كثيرًا ما نقرأ في بعض قصص الفولكلور الرهباني عن الطاعة العمياء، حيث يأمر الأب تلميذه أن يذهب يوميًا ليسقي خشبة جرداء على بعد أميال من مغارته. يحمل التلميذ جرة ماء على كتفه ويقطع هذه المسافة الطويلة يوميًا طاعة لمعلمه. وبعد فترة، ينسى المعلم ما أمر به تلميذه حتى يأتي إليه بالثمر، إذ أثمرت الخشبة وأصبحت شجرة تُسمى شجرة الطاعة حسب الرواية المذكورة.
أيضًا نقرأ عن الذي يأمر تلميذه بأن يحضر له الضبعة، فلما أطاعه التلميذ وأمسك بها عنفه معلمه لأنه أتى إليه بجرو بدلًا من الضبعة حتى لا يتكبر. وهناك عشرات من القصص المشابهة التي تُحكى للأطفال في مدارس الأحد، حتى أصبح آباء الكنيسة القبطية الأرثوذكسية على اختلاف رتبهم يذيلون رسائلهم وأوامرهم في أي موضوع بالعبارة الشهيرة: ابن الطاعة تحل عليه البركة
، حتى وإن كان الأمر مخالفًا للقواعد الإنسانية وروح الإنجيل والتعاليم المسيحية والقوانين الكنسية.
فمثلًا الأسقف الذي يصدر قرارًا بدفع مبالغ باهظة لإقامة صلاة الإكليل في كنيسة معينة، ويكتب تحت القرار ابن الطاعة تحل عليه البركة
، هل في حالة المخالفة لأوامر هذا الأسقف يُحرَم من البركة؟ أتكلم وفي قلبي مرارة لأن أحد أصدقائي بالولايات المتحدة اضطر لإقامة إكليل لابنه في إحدى إيبارشيات مصر المحروسة، واضطرت العائلة بأكملها للسفر إلى مصر والكل يعلم حجم التكلفة التي تكلفتها الأسرة. أما أسقف الإيبارشية المبجل جزيل الاحترام، فقد أصدر أوامره باعتبار أي قادم من الخارج يستخدم الكنيسة عليه سداد الرسوم بالعملة الصعبة وهي الدولار. ونظرًا لظروف العائلة، قدرها بثلاثة آلاف دولار فقط، بما يعادل مائة وخمسين ألفًا من الجنيهات المصرية فقط لا غير، لاستخدام الكنيسة لمدة ساعة فقط لأن الكنيسة قريبة من إحدى سواحل البحر الأحمر، وابن الطاعة تحل عليه البركة
.
الرب يسوع المسيح له المجد أعطانا حرية مجد أبناء الله؛ إن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحرارًا
[1]. ومع ذلك، يستخدم الآباء ما يعتقدون أنه سلطانهم في الحل والربط لإخافة الشعب والرعية لقيادتهم حسب رغباتهم الخاصة، كأن يأمر الكاهن شعب الكنيسة بانتخاب أشخاص معينين للجنه الكنيسة، ووصل الأمر لحرمان من ينتخب أشخاصًا لا يرغب فيهم الكاهن، والشعب البسيط يطيع. هنا نتساءل: ما هي حدود الطاعة للآباء؟ هل الروح القدس يعمل في الآباء فقط ولا يعمل فينا ويرشدنا؟ ألم يقل الكتاب: أما تعلمون أنكم هيكل الله، وروح الله يسكن فيكم؟
[2]، فما هي حدود ووجوب طاعة الأبناء للآباء الروحيين؟
أولًا: طاعة أعضاء المجمع للبابا البطريرك
أعتقد أنه من الواجب طاعة جميع رتب الإكليروس للبابا البطريرك، طالما لم يخالف الوصية الإنجيلية، وكلامه يتفق مع وصايا الرب يسوع المسيح له المجد شخصيًا؛ فهي طاعة واجبة في الرب، فهو الوحيد الجالس على الكرسي الرسولي، والأب أو الأخ الأكبر بين إخوته المطارنة والأساقفة. ولن تستقيم الأمور إذا كانت كل إيبارشية لها فلسفتها وطقوسها المختلفة.
جميع كنائس العالم لها نظام واحد؛ فإذا دخلت أي كنيسة في أي إيبارشية، تجد نفس النظام في الصلوات والأكاليل والجنازات. الاختلاف فقط في فنون الإدارة وأنشطة كل إيبارشية حسب إمكانات مطرانها أو أسقفها وكهنتها المعاونين له، وحسب طبيعة شعبها وشبابها من الناحية العلمية والاجتماعية والإقليمية والاقتصادية والثقافية. فالذي يصلح في إيبارشيات المهجر لا يصلح في إيبارشيات صعيد مصر، وما يصلح في إيبارشيات مصر لا يصلح في إيبارشية الكرسي الأورشليمي، وهكذا.
ثانيًا: طاعة الكهنة للأب المطران أو الأسقف
المشكلة هنا تكمن في مدى صَلاحِيَة الأسقف للقيادة. يشعر الكاهن أحيانًا بذاته وتهتز صورة الأسقف أمامه فيدير الكنيسة حسب رغباته الخاصة دون أي اعتبار لرأي أو مشورة الأسقف. نرى أن التدقيق في اختيار الأسقف أمر ضروري للغاية. ويجب قبل رسامته أن يدرس فنون الإدارة.
المدير المثالي يعرف كيف يحلل ويستنتج كل ما يحدث حوله دون استخدام عيون للتجسس. فإذا درس الأسقف فنون الإدارة مع دروس في الرعاية حتى تكون إدارة روحية، ولا يتصور أنه محافظ أو وزير، ويكون الجميع واحدًا وتكون هناك حياة شركة بينه والكهنة وأفراد الشعب في حب وتناغم دون تسلط واستعباد، ويتضع حتى يصل إلى خدمة غسل الأرجل، هنا سيخضع له الجميع عن حب وليس عن خوف. لقد زرت كنائس كثيرة في مصر وخارجها، يقع بعضها في نفس الإيبارشية وكل كنيسة لها نظامها الخاص وكأن الكاهن يدير عزبته الخاصة.
مثال حي: كبرياء وجشع كاهن وضعف وعدم حكمة الأسقف
أحد كهنة الخارج الذي كنت أعرفه منذ طفولته، تغير كثيرًا بعد الكهنوت. ونُقل بين ثلاث إيبارشيات في مصر والخارج بسبب مشاكله المتكررة. ولما تعاطفنا معه وزكيناه ليخدم كنيسة جديدة، وعد وعودًا كثيرة مبشرة. وبعد شهور قليلة، ظهر على حقيقته؛ فقد رفض وجود لجنة بالكنيسة وأقالها بإرسال بريد إلكتروني للأعضاء للاستغناء عنها، دون أخذ رأي الشعب الذي انتخبها. وبدأ يتسلط ويصدر الأوامر حتى للشيوخ كبار السن، وينتهرهم دون مراعاة لمشاعرهم، مع أنهم أكبر منه سنًا ومن والده. وحينما رُسم أسقفًا جديدًا للإيبارشية، استبشرنا خيرًا كي يحد من عنجهية وتجبّر وكبرياء هذا الكاهن الذي قال حرفيًا: كل واحد فيكم في وظيفته، الدكتور والمهندس والمحاسب، محدش بيتدخل في شغلكم. أنا كاهن! آخذ مفاتيح الكنيسة وأدورها زي ما أنا عاوز، لأن دي شغلتي ومش من حق حد يتدخل. ولو البابا بنفسه أو أي مطران أو أسقف حضر، لازم يستأذن مني أولًا قبل ما يدخل الكنيسة
.
ألغى هذا الكاهن وظيفة أمين الصندوق وأمسك بالماليات بنفسه حتى اشتكى الشعب لقداسة البابا، الذي بدوره أصدر قرارًا بابويًا بالتحقيق معه، بواسطة اثنين من المحاسبين القانونيين بأمريكا، وتقديم تقرير لقداسته. وكنت أحد هذين المحاسبين القانونيين، وقد رأينا الأهوال. لقد اعتبر الكاهن أنّه وأموال الكنيسة كما المثل القائل الجيب واحد
. ومن بين الأهوال التي رأيناها أنه اختلس 26 ألف دولار أمريكي من أموال مباني الكنيسة الجديدة لشراء سيارة جديدة له، مع أنّ الكنيسة اشترت له سيارة جديدة من طراز Honda Accord لم يمر عليها أكثر من خمس سنوات.
وعندما التقينا مع قداسة البابا، وبعدما تقابل قداسته مع الكاهن، فوض قداسة البابا الأسقف الجديد لاتخاذ ما يلزم من إجراء مع الكاهن حتى تصبح له كلمة في الإيبارشية. لم يفعل هذا الأسقف له شيئًا لأن الكاهن أغلق الباب ووطي وضرب ميطانية وكان هيبوس جزمته، فعل هذا فيما بينهما، أما أمام الناس قال الكاهن إن كل شيء كذب في كذب
بدليل أنه لا يوجد عقاب. وبعدها رفع الكاهن مرتبه لنفسه دون موافقة أحد، وضحي الأسقف بشعب الكنيسة الذي تعهد بأن يحافظ عليه وأن دمه في رقبته.
أما الشعب المغلوب على أمره، فانضم أغلبه إلى طوائف أخرى، بعضها أرثوذكسية وبعضها غير أرثوذكسية، دون أن يتحرك ضمير الأسقف أو كهنة إيبارشيته. فللأسف، الأسقف مشغول عن إيبارشيته الحقيقية بالعاصمة الأمريكية، التي يتمنى أن تنضم إلى إيبارشيته رسميًا بدلًا من الانتداب فقط. وأصبح واضحًا أنه لا يعلم شيئًا عن إيبارشيته التي رسم عليها، وبعض كنائسها لا تراه إلا مرة كل عام أو أكثر قليلًا من العام.
نأتي للنقطة الأخيرة التي أريد أن أناقشها مع حضراتكم:
ثالثًا: طاعة الشعب للكاهن
شخصيًا، أرفض تمامًا الطاعة العمياء، لأن الروح القدس، كما قال المخلص: يأخذ مما لي ويخبركم
[3]. فكيف لي أن أطيع طاعة عمياء لا تتفق مع وصايا الإنجيل ووصايا الرب يسوع المسيح له المجد؟ على سبيل المثال، عندما يقف كاهن ويقول: “لا يوجد حل لانتخاب فلان في لجنة الكنيسة لأنه على خلاف مع هذا الشخص”، فإن هذا الحرمان يقع على الكاهن نفسه. وأنا لا أطيعه وضميري مرتاح تمامًا. كذلك، عندما يقول كاهن: “من لم يصم الصوم الكبير من أوله لا يتقدم للتناول”، فإذا كان شخصًا بعيدًا عن الحياة الروحية واشتاق للعودة إلى حضن السيد المسيح، فهل منعه من التناول حكمة من الكاهن ويجب طاعته؟ هل نضمن رجوع هذا الأخ وهو في نفس حالة الاشتياق للتناول؟
مثال آخر مضحك ومخجل شهدته وحضرت بنفسي في بداية الثمانينيات في مصر قبل هجرتي إلى الولايات المتحدة الأمريكية: كان لي صديق يذهب إلى الكنيسة ولكنه بعيد عن الخدمة، وغير متعمق. تزوج من خادمة متزمتة، ولما جاء الصوم الكبير وأراد أن يقيم معها العلاقة الزوجية المقدسة، رفضت قبل أن تسأل أب اعترافها. ولما سألت الكاهن قال لها أوعي تسألي فيه
. وكان هذا الشاب متعبًا جدًا ورأيته بعد فترة منهارًا لأنه سقط في خطية الزنا مع زميلة له في العمل. وطبعًا هذه الخادمة كان من حقها الطلاق لدخول طرف ثالث لولا حكمة الأب الأسقف وقتها لمعالجة الأمر ومنع الكاهن من أخذ اعتراف السيدات حتى ينضج بعد أن أخذ قانون كنسي في أحد الأديرة.
والشيء الأكثر غرابة أن هذا الكاهن المُخرّب قد رزق بمولودة جديدة، وأحد أطباء النساء بالكنيسة أفتى بأن هذه الطفلة لا يمكن أن تكون قد تكونت إلا خلال فترة الصوم الكبير. وسمعت بأذني أحد قدامى الآباء الكهنة زملائه يتهكم قائلًا: إيه يا أبونا فلان! بنتك جت إزاي في الوقت ده؟ حبل بها من الروح القدس؟
هنا يحتاج الشعب إلى روح الحكمة والإفراز، فليس كل من يرتدي الأسود وله لحية كلامه صحيح. أقول هذا وأنا من عائلة كهنوتية حتى لا أتهم بأنني غير أرثوذكسي. للأسف، غالبية الشعب يردد: قال أبونا فلان، أبونا فلان هو الذي علّمنا هذا. أتمنى أن تتغير هذه التعبيرات إلى: قال الرب يسوع كذا، أو قرأت هذه العبارة في أقوال الآباء.
وليعطينا الرب روح الاستنارة لنفرق بين الخطأ والصواب.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