- إشارات الكتاب المقدس
- ☑ إشارات التقليد الإسكندري
- التقليدين الأورشليمي والأنطاكي
- إشارات التقليدين الكبادوكي والسرياني
سوف نستعرض في هذا الجزء إشارات آباء كنيسة الإسكندرية عبر العصور المختلفة إلى تناول يهوذا الإسخريوطيّ من سر الإفخارستيا في العشاء الأخير، للتأكيد على وجود اتفاق في التقليد الإسكندريّ على هذه الحادثة، وكيف استخدم آباء كنيسة الإسكندرية هذه الحادثة من أجل أمور رعوية وكنسية تختص بالموقف من مُناولة الخاطئ المتقدِّم إلى سر الإفخارستيا.
العلامة أوريجينوس 185-253م
يُؤكِّد العلامة الإسكندريّ أوريجينوس، الذي كان على دراية بالتقاليد والطقوس اليهودية في عيد الفصح، على تناول يهوذا من الإفخارستيا، ويُعتبر التقليد الذي ينقله العلامة أوريجينوس هو من أقدم التقاليد التي تؤكِّد على تناول من سر الإفخارستيا في العالم المسيحيّ عامةً وفي التقليد الإسكندريّ خاصةً كالتالي: [1]
لأن مَن يأكل بدون استحقاق خبز الربِّ أو يشرب كأسه، يأكل ويشرب دينونة، لأن القوة العظيمة الموجودة في الخبز والكأس، تثمر صلاحًا في النفوس الصالحة، وينتج عنها أمور شريرة في النفوس الرديئة! اللقمة التي أخذها يهوذا من يسوع كانت هي نفس اللقمة، التي أعطاها لباقي الرسل الآخرين قائلاً: خذوا كلوا، كانت خلاصًا لهم ودينونةً ليهوذا، لذلك بعد اللقمة، دخله الشيطان(Origen of Alexandria, In Johannem)
ق. كيرلس الإسكندري 376-444م
يُؤكِّد ق. كيرلس الإسكندريّ على تناول يهوذا من سر الإفخارستيا في تفسيره لإنجيل لوقا، حيث تلطف الرب وأدخله إلى المائدة المقدَّسة، وإلى أعلى الكرامات، ولكنه صار الواسطة والوسيلة لقتل المسيح بخيانته كالتالي: [2]
كما أنه يضيف إلى ذلك أنه أحد الأثنى عشر، وهذا أيضًا أمرٌ له أهمية عظيمة ليُظهِر بوضوحٍ تامٍ شناعة جريمة الخائن. لقد كان معادلاً في الكرامة للباقين، وكان مُزيَّنًا بكل الكرامات الرسولية، ولكن هذا المختار والمحبوب، والذي تلطَّف الربُّ وأدخله إلى المائدة المقدَّسة، وإلى أعلى الكرامات، صار الواسطة والوسيلة لقتل المسيح، […] لأن واحدًا من البشيرين القديسين يقول بخصوصه إنه بينما كان المخلِّص متكئًا على المائدة مع باقي التلاميذ، فإنه أعطاه لقمةً بعد أن غمسها في الصفحة:.فبعد اللقمة دخله الشيطان[3](كيرلس الإسكندري، تفسير إنجيل لوقا)
ويُوضِّح ق. كيرلس الإسكندريّ في سياق تأكيده على تناول يهوذا الإسخريوطيّ من سر الإفخارستيا أن الربَّ سمح ليهوذا، وتنازل، ودعاه إلى المائدة، وقد حُسِبَ أهلاً للطف اﻹلهي حتى النهاية، لكن بهذا صارت عقوبته أكثر شدةً قائلاً: [4]
