  5. رسالة بولس الرسول إلى رومية 5: 19 [🡁]
  6. يوحنا ذهبي الفم، تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية، ترجمة: د. سعيد حكيم، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2013، عظة 11: 1، ص 251. [🡁]
  7. يوحنا ذهبي الفم، شرح إنجيل متى ج2، ترجمة: د. ، عظة 28: 3، ص 51. [🡁]
  8. سفر الحكمة 3: 1 [🡁]
  9. يوحنا ذهبي الفم، عظات على المعمودية، ترجمة: القمص ، ، 2007، عظة 3: 6، ص 64. [🡁]
  10. يوحنا ذهبي الفم، شرح إنجيل متى ج١، ترجمة: د. عدنان طرابلسي، عظة ١: ٣، ص ١٠٧، ١٠٨. [🡁]
  11. نيقولاوس ب. فاسيلياذيس، سر الموت، ترجمة: أ. غالب خليل إبراهيم والأب د. ميشال سابا، دار المشرق، 2011، ص 410، 411.
    وقول ق. يوحنا ذهبي الفم مأخوذ من عظة حول الصبر وحول عدم البكاء بمرارة على الموتى، مجموعة الآباء اليونان. آ. 60، 728. [🡁]
  12. يوحنا ذهبي الفم، تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس، ترجمة: د. سعيد حكيم، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2016، عظة 4: 1، ص 77. [🡁]
  13. يوحنا ذهبي الفم، تفسير سفر أيوب، ترجمة: ، ، 2008، تعليق على (سفر أيوب ١: ٥)، ص ٢٠. [🡁]
  14. سفر أيوب ١: ٥ [🡁]
  15. يوحنا ذهبي الفم، تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس، ترجمة: د. سعيد حكيم، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2016، عظة 3: 2، ص 61. [🡁]
  16. يوحنا ذهبي الفم، تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية، ترجمة: د. سعيد حكيم، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2013، عظة 6: 3، ص 146. [🡁]
  17. يوحنا ذهبي الفم، تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية، ترجمة: د. سعيد حكيم، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2013، عظة 12: 4، ص 271، 272. [🡁]
  18. يوحنا ذهبي الفم، تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس، ترجمة: د. سعيد حكيم، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2016، عظة 2: 3، ص 52، 53. [🡁]
  19. سفر 13: 15 [🡁]
  20. يوحنا ذهبي الفم، تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس، ترجمة: د. سعيد حكيم، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2016، عظة 2: 3، ص 53. [🡁]
  21. يوحنا ذهبي الفم، تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس، ترجمة: د. سعيد حكيم، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2016)، عظة 2: 4 ص 54. [🡁]
  22. يوحنا ذهبي الفم، تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس، ترجمة: د. سعيد حكيم، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2016، عظة 5: 4، ص 95. [🡁]
  23. رسالة بولس الأولى إلى كورنثوس 2: 14 [🡁]
  24. يوحنا ذهبي الفم، تفسير سفر أيوب، ترجمة: نشأت مرجان، مكتبة المحبة، 2008، تعليق على (سفر أيوب ١: ١)، ص ١٥. [🡁]
  25. سفر أيوب ١: ١ [🡁]
  26. سفر الجامعة ا٧: ٢٠ [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: الخلاص بين الشرق والغرب[الجزء السابق] 🠼 الخلاص بالنعمة وحدها عند چون كالڤن[الجزء التالي] 🠼 مفهوم السينرچيا عند ذهبي الفم
أنطون جرجس
بكالوريوس اللاهوت اﻷرثوذكسي في    [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
ترجمة كتاب: "الثالوث"، لل أسقف هيبو [٢٠٢١]
كتاب: عظات القديس على سفر الجامعة [٢٠٢٢]
ترجمة كتاب: "ضد "، للقديس غريغوريوس النيسي [٢٠٢٣]
كتاب: الطبيعة والنعمة بين الشرق والغرب [٢٠٢٣]
كتاب: مونارخية الآب في تعليم آباء الكنيسة [٢٠٢٤]