في عام ١٩٤٥، قام أحد الأثرياء الأقباط، ويدعى أمين بك إبراهيم، بوقف أحد القصور التي يملكها، ونتيجة لوفاة زوجته قبله وعدم إنجابهما للأطفال، قرر أن يتحوّل هذا القصر إلى ملجأ أيتام [1]. يُعرف الآن باسم ملجأ أمين بك إبراهيم، والكائن بوسط مدينة المنيا بالقرب من ميدان بالاس، أحد أشهر ميادين المدينة.
بعدها بعامٍ واحد، صدر القانون ٤٨ لسنة ١٩٤٦ لتنظيم الأوقاف، فأصبحت إدارة الملجأ أكثر تنظيمًا تحت إشراف أراخنة الأقباط الذين كان أمين بك واحدًا منهم. ومع ذلك، بعد إعلان النظام الجمهوري، نشبت أزمة في عام ١٩٥٩ بسبب رغبة الدولة في تطبيق قوانين الإصلاح الزراعي على أوقاف الكنيسة. تعاملت الدولة مع الأوقاف القبطية كما لو كانت ملكية فردية لشخصٍ إقطاعي ﻻ ملكيّة عامة، محاولة مصادرته.
وبعد المساومات الهادئة مع البابا كيرلس السادس، تم حل المجالس الملية التي تدير الوقف القبطي، واعتبار أوقاف كل إيبارشية وكأنها مملوكة لأسقف أو مطران وكأنه شخص إقطاعي أيضًا. قد تبدو هذه الحجة منطقية لو كانت الأوقاف القبطية كلها أطيان زراعية حتى تُطبّق أحكام الإصلاح الزراعي. ومع ذلك، فإن ما شهدناه هو استيلاء الدولة على جميع المقتنيات التي تُعرض حاليًا في المتحف القبطي، والتي كانت ملكًا للكنيسة المصرية، وإلى الدولة يؤول الريع العائد من تذاكر المتحف، ﻻ الكنيسة. بالإضافة إلى استيلاء الدولة على كنائس أثرية كاملة مثل كنائس مصر القديمة.
المشكلة الأكبر والتي استمرت بعد عصر البابا كيرلس السادس هي مشكلة صراع اجتماعي طبقي، حيث وفرت اشتراكية عبد الناصر البيئة المناسبة لمؤسسة الكنيسة كي تعمل على تأجيج الحقد الطبقي بين الفقراء والأغنياء، ودأبت على تصوير طبقة الأراخنة العلمانيين كمجموعاتٍ رأسمالية فاسقة فاسدة تنهب الأوقاف القبطية ويجب القضاء على سلطانهم المالي والإداري وتحويل مهامهم وسلطاتهم إلى الإكليروس، الأمر الذي يتعارض مع التشريعات المنظّمة للمسيحية، والتي تحظر على الإكليروس بكل درجاته (الأساقفة أو الكهنة أو الشمامسة)، الانخراط في الأعمال التجارية أو التملك للأراضي أو المباني أو الاشتغال بعمل من أعمال العلمانيين الدنيوية.
أيما أسقف أو قس أو شماس، اشتغل بعمل من أعمال الدنيا، فليقطع.(قوانين الكنيسة، قانون الرسل، القانون ٦)
كمحاولة من العلمانيين الأقباط لصد هذا التعاون بين الدولة والكنيسة على الإطاحة بدورهم في الإشراف المالي والإداري على الوقف القبطي، تم تأسيس عدة جمعيات أهليّة قبطية، جميعها مؤسسة من قبل وجود وزارة التضامن أو وزارة الشئون الاجتماعية، وما يهمنا منها الآن جمعية جنود المسيح القبطية الأرثوذكسية التي تأسست منذ أربعينيات القرن العشرين، ثم وُثق تأسيسها في عام ١٩٦٦، لحماية الأطفال من الصراع الدائر حول ملكية الأراضي والمباني والإدارة والإشراف المالي.