أمَّا يهوذا الخائن الذي كان يأكل معه فقد توبخ بتلك الكلمات التى قالها المسيح: 'ولكن هوذا يد الذي يسلِّمني هي معي على المائدة‘. ﻷنه ربما تخيل في حماقته العظيمة، أو ربما باﻷحرى لكونه امتلأ بكبرياء إبليس أنه يمكنه أن يخدع المسيح مع أنه اﻹله، لكن كما قلتُ، إنه أُدين لكونه باﻹجمال شريرًا ومبغضًا لله وخائنًا. ومع هذا فقد سمح له الرب وتنازل ودعاه إلى المائدة، وقد حُسِب أهلاً للطف اﻹلهي حتى النهاية، لكن بهذا صارت عقوبته أكثر شدةً.(كيرلس الإسكندري، تفسير إنجيل لوقا)
ويشير ق. كيرلس الإسكندريّ إلى اشتراك يهوذا في المائدة المقدَّسة مع المسيح مثله مثل باقي التلاميذ، وهكذا يؤكِّد ق. كيرلس على تناول يهوذا من عشاء الفصح واشتراكه أيضًا في التناول من المائدة المقدَّسة، في سياق تأكيده على تناول يهوذا من سر الإفخارستيا كالتالي: [5]
لأن ذاك الذي كان يتعشى مع المسيح منذ قليل، وأكل معه، واشترك في المائدة المقدَّسة، ومثل بقية التلاميذ كانت له فرصة الانتفاع بكلماته التي تحث على البرِّ، وقد سمعه وهو يعلن بوضوحٍ إن 'واحدًا منكم يُسلِّمني‘، وكأنه إذ سمع هذا القول، قفز من مكانه على نفس المائدة، وبعد أن كان متكئًا معه، أسرع في الحال إلى اليهود ليأخذ أجرة خيانته منهم، فهو لم يهتم بكلمات المسيح الملهمة، ولم يُفكِّر في المجد الآتيّ، ولم يُبالِ بالكرامة المعطَاة له، وباختصارٍ، فإنه فضَّل مبلغًا ضئيلاً وخسيسًا من المال على السعادة الكاملة التي لا نهاية لها، وبرهَّن أنه هو الشبكة أو الفخ الذي اصطاد به الشيطان المسيح، هذا الشيطان الذي هو المحرِّك والعامل مع اليهود في شرهم ضد الله.(كيرلس الإسكندري، شرح إنجيل يوحنا مج2)
ويستخدم ق. كيرلس الإسكندريّ نبوة (مز 41: 9) ”الذي يأكل خبزي رفع عليَّ عقبه“، وما خبز الربِّ الذي أكله يهوذا سوى جسده المقدَّس، وذلك في سياق تأكيده على تناول يهوذا الإسخريوطيّ من سر الإفخارستيا قائلًا: [6]
ولكن المخلِّص لم يُعطِه أي توضيح أكثر عن الأمر سوى ما سبق أن أنبأ به الأنبياء قديمًا بالقول:الذي يأكل خبزي رفع عليَّ عقبه[7]. فحينما غمس اللقمة، أعطاها ليهوذا، مبينًا أنه هو الذي كان يأكل خبزه. وهكذا أزال الخوف الذي شعر به التلاميذ القديسون، كما يبدو أيضًا إنه يُذكِّرهم بنبوةٍ أخرى، وهي التي تقول:بل أنت إنسان عديلي إلفي وصديقي. الذي معه كانت تحلو لنا العشرة: إلى بيت الله كُنَّا نذهب في الجمهور[8]. ففي وقت ما كان الخائن نفسه رفيقًا وصديقًا للمخلِّص، يأكل معه على نفس المائدة، ويشترك في كل شيء مما يُحسَب علامة مُميَّزة للتلمذة؛ إذ إنه كان له نصيب بين التلاميذ الآخرين، الذين كرَّسوا كل حياتهم للمخلِّص.(كيرلس الإسكندري، شرح إنجيل يوحنا مج2)
