المقال رقم 3 من 3 في سلسلة تناول يهوذا

سوف نستعرض معًا الإشارات إلى تناول يهوذا الإسخريوطيّ من سر ال في التقليد الأورشليميّ، في إطار تأكيد التقليد الأورشليميّ على هذه الحادثة من أجل أمور رعوية وكنسية آنذاك تتعلق بتقدُّم الخاطئ إلى سر الإفخارستيا وقبول مناولته من عدمه.

ق. كيرلس الأورشليمي 314-387م

يرى ق. كيرلس الأورشليميّ أن يهوذا قد خان السيد المسيح إذ قد كفر بنعمة رب البيت، لأنه بعد أن جلس إلى مائدته وشرب كأس البركة، فأراد مقابل كأس الخلاص أن يسفك دمًا ذكيًا: الآكل خبزه قد داسه بالأقدام [1]؛ وبينما لم تتلق بعد يداه خبز البركة حتى أسرع ليسلِّمه إلى الموت، ويستخدم ق. كيرلس الأورشليمي أيضًا، مثل ق. ّ، نبوة (مزمور 40: 10) كنبوة مُسبَقة عن تناول يهوذا من سر الافخارستيا كالتالي: [2]

هل تريد أن تعرف بوضوحٍ أن مجد يسوع هو الصليب؟ فاسمع إذًا ما يقوله يسوع نفسه وليس أنا: كان يهوذا قد خانه إذ كفر بنعمة رب البيت، بعد أن جلس إلى مائدته وشرب كأس البركة، وأراد مقابل كأس الخلاص أن يسفك دمًا ذكيًا: الآكل خبزه قد داسه بالأقدام [3]؛ لم تتلق بعد يداه خبز البركة حتى أسرع ليسلِّمه إلى الموت، حبًا بمال الخيانة. لقد اضطر أن يؤمن إذ هو سمع: أنت قلت [4]، ومع ذلك خرج ليسلِّمه.

(كيرلس الأورشليمي، العظات)

نأتي إلى إشارات ّ لحادثة تناول يهوذا الإسخريوطيّ من سر الإفخارستيا في الذي أقامه الرب يسوع ليلة آلامه وصلبه، في إطار التأكيد على أهمية هذه الحادثة من الناحية الرعوية والكنسية آنذاك.

ق. يوحنا ذهبي الفم 347-407م

يُؤكِّد ق. يوحنا ذهبيّ الفم على أن المسيح له المجد لم يطرد يهوذا الخائن من المائدة المقدَّسة، بل باشتراكه مع بقية التلاميذ، جعله شريكًا في الأسرار، أي الإفخارستيا، في سياق تأكيده على تناول يهوذا من سر الإفخارستيا قائلًا: [5]

إذًا، فالمكان الواحد يسعكم جميعًا، وتتحدوا معًا في شركة واحدة، لكن المائدة ليست واحدة في هذا الاجتماع. ولم يقل، فحين تجتمعون ولا تأكلون معًا، أو لا تأكلون في شركةٍ واحدةٍ، لكنه تكلَّم بأسلوبٍ آخر، وأدانهم بصورةٍ مخيفةٍ، بأن قال: ليس هو لأكل عشاء الرب. وأحالهم – انطلاقًا من هذا الكلام -إلى تلك الليلة التي فيها سلَّم المسيح الأسرار المهيبة. لذلك فقد دعا إلى العشاء الأفضل، لأن العشاء الأخير يشترك فيه الجميع على نفس المائدة كل يوم. وإنْ كان الفارق بين الأغنياء والفقراء ليس بالقدر الذي عليه الفارق بين المعلِّم والتلاميذ، لأن ذلك الفارق كان بلا حدود. ولماذا أتحدَّث عمَّا كان من فارق بين المعلِّم والتلاميذ؟ فكَّر في المسافة التي تفصل بين المعلِّم والخائن [يهوذا]، ومع هذا فإن هذا الخائن جلس مع التلاميذ، ولم يطرده المسيح له المجد، بل باشتراكه مع بقية التلاميذ، جعله شريكًا في الأسرار.

(، تفسير رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس ج٢)

يشير ق. يوحنا ذهبيّ الفم إلى أن يهوذا بعدما تناول الإفخارستيا في العشاء الأخير في تلك الليلة الأخيرة، فإنه ذهب مسرعًا في حين بقي الآخرون على مائدة الإفخارستيا كالتالي: [6]

يهوذا بعدما تناول في العشاء الأخير في تلك الليلة الأخيرة، ذهب مسرعًا بينما بقا الآخرون على المائدة.