هذه الجمعية الخيرية، التي بدأت من محافظة سوهاج الأكثر فقراً في مصر، تعمل منذ تأسيسها في محافظات أسيوط والمنيا والأقصر بالإضافة لسوهاج نفسها. وتركز نشاطها الخيري على إدارة دور الأيتام وتقديم المساعدة للأيتام في منازلهم، بما في ذلك الطعام المدعم والملابس في المناسبات الخاصة والمساعدة في التعليم والزواج. [2]
يدير فرع المنيا من جمعية جنود المسيح القبطية الأرثوذكسية، ملجأ أمين بك إبراهيم، والذي يوفر الرعاية الكاملة إلى ١٦ يتيمًا بشكل دائم، بالإضافة إلى ذلك، تقدم الجمعية الدعم والمساعدات إلى عدد يزيد عن ٤٠٠ يتيمًا فقيرًا من داخل منازلهم بشكل منتظم [3]، وتشمل المساعدات الدعم المالي والملابس ودفع المصروفات الدراسية، وفي بعض الحالات، تقديم المساعدة لأولئك الذين يعيشون مع الأيتام بعد فقدان معيلهم.
عنف ضد الأقباط عقب سقوط الإخوان
كان ملجأ أمين بك إبراهيم تحفة معمارية آسرة، حيث تم تشييده على طابقين كقصر تاريخي. وكان مزينًا بنقوش هندسية متقنة، مع تصميم دائري مميز في وسط حديقة القصر. كانت الحديقة غنية بالأزهار وأشجار الفاكهة، بينما كان هناك مبنى كبير للخدمات ومجموعة من المتاجر مجاورة للملجأ.
شعرنا بالخوف الشديد عندما وجدنا علامات “إكس” باللون الأحمر على الملجأ وجميع المحلات والمساكن التي يسكنها أقباط في المنطقة، وشعرنا أن تلك العلامات المميزة من أجل إيذائنا، وعلى الفور قمنا بنقل الأطفال إلى مكان بديل حرصًا على أرواحهم.(جرجس، عامل بالملجأ، تحقيق لجريدة الدستور أجراه: جمال عبد المجيد، نوفمبر ٢٠١٣)
بالفعل تم الهجوم علينا بعدها بيومين، وتم تحطيم الملجأ العريق، وسرقة جميع محتوياته من أطعمة وملابس وغرف النوم، وتكسير خزينتين للأموال كانت تضم آلاف الجنيهات من أموال الموظفين العاملين بالملجأ، وكذلك كل الأموال التي كنا ننفقها على الأطفال طوال العام، وعقب ذلك قاموا بإشعال النيران في كل أنحاء المبنى، ومبنى الخدمات المجاور له، وظلت النيران مشتعلة فيهما أكثر من يومين بشكل مستمر، مما أدى إلى هبوط أرض المبنى ووقوع الطابق الثاني على الأول.(جرجس، عامل بالملجأ، تحقيق لجريدة الدستور أجراه: جمال عبد المجيد، نوفمبر ٢٠١٣)
في يوم الأربعاء المشؤوم ١٤ أغسطس ٢٠١٣، اندلع حريق هائل في القصر، محولاً المبنى الفخم إلى رماد. ولحسن التدبير، لم تسفر الكارثة عن أي خسائر في الأرواح، حيث تم نقل الأطفال بأمان إلى المبنى الإداري البديل المجاور. ومع ذلك، كانت الخسائر المادية فادحة، حيث دمرت النيران محتويات القصر بالكامل، بما في ذلك الأعمال الفنية القيمة والتحف النادرة. كما ألحق الحريق أضرارًا جسيمة بالبنية التحتية للقصر، مما تطلب جهودًا مكثفة لإعادة الإعمار.
بقايا كُتب دراسية مُحترقة، بعض صفحات الإنجيل ممزقة، وجدران متساقطة عقب تحوّلها إلى رماد، وأرض مرتعشة لن تسير عليها بسهولة، وكل ما حولك لونه أسود ومُظلم، وكل نَفَس تستنشقه مُعكّر بالغبار المحترق.. هذا لم يكن لمنزل للأشباح، ولم يكن يومًا خرابة، ولكنه مأوى للغلابة ولكل من فقد والديه.
