إحدى ضروب “الهلس” الي هو إسباغ القداسة على المجامع، وإضفاء العصمة على قراراتها، “مستدعين” الروح القدس لينسبوا إليه هذه القرارات دون حياء. واستعمل هنا مفردة “الهلس” لأن الأمر مشاع بين الغرض والغباء، بعض الإكليروس وكنائسهم ينتهجون هذا “الهلس” لأغراض بناء أسوار بين شعوبهم والتفكير، في حين ينتهج الآخرون هذا “الهلس” لأنهم هم “هلس”، فلا يستطيعون إنتاج شيئا أفضل من “الهلس”.

الكذب على المجامع مظهر آخر للإكليروس “الهلس”، ومرة أخرى نصفهم بـ”الهلس” لأن الأمر أيضًا مشاع بين الغرض الخبيث والغباء والجهل، بعضهم يكذب واعيًا عامدًا متعمدًا، والبعض سمع الكذب فاستمر يجتره كالجاموسة “العشر” وجميعهم في “الهلس” سواء.

إحدى أكبر الأكاذيب التي ترتبط بمجمع “نيقية” هو علاقته بتحديد موعد ، بالطريقة التي نحدد بها موعد العيد حاليًا. في الواقع إن الإسهام الملموس لهذا المجمع فيمَا يخص هذا الموضوع هو فقط تخطئة بدعة “الأربعشرية” وهي الاحتفال بالصلب يوم أربعة عشر نيسان مع .

عدا هذا قرر المجمع ثلاث محددات لعيد القيامة:

الأولى: أن يحتفل بالعيد يوم الأحد حصرًا.
(وذلك للقضاء على بدعة الأربعشرية)

الثانية: ألا يُحتفل بالعيد إذا توافق مع الفصح اليهودي في نفس اليوم.
(وهذا أيضًا يرتبط بالقضاء على بدعة الأربعشرية)

الثالثة: منع الاحتفال بالعيد مرتين في عام واحد.

 n

وهذا البند الأخير هو ما يستحق التعليق، فالمقصود كما يقول “هيفيليه” في موسوعته الأكثر موثوقية والأشمل “تاريخ المجامع” هو اعتبار الاعتدال الربيعي كنقطة مرجعية وليس أي تاريخ آخر، وحيث أن الاعتدال الربيعي هو موعد محدد ثابت سنويًا، لا علاقة له بالقمر، يكون الاحتفال بالعيد في ميعاد ثابت لاحق للاعتدال الربيعي هو ما قرره آباء نيقية.

قبل أن نتطرق لكيفية تعامل الكنائس مع ما وصل إليه المجمع، دعنا -عزيزي القارئ- نزيح الفرايا والأكاذيب التي ربطوها بالمجمع.

هل هناك أي ارتباط مجمعي لتاريخي القيامة والفصح اليهودي؟
على الإطلاق، لا رمز ولا مرموز، لا قبل ولا بعد، ولا أدنى علاقة، العكس تمامًا، حرص المجمع على نفي أي وشيجة لهذا الارتباط.

هل حسم المجمع الخلاف في طرق حساب موعد العيد بين الكنائس المختلفة؟
بعد أن حسم المجمع قراره بفض الارتباط بين موعد الصلب وموعد الفصح اليهودي بحرمه لبدعة الأربعشرية، تجاهل الاختلافات بين طرق حسابات تحديد موعد العيد.

الخلاف الأشهر كان بين الإسكندرية وروما، بداية من موعد الاعتدال الربيعي، فبينما كان السكندريون يحتفلون به في 21 مارس بالتقويم اليولياني، كان الرومان يحتفلون به في 18 مارس، وكلاهما في محاولة للربط بين اليولياني و العبري (لتحديد موعد بَدْء الفصح اليهودي) استعمل دورة مختلفة، فبينما استعمل السكندريون الدورة الميتونية ذات التسعة عشر عامًا، استعمل الرومان دورة طولها 84 عامًا.

كان هذا الاختلاف كفيلًا ألا يتطابق موعد العيد في أحيان كثيرة بين الكنيستين.

والسؤال هنا: هل تجاهل المجمع هذا الخلاف على الرغم من اهتمامه الشديد بتوحيد موعد العيد بين الجميع، أم أنه بتحديده القاطع بمنع الاحتفال بالعيد مرتين في سنة واحدة، كان يوجه الكنائس إلى تثبيت موعد العيد في ميعاد محدد؟
لن تسعفنا المصادر المتاحة للوصول إلى إجابة ناجزة على هذا السؤال.

هل أتى ذكر الأبقطي (طريقة الحساب السكندرية لموعد العيد) في مناقشات المجمع؟
لا، لم يحدث.