(John Chrysostom (St.), On the Feast of the Epiphany)

ويُحذِّرنا ق. يوحنا ذهبيّ الفم من التقدُّم إلى مائدة الإفخارستيا الرهيبة مثل يهوذا الشرير الذي بعدما تناول خبز الإفخارستيا، دخله فسلَّم الربَّ، في سياق تأكيده على تناول يهوذا من سر الإفخارستيا قائلًا: [7]

هذا هو يوم التقدُّم إلى المائدة الرهيبة. فلنتقدَّم كلنا إليها بطهارةٍ، ولا يكُن أحدُنا شريرًا مثل يهوذا، لأنه مكتوبٌ: لما تناول الخبز دخله الشيطان فسلَّم ربَّ المجد. وليفحص كلٍّ واحد منا ذاته قبل أن يتقدَّم إلى جسد ودم المسيح لكيلا يكون له دينونة، لأنه ليس إنسان الذي يُناوِل الخبز والدم، ولكن هو المسيح الذي صُلِبَ عنا، وهو القائم على هذه المائدة بسرٍّ، هذا الذي له القوة والنعمة يقول: 'هذا هو جسدي.

(النص اليوناني للعظة: PG XLIX, 389-390؛ والنص القبطي للعظة: MS Copto Vat. XCVIII fol. 232v-233)

يُؤكِّد ق. يوحنا ذهبيّ الفم على حضور يهوذا في أثناء تأسيس السيد المسيح لسر الإفخارستيا عندما قال: ”هذا هو جسدي“ و ”هذا هو دمي“، وإنه اشترك في المائدة المقدَّسة، مثله مثل باقي الرسل، وذلك في سياق تأكيده على تناول يهوذا من سر الإفخارستيا قائلًا: [8]

وبينما هم يأكلون ويشربون أخذ يسوع الخبز وكسر، وقال: هذا هو جسدي الذي يُكسَر لأجلكم لمغفرة الخطايا. والذين انضموا إلي الكنيسة يعرفون هذه الكلمات. وأيضًا قائلًا عن الكأس: هذا هو دمي الذي يُسفَك عن كثيرين لمغفرة الخطايا. وكان يهوذا حاضرًا عندما قال المسيح هذه الكلمات. هذا هو الجسد الذي بعته أنت بثلاثين قطعة من الفضة […] يا لمحبة المسيح الفائقة للجنس البشري، ويا لعظم جنون وانعدام العقل ليهوذا، لأنه باع المسيح بثلاثين دينارًا، ولكن المسيح مع هذا لم يرفض أن يعطيه غفران الخطايا، أي الدَّم نفسه الذي باعه يهوذا، لأن يهوذا كان هناك حقًا واشترك في المائدة المقدَّسة. وكما أن يسوع غسل قدمي يهوذا مع باقي الرسل، هكذا أيضًا مع باقي الرسل، كان مشتركًا في المائدة المقدَّسة، لكيلا يكون له عذرًا في الدفاع عن خيانته.

(«Daniel J. Sheerin, The Eucharist «Message of the Fathers of the Church Series)

يتحدَّث ق. يوحنا ذهبيّ الفم عن الذين يتناولون بغير استحقاق من الأسرار الإلهية، أن هؤلاء على وجه الخصوص هم الذين يغزوهم الشرير، ويدخل فيهم أيضًا، مثلما فعل الشيطان مع يهوذا قديمًا عندما تناول يهوذا من الإفخارستيا كالتالي: [9]

لتكونوا غير مخادعين، غير ممتلئين بالشر، غير حاملين للحقد في عقولكم، لئلا تناولكم يؤدي إلي دينونة. لأنه بعد أن تناول يهوذا مما قُدِّمَ، دخل الشرير فيه، ليس لأن الشرير يزدري بجسد الربِّ، ولكن يزدري بيهوذا وخزيه. ولهذا فيمكنكم أن تتعلَّموا أنه فيمَا يتعلق بمَّن يتناولون بغير استحقاق من الأسرار الإلهية، أن هؤلاء على وجه الخصوص هم الذين يغزوهم الشرير، ويدخل فيهم أيضًا، مثلما فعل الشيطان مع يهوذا قديمًا.

(John Chrysostom (St.), On the Betrayal by Judas)

ويُؤكِّد ق. يوحنا ذهبيّ الفم على دينونة يهوذا الخائن بسبب مشاركته في مائدة المسيح وفي الأسرار وفي الطعام، وذلك لكي يؤكد على حادثة تناول يهوذا من سر الإفخارستيا قائلًا: [10]

وعند حلول المساء اتكأ [المسيح] مع الإثني عشر [11]. يا لخزي يهوذا! لأنه هو أيضًا كان حاضرًا أيضًا هناك، وأتى ليشارك في الأسرار والطعام معًا، وقد أُدِينَ عند نفس المائدة، حيث كان سيُروَّض لو كن وحشًا ضاريًا. لهذا السبب يشير الإنجيليّ أيضًا إلى أن المسيح تحدَّث عن خيانته بينما كانوا يأكلون، لكي يُظهِر شرَّ الخائن بواسطة وقت الحديث وبالمائدة معًا.

(يوحنا ذهبي الفم، شرح إنجيل متى ج4)

ويُوضِّح ق. يوحنا ذهبيّ الفم أيضًا أن يهوذا الخائن ظلَّ على حاله بالرغم من مشاركته في الأسرار، ورغم أن المسيح سمح له بالمجيء إلى المائدة الأكثر رهبةً، إلا أنه لم يتغيَّر، وذلك في سياق تأكيده على تناول يهوذا من سر الإفخارستيا كالتالي: [12]

آهٍ! ما أعظم عمى الخائن [يهوذا]! حتى بعد المشاركة في الأسرار، بقي على حاله؛ وبعد أن سمح له بالمجيء إلى المائدة الأكثر رهبةً لم يتغيَّر!.