ويستطرد ق. كيرلس في نفس السياق مُطبِّقًا نبوة (مزمور 41: 9) على تناول يهوذا من الإفخارستيا، حيث يؤكِّد على أن اللقمة التي أخذها يهوذا لم تكن هي سبب امتلاك الشيطان عليه، ويستنكر أن تكون لقمة البركة التي أخذها يهوذا، أي الإفخارستيا، هي التي أعطت فرصة للشرير أن يدخل فيه كالتالي: [9]
لأنه حينما غمس اللقمة أعطاها له، مبينًا بذلك مَن هو الذي أكل خبزه، وكان على وشك أن يرفع عليه عقبه. ولكن الإنجيليّ الحكيم جدًا يخبرنا أن الذي قاده وغرس فيه عدم تقواه والقسوة الملعونة ضد المسيح، والمخترع لكل الخطة، قد دخل قلب الخائن، أي الشيطان بكل قوته الشريرة قد سكن في داخله بعد أن أخذ اللقمة. ولا ينبغي أن يظن أحدٌ أن اللقمة التي أخذها الخائن كانت هي سبب امتلاك الشيطان له، فنحن لم نصل إلى حدّ الجنون، ولن نكون فاقدين لكل ذكاء حتى نظن أن مثل هذه البركة هي التي أعطت الفرصة للشرير أن يدخل فيه، بل بالحري نقول -حسب ما يتفق مع الحق من جهة الخائن- رغم المحبة الكاملة التي عُومِلَ بها، ورغم الكرامة التي أُعطِيَت له، فإنه ظلَّ متعلقًا بشدةٍ بنفس الأفكار الشريرة، ولم يحاول أن يصلح أفكاره بالتوبة، ولم يحول قلبه بعيدًا عن خططه المضادة التقوى.(كيرلس الإسكندري، شرح إنجيل يوحنا مج2)
ويرى ق. كيرلس الإسكندريّ أن يهوذا لم يُقدِّر موهبة الإفخارستيا التي نالها من المسيح، بل أسرع للخيانة دون تريث أو تفكير أو مراجعة نفسه للحظةٍ واحدةٍ، وذلك في سياق تأكيده على تناول يهوذا من سر الإفخارستيا قائلًا: [10]
لذلك، فما حدث هو أن الخائن لم يفزع من التوبيخات التي قيلت سرًا وبهدوء، ولم يقدِّر قوة المحبة غير المغلوبة، ولا الكرامة والمجد والنعمة، ولا قدَّر موهبة الإفخارستيا التي نالها من المسيح. بل أسرع دون تريث ليفكِّر أو يراجع نفسه لحظة واحدة، بل إذ كانت عيناه مثبتةً على ذلك وحده، الذي ثبُت أن له تأثير قوي عليه، وأعني بذلك لعنة الطمع، فإنه وقع في الشرك في نهاية الأمر، وهوى إلى الدمار التام.(كيرلس الإسكندري، شرح إنجيل يوحنا مج2)
ويُوضِّح ق. كيرلس الإسكندريّ أن يهوذا لم ينتفع بهبة البركة التي أخذها من المسيح، وذلك في سياق تأكيده على تناول يهوذا من سر الإفخارستيا كالتالي: [11]
هو [يهوذا] يمضي مسرعًا طاعةً لإرادة الشيطان، ومثل إنسان أصابه جنون يخرج من المنزل. وهو لا يرى أي شيء يمكن أن يتغلب على حبه للربح، وكم هو أمرٌ غريبٌ إننا سنلاحظ إنه لم ينتفع بالمرة من هبة البركة [الإفخارستيا] التي نالها من المسيح، وهذا بسبب ميله الشديد للحصول على المال.(كيرلس الإسكندري، شرح إنجيل يوحنا مج2)
ويشير ق. كيرلس الإسكندريّ أيضًا إلى مقاومة الشيطان لاحتمالية توبة يهوذا بسبب القوة الفعَّالة للقمة البركة التي تناولها يهوذا من المسيح، وذلك في إطار تأكيده على تناول يهوذا من سر الإفخارستيا كالتالي: [12]
فمثلاً هو [الشيطان] يجبر يهوذا، بعد أن أخذ اللقمة مباشرةً، إذ أصبح الآن تحت سلطانه، أن يُسرِع في الحال إلى إتمام الفعل الشرير؛ إذ ربما كان خائفًا – بالإضافة إلى احتمال توبة يهوذا، من القوة الفعَّالة التي لهبة بركة المسيح [أي الإفخارستيا]، لئلا تضيء هذه النعمة كنورٍ في قلب يهوذا، وتحثه بالحري أن يفكر بتروٍ ويختار العمل الصالح، أو على الأقل تولد طبعًا مخلصًا أصيلاً في شخص كان قد دُفِعَ ضد مشاعره الطيبة، أن يفكِّر في الخيانة.(كيرلس الإسكندري، شرح إنجيل يوحنا مج2)
ق. إيسيذوروس الفرمي 450م
يُؤكِّد ق. إيسيذوروس الفرميّ، أحد آباء كنيسة الإسكندرية، مثله مثل الآباء السابقين عليه، على أن تناول يهوذا الإسخريوطيّ من سر الإفخارستيا، حيث يقارن بين مَن يتهاون بالسر ويمد يده باستمرارٍ على الأسرار الإلهية، ويتناول بوقاحةٍ من الأسرار التي لا يُسمَح له بالاقتراب منها ولمسها، وبين طلب يهوذا الإسخريوطيّ للتناول من سر الإفخارستيا، وهو يُخطِّط للخيانة في داخله قائلًا: [13]
أشخاصٌ يقولون عنك إنك تفعل ما هو ممنوع وغير مسموح أن تفعله، ومراتٍ كثيرةٍ ترتكب أفعالًا مخالفةً، وأنت تستمر في مد يدك على الأسرار الإلهية، وتتناول بوقاحةٍ من الأسرار التي لا يُسمَح لك أن تقترب منها وتلمسها. وأنا أندهش من غرورك، بينما تجلس وتشبع على مائدة الشياطين، لا تخاف من المشاركة في مائدة الربِّ [14]. إذًا، توقَّف حتى لا يضيق عليك الخناق [15] مثل يهوذا الذي سقط في اليأس بسبب وقاحته، الذي طلب التناول، بينما كان يُخطِّط للخيانة في داخله [16].(إيسيذوروس الفرمي، رسائل القديس إيسيذوروس)
وهنا يُشدِّد ق. إيسيذوروس ويُحذِّر الخطأة المستشرين في خطيئتهم من التهاون بالأسرار الإلهية، فهم يتناولون بكل سهولة ويسر وعدم توبة حقيقية من الأسرار الإلهية دون التوقف عن ارتكاب المخالفات والمحرَّمات.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
صدر للكاتب:
كتاب: عظات القديس غريغوريوس النيسي على سفر الجامعة
ترجمة كتاب: "الثالوث"، للقديس أوغسطينوس أسقف هيبو
ترجمة كتاب: "ضد أبوليناريوس"، للقديس غريغوريوس النيسي
نحاول تخمين اهتماماتك… ربما يهمك أن تقرأ أيضا:
- المسيح يُصلب من جديد لا تختلف جماهير اليهود قديمًا أيام المسيح كثيرًا عن جماهير المسيحيين أو غيرهم خاصة على "السوشيال ميديا" هذه الأيام، فبتحريض من رجال الدين والكهنة ورؤسائهم قد تنقلب موازين أي قضية وآراء الناس بخصوصها وتصرخ الجماهير بأعلى الصوت "اصلبه، اصلبه، دمه علينا وعلى أولادنا" "اطلق لنا باراباس". بعدما كانوا يصرخون "خلصنا في الأعالي". مع اختلاف المسيح......