هل كلف المجمع كنيسة الإسكندرية -لباعها الطويل في شئون الفلك- بتحديد موعد العيد وإعلانه لباقي الكنائس؟
لا توجد في قرارات المجمع ورسائله أية إشارة لهذه الفرية، حتى رسالة “قسطنطين” إلى شعب الإسكندرية التي جمل فيها قرارات المجمع لم تحمل هذه البشارة، ولو كانت حقيقية لكان ضروريًا أن تحوي هذه الرسالة ما يشير لهذا التكليف.

مع هذا، أورد “هيفيليه” مقولة للقديس كيرلس دون ذكر مصدرها (حاولت البحث عنها ولم أصل إليها، وأظنها مدسوسة) ودون ربطها بنيقية، بل ربما تكون في تقديري -في أحسن أحوالها- اقتراحًا لأحد المجامع المحلية اللاحقة لنيقية وتحديدًا أنطاكيَة المنعقد سنة 341م أو سرديقية المنعقد سنة 343م، التي أعادت مناقشة الأمر مرة أخرى في محاولة للتوحيد، فيقول القديس كيرلس: إن المجمع كلف الإسكندرية تحديد موعد العيد وإرساله لروما التي تتولى إعلانه لباقي الكنائس بـ”السلطان الرسولي” لبابا روما.
فهل يقبل من يروجون لهذه الكذبة هذه الصياغة؟

 n

ومع هذا لم تنفذ هذه التوصية.

كيف تعاملت الكنائس مع قرارات نيقية؟
باستثناء أصحاب الأربعشرية، لم تلتزم أي كنيسة بهذه القرارات، وبقيت كل كنيسة على طريقتها المستخدمة لتحديد موعد العيد، حتى أن العيد اللاحق مباشرة لنيقية لم يكن موحدًا، واستمر الاختلاف في سنوات عديدة لاحقة.

 n

هل آن الأوان لتفعيل قرارات نيقية؟
كما أسلفت، فقد تجاهلت جميع الكنائس المحدد الثالث لموعد عيد القيامة في موقف يثير الاندهاش حتما، مع هذه القداسة التي يسبغونها على المجامع وسنينها والمجتمعين فيها.

والأكثر دهشة، أنهم يستعملون طرق بهلوانية -أرجو ألا يظنوا أنها مقدسة- لتحديد شيء غامض لا أفهمه؛ يقولون إنهم عن طريقها يصلون لموعد “ذبح خروف الفصح”، وإن سألت لماذا وما علاقتنا نحن بالفصح اليهودي! لهم فصحهم ولنا فصحنا، ستسمع إجابات ما أنزل الله بها من سلطان عن الرمز والمرموز وهراء آخر ثقيل لن تطيقه معدتك.

الأدهى، إنك بسهولة ستكتشف أن طريقة الحساب هذه نادرًا ما تصادف الموعد “الفعلي” لذبح خروف الفصح، بل أن الفارق يصل أحيانًا لخمسة أسابيع كاملة، وإن استفهمت، ستسمع عجبًا، أن ما نحدده هو موعد ذبح الخروف “الحسابي” وأنه لا شأن لنا بموعد ذبح الخروف الفعلي، ولا تعلم وقتها أين ذهبوا بالرمز والمرموز.

فإن وجب علينا الارتباط بموعد الفصح اليهودي، فيجب أن نحتفل بالقيامة في الأحد الواقع في أسبوع الفصح وهو ما لا يحدث إلا نادرًا، وإن لم يجب علينا هذا الارتباط، فما الداعي لهذه الأكروبات الحسابية؟

فعليا الأمر في منتهى البساطة، وهو واضح وضوح شمس أغسطس، يجب ألا نحتفل بالعيد مرتين في عام واحد كما يفعل اليهود الضالين وهذا بنص كلمات قسطنطين في رسالته لمن لم يحضر المجمع.

 n

ولا يعني هذا سوى الاحتفال به في أسبوع محدد سلفًا، تالي للاعتدال الربيعي، ولا يتبقى إلا اتفاق الكنائس على هذا الأسبوع، ويعيدوا الاعتبار إلى نيقية، الذي يتشدقون بقدسيته.

خاتمة أولى:
لا أحمل تقديرًا كبيرًا للمجامع وأحداثها، وأراها ملاعب فخمة للشيطان، ولكني ولا شك أقبل منها كل ما يتفق مع عقلي، الأمر الذي ينطبق على هذا الموضوع.

خاتمة ثانية:
بالتأكيد لن أعدم من يقول تعليقًا على المكتوب: “يعني بعد القرون دي كلها، أنت اللي جبت التايهة!!” وسأجيبه: نعم، وعليه أن يتوقع مني أن آتيه دائمًا بالتايهة، لسبب بسيط، هو إنني لست مغرضًا أو غبيًا.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

رجائي شنودة
[ + مقالات ]