(يوحنا ذهبي الفم، شرح إنجيل متى ج4)

ويستطرد ق. يوحنا ذهبيّ الفم في نفس السياق، مؤكدًا على أن خطية يهوذا صارت أبشع حقًا لسببين، لأنه أتى إلى الأسرار في موقف الخيانة، ولأنه لم يصر أفضل بعد الاقتراب من الأسرار كالتالي: [13]

ويُظهِر لوقا هذا بالقول إنه [يهوذا] بعد هذا دخل إبليس فيه [14]، ولا يقصد لوقا أن يحتقر جسد الربِّ، بل ضحك ازدراءً منه على خزي الخائن من الْآنَ فصاعدًا. لأن خطيئته صارت أبشع حقًا لسببين: لأنه أتى إلى الأسرار بموقف كهذا، ولأنه لم يصر أفضل بعد أن اقترب منها، لا من الخوف، ولا من الفائدة، ولا من الكرامة. لكن المسيح لم يمنعه مع أنه كان يعرف كل شيء، لكي تتعلَّموا أنه لا يُغفِل أيّ شيء من الأشياء التي تخص الإصلاح.

(يوحنا ذهبي الفم، شرح إنجيل متى ج4)

ويُوضِّح ق. يوحنا ذهبيّ الفم أن المسيح أراد تخجيل الخائن، ولكنه بعد المشاركة في الخبز، أهان المائدة، وبالرغم من مشاركته في كرم المسيح، لم يُردِعه هذا، وذلك في سياق تأكيده على تناول يهوذا الإسخريوطيّ من سر الإفخارستيا كالتالي: [15]

وحتى الطريقة التي استخدمها المسيح كان مُقدَّرًا لها أن تُخجِّل الخائن. لأن بعد المشاركة في نفس الخبز، أهان المائدة. وبفرض أن مشاركته في كَرَم المسيح لم يُردِعه، فمَّن هو الشخص الذي لا تستميله المحبة نحو المسيح لنوال اللقمة منه؟ لكنها لم تستمل يهوذا. لذلك، فبعد اللقمة دخله الشيطان [16] مستهزئًا به لوقاحته.

(يوحنا ذهبي الفم، شرح وعظات إنجيل يوحنا ج3)

هوامش ومصادر:
  1. مزمور 40: 10 [🡁]
  2. كيرلس الأورشليمي، العظات، ترجمة: الأب ، رابطة معاهد اللاهوت في الشر الأوسط – جامعة الكسليك، 1982، عظة 13: 6، ص 214. [🡁]
  3. مزمور 40: 10 [🡁]
  4. إنجيل متى 26: 25 [🡁]
  5. يوحنا ذهبي الفم، تفسير رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس ج٢، ترجمة: د. ، ، ٢٠١٧، عظة ٢٧: ٣، ص ١٥٠، ١٥١. [🡁]
  6. John Chrysostom (St.), On the Feast of the Epiphany, Reflection 26-2, Synaxarion Orthodoxia[🡁]
  7. النص اليوناني للعظة: PG XLIX, 389-390؛ والنص القبطي للعظة: MS Copto Vat. XCVIII fol. 232v-233. [🡁]
  8. Daniel J. Sheerin, The Eucharist (Message of the Fathers of the Church Series, Vol. 7), (M. Glazier, 1986), pp. 144-145. [🡁]
  9. John Chrysostom (St.), On the Betrayal by Judas 1.6, ACC IV b, CIII [🡁]
  10. يوحنا ذهبي الفم، شرح إنجيل متى ج4، ترجمة: د. ، (لبنان، 2008)، عظة 81: 1، ص 125.[🡁]
  11. إنجيل متى 26: 20 [🡁]
  12. المرجع السابق، عظة 82: 1، ص 131. [🡁]
  13. المرجع السابق، عظة 82: 1، ص 131. [🡁]
  14. إنجيل لوقا 22: 3؛ إنجيل يوحنا 13: 27[🡁]
  15. يوحنا ذهبي الفم، شرح وعظات إنجيل يوحنا ج3، ترجمة: راهب من برية شيهيت، (القاهرة: ، 2008)، عظة 72، ص 32. [🡁]
  16. إنجيل يوحنا 13: 27[🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: تناول يهوذا[الجزء السابق] 🠼 إشارات التقليد الإسكندري[الجزء التالي] 🠼 إشارات التقليدين الكبادوكي والسرياني
أنطون جرجس
بكالوريوس اللاهوت اﻷرثوذكسي في   [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: عظات القديس على سفر الجامعة
ترجمة كتاب: "الثالوث"، للقديس أسقف هيبو
ترجمة كتاب: "ضد "، للقديس غريغوريوس النيسي