هذا هو حال ملجأ “أمين بك إبراهيم” الكائن بوسط مدينة المنيا بجوار ميدان بالاس أشهر ميادين المنيا، بعد أن هاجمته الجماعات الإرهابيّة المسلحة عقب فضّ اعتصامي رابعة والنهضة مستغلين حالة الانفلات الأمني، وأمطروه بمئات الطلّقات النّارية وحوّلوه إلى خرابة قبل سرقة محتوياته وإضرام النيران فيه، مما أدى لتساقط الطابق العلويّ على الطوابق الأخرى وأصبح أطلالًا محترقة.(جمال عبد الحميد، تحقيق لجريدة الدستور نُشر بتاريخ ٦ نوفمبر ٢٠١٣)
تلفيات الملجأ تم تقديرها من قبل منظمات حقوق الإنسان ببضعة ملايين، بالإضافة إلى المبنى المهدوم والأسوار والحديقة. وتجدر الإشادة بدور الهيئة الهندسية للقوات المسلحة
، والتي قامت بإعادة إعمار المبنى (الأساسات، البدروم، الدور الأرضي والأوّل) مع التنويه أن الأساس الذي وضعته الهيئة الهندسية مصمم لتحمل أربعة طوابق إضافية متكررة. بعبارة أخرى، فإن هذا الأساس مناسب لمبنى مكون من خمسة طوابق علوية وإثنين تحت مستوى الأرض. [4].
يثني “جنود المسيح” على جهود الدولة، عبر قواتها المسلحة، في إعادة بناء ما دمره المخربون بعد سقوط حكم الإخوان المسلمين. لكن المشكلة تكمن في تسليم ملجأ أمين بك إبراهيم بعد تجديده إلى مطرانية المنيا، بصفتها المشرفة على الأوقاف القبطية أولًا، وبصفتها المتعهد القانوني أمام إدارة الأشغال العسكرية بالقوات المسلحة لاستكمال بناء أربعة طوابق أخرى على نفقتها الخاصة [5]. لتبدأ المطرانية في منازعة الجمعية على ملكية وإدارة الوقف كمشروع استثماري، دافعة بالأطفال إلى أحضان التشرد.
نزاع بين “جنود المسيح” ومطران المنيا
من المهم التواصل مباشرة مع الدولة في هذا الشأن. إذ ليس لدى أجهزة الدولة معرفة كبيرة بتعاليم المسيحية أو اليهودية. وهي لا تعلم أن كلتا الديانتين تؤمن بقانون إلهي يحظر على الكهنة (سبط لاوي) امتلاك الأراضي أو المباني. وقد تطور هذا في المسيحية إلى مجموعة من القوانين التي تشمل الرهبان والأساقفة والمطارنة وحتى الرتبة الباباويّة أيضًا. وبما أن جميع القوانين الحكومية التي تتعلق بملكية الكنيسة للأراضي والمباني وما إلى ذلك تُدار أو تُمتلك من قبل الكهنة بوصفهم رجال الدين في الكنيسة، فإنها تعد قوانين غير دستورية بموجب المادة الثالثة التي نظمت الشؤون القبطية وفقًا لشرائعهم. وبالتالي، فإن وجود مجموعة من الأساقفة ضمن هيئة الأوقاف القبطية الحالية هو وضع غير دستوري.
باختصار، تؤكد الشريعة المسيحية بحسم (وإن كانوا يضعون البابا كرئيس شرفي للمجلس الملي العلماني، بالمخالفة منذ عصر عبد الناصر) أنّ الملكية في جميع أشكالها، بما في ذلك الملكية العامة، تخضع لتدبير العلمانيين، وليس رجال الدين من أي رتبة، سواء كانوا أساقفة ذوي رتبة عالية أو شمامسة ذوي رتبة منخفضة. والقانون الكنسي يخيّرهم بين ترك سلطاتهم الدنيوية، أو القطع من الكنيسة [6].
بعض من الأحداث التي نسردها عن فترة النزاع، تمت في خلال حبرية المتنيح الأنبا أرسانيوس، أسقف المنيا السابق، ووقت أن كان الأنبا مكاريوس، أسقف المنيا الحالي، أسقفًا عامًا على عموم محافظة المنيا. لكن ربما تكون ملحوظتنا هذه ملحوظة شكليّة بحكم الواقع الذي يقول بأن الأنبا مكاريوس يتصرف باعتباره المدير الفعلي لكافة شئون المطرانية نظرًا لظروف الأنبا أرسانيوس الصحية في تلك الفترة.
بعد الانتهاء من أعمال الإعمار، قامت الهيئة الهندسية بتسليم المبنى لمطرانية المنيا. ومع ذلك، وفقًا لشكاوى جمعية جنود المسيح، يبدو أن ناظر الوقف تواطأ مع مطرانية المنيا التي منعت تسليم المبنى إلى أصحابه. وبالتالي، ظل المبنى تحت سيطرة المطرانية التي ترفض تسليمه، أو إدخال الأطفال ليسكنوا فيه حتى الآن.
تفجّر الوضع إلى أقصاه حين أعلنت مطرانية المنيا في ١٦ يناير ٢٠١٦ عن عقدها العزم على تحويل المبنى إلى مستشفى استثماري تلبية لرغبة الواقف، أمين بك إبراهيم، وظهر بيان منسوب للمطرانية، من دون أختام أو توقيعات، صادر عن لجنة الأوقاف بمطرانية المنيا وأبو قرقاص، ونُشر على موقع صدى البلد في نفس اليوم [7]. احتوى البيان في فقرته الختامية على استحواذ كامل لوقف ملجأ “أمين بك إبراهيم”، واستبعاد لأيّ جهة أخرى، بما فيها جمعية جنود المسيح، من التمثيل أو الامتثال أو الحديث باسم الواقف “أمين بك”، والذي تحوّل -حسب تصريحات وكيل المطرانية- إلى “أمين أفندي”.
في اليوم التالي، ١٧ يناير ٢٠١٦، صرح القمص إبرآم زكي، وكيل مطرانية المنيا للأقباط الأرثوذكس، عبر موقع الأقباط متحدون، وقال في تصريحه أن الأرض وقف قبطي منذ الأربعينيات من القرن الماضي، وأن المطرانية لديها حجة بهذا الوقف مسجلة بهيئة الأوقاف القبطية، تحت عنوان “حجة وقف رقم ١٨ متتابعة باسم المرحوم أمين أفندي إبراهيم ميخائيل”.
[8].
على الجانب الأخر من الرواية، وجه وصفى عزيز رئيس مجلس إدارة جمعية جنود المسيح القبطية، رسالة استغاثة لرئاسة الجمهورية، قال فيها: استولت لجنة الأوقاف بمطرانية المنيا على أرض ملجأ الأيتام التابع للجمعية، وتغير نشاطها إلى مستشفى تدار لصالح المطرانية.
وفي نفس الخبر، انفرد موقع “اليوم السابع” بخبر مصالحة بين الجانبين برعاية الأنبا مكاريوس، أسقف المنيا العام وقتئذ [9].
نزاع؟ أم صلح؟ أم مهادنة تسبق الاحتيال؟
بعيدًا عن عالم الصحافة، لنعد خطوة للوراء قليلًا؛ إلى يوم ٦ ديسمبر ٢٠١٥، ونقرأ هذه المخاطبة الرسميّة من مديرية الشئون الاجتماعية بالمنيا، قسم الجمعيات، إلى جمعية جنود المسيح بالمنيا، باعتبارها المسئولة عن الملجأ:
المخاطبة واضحة الصفة والفحوى، إذ تخاطب المديرية الجمعية المسئولة عن وقف أمين بك إبراهيم، بأن وضع الأطفال في مكان مؤقت قد طال لمدة عامين. فما الذي فعلتموه خلال هذين العامين؟
* لم توفروا -حتى الآن- المسكن الدائم المناسب، والحالي هو مقر إداري لا يفي بالغرض.
* لم تتخذوا أي إجراءات فعلية لإنهاء وضع الأطفال المؤقت.
* لم تضعوا خطة واضحة لإنهاء وضعهم المؤقت وتوفير مسكن دائم لهم.
* لم تقدموا أي تقارير أو توضيحات للجهات المعنية عن سبب تأخير إنهاء وضع الأطفال المؤقت.
* لم تتعاونوا مع الجهات الأخرى التي يمكن أن تساعد في حل هذه المشكلة.
بالطبع لم تستطع الجمعية الرد، بل كلّمت المطرانية بشكل غير مُثبت وغير رسميّ. وتجاهلت المطرانية مُكاتبة المديرية لأن الإنذار بمساءلة مجلس إدارة الجمعية ﻻ يهمها، بل هو أمنية مرغوبة فتتخلص المطرانية من الغريم العلماني الذي يتقاسمها الإشراف على الوقف القبطي!
والحقيقة أنه خلال هذين العامين، بنت الكنيسة تسعة طوابق من دون ترخيص منتحلة صفة الهيئة الهندسية للقوات المسلحة. ومن هي تلك الهيئة الحكومية التي تجرؤ على إزالة هذه الطوابق المخالفة التي تبنيها المطرانية؟ ألن يقفز الأسقف في كرسيه كاتبًا على تويتر “اضطهاد”؟ ومن هي الجهة الإدارية التي ستفتش في أساسات المبنى الذي أسسته الهيئة الهندسية للقوات المسلحة بتكليف مباشر من رئاسة الجمهورية؟ إن الخطاب الإداري السابق يوضّح عدم علم الشئون الاجتماعية بما حققته الهيئة الهندسية وأنها أنهت أعمالها وسلمت المنشأة لعهدة المطرانية، ويبدو أن مديرية الشئون الاجتماعية تعتمد فقط على المراسلات الرسمية المتوقفة عند محضر الحريق.
مع ضغط مسؤولي جنود المسيح على المطرانية، والتي تستنكف التعامل مع هيئات الدولة بعد أن احترفت الاختباء خلف بنايات القوات المسلّحة وتشريد أطفال الأقباط. قررت المطرانية مواجهة الشارع القبطي بعد انتهاء الصوم في يناير ٢٠١٦، لتعلن أنها تحمل الخير الوفير لذوي العلل الكثير إن كانوا من أهل الأموال، وأن لديها وثيقة رقم ١٨ تسمح لها بخروج الوقف عن الغرض الذي وقفه الواقف نزولًا على رغبة الأسقف [10].
والأمر باختصار هو سلسلة من الاحتيال الأسقفي انفجر يومي ١٦ و١٧ يناير في الأخبار التي عرضناها. فلا الكنيسة هي من بنى القصر الملجأ القديم، وﻻ هي من أعاد إعماره بعد الحريق، وانحصر دورها في الشحاذة والتسول للمال من الأقباط العلمانيين ثم إرسال المقاولين والعمال لصرف مال الأقباط على البناء المخالف تاركين لافتة الهيئة الهندسية بعدما رحلت كي تُرتكب المخالفات باسمها.
والمشكلة الأعقد في العظات الدينية للأنبا مكاريوس أنها ذات سمات توجيهية للمال القبطي الخاص بتبرعات العلمانيين، ويا ليتها موجهة للأيتام وفعل الخير كما يُنتظر من المؤسسات الدينية، وإنما احتكرت الكنيسة في عظات نيافة الأنبا مكاريوس مال التبرعات لها وحدها، في تنافس غير أخلاقي مع أيتام أقباط أرثوذكس أيضًا لمجرد أن رعاتهم من المجتمع المدني.
إن رعاية الأيتام من قبل الكنيسة والمسجد عمل نبيل، لكنه لا يضاهي صفقاتهم المريبة مع الدولة لإلغاء التبني وتراجع مدنية الدولة. لقد خاض المجتمع المدني منفردًا تلك المعارك الأخلاقية الكبرى ضد الرجعيين والإسلاميين والمتمسحنين من أجل حماية المصالح العليا للأطفال كفئات بالغة الضعف. ومن المخجل أن نرى الكنيسة تتحول من فعل الخير إلى منافسة أبطال المجتمع المدني والعلمانيين الذين حفروا بأظافرهم الصخر بشكل مشرف ومرخص منذ عام ١٩٦٦ باسم أمين بك إبراهيم، والذي وقف قصره للجمعية القبطية، وليس للكنيسة القبطية! وشيء لا أخلاقي ومن غير المقبول ألا تكون المنافسة في فعل الخير، بل في محاربة الخير اقتصاديًا عبر توجيه التبرعات، واستخدام الوازع الديني في تحريك المال القبطي بشكل أناني، واحتكاره داخل أنشطة الكنيسة التي لا تخضع للرقابة، وتسير بغموض الثقة وليس بشفافية المحاسبة.
البيان السابق يشرح الأمر باختصار؛ لم يكن للمطرانية دورًا على الإطلاق لا في السابق وﻻ الآن. التركيز على الفقرة الختاميّة يشي بأن هناك دورًا سلبيًا في الاستقواء بالشرطة لإفزاع الأطفال. لاحظ التعبير: لجنة الأوقاف لم يكن لها دور … سوى إحضار قوّة من الشرطة لإرهاب الأيتام وتهديد الأعضاء … هذه هي المعايدة المقدمة للأيتام في رأس السنة وعيد الميلاد
والتي يتحول فيها الخطاب من “هيئة” إلى “شخص”، والمقصود هنا هو الأنبا مكاريوس نفسه كمحرك فعلي لهيئة الأوقاف الشكليّة.
صلح ٢٠١٦ الوهمي: من يخدع من؟
في يوم ١٧ يناير ٢٠١٦، أصدرت صفحة الفيسبوك المسماة الصفحة الرسمية لملجأ امين بك ابراهيم – جمعية جنود المسيح بالمنيا منشورًا يقول:
يتقدم مجلس إدارة جمعية جنود المسيح القبطية، وأعضاء الجمعية العمومية، بخالص الشكر والتقدير إلى نيافة الحبر الجليل الأنبا إرسانيوس، مطران المنيا، ونيافة الحبر الجليل الأنبا مكاريوس، الأسقف العام.
وذلك لمبادرة نيافة الأنبا مكاريوس لعقد اللقاء الذي تم بالفعل في جو أبوي يسوده الود والتفاهم، وتم تقريب وجهات النظر وتوضيح نقاط الاختلاف، وأنّ ما حدث ما كان إلا غيره على مصلحة الأبناء الأيتام.
ومن نتائج الاجتماع؛ قد تم اﻻتفاق على تخصيص طابقين للملجأ كما كان الحال قبل الحرق والدمار، وباقي الطوابق للمستشفى، واﻻتفاق أيضا أن يكون البدروم مشتركًا بيننا، وسيتم توقيع بروتوكول بما تم اﻻتفاق عليه مع نيافة الحبر الجليل الأنبا مكاريوس.
والرب يعمر جميع أماكن الكنائس والبيوت المهدمة.
(الصفحة الرسمية لملجأ أمين بك إبراهيم – جمعية جنود المسيح بالمنيا)
على الرغم من أن هذا الاتفاق سيتم انتهاكه والنكوص به، وسيتم إعلان هذه الصفحة كصفحة مسروقة في مايو ٢٠٢٢، إلا أنها المصدر الوحيد المتاح لدينا بشأن جهود المصالحة التي رعاها الأنبا مكاريوس، والمذكورة في جريدة اليوم السابع. وبناء على معرفتي بأساليب ودقّة الرقابة داخل المجموعة المتحدة، وبالزميلة “سارة علام” على وجه الخصوص، أستطيع التأكيد على أنها لن تكتب مثل هذا الخبر عن الصلح مجهلًا بـ”مصادر كنسيّة” ما لم تكن هذه المصادر هي ممثل المطرانية على الأقل، أو ما لم يكن نيافة الأنبا مكاريوس نفسه هو مصدر فكرة المصالحة ومصدر جريدة اليوم السابع [11].
يبدو واضحًا أن الصلح تم برعاية الأنبا مكاريوس، أسقف المنيا، مع وصفي عزيز، الرئيس السابق لمجلس الإدارة، واتفق الجميع على أن يتم تخصيص الطابقين؛ الأرضي والأوّل، كملجأ للأطفال تحت تصرف جمعية جنود المسيح كما كان الوضع قبل الحريق، مع حل يد المطرانية في إقامة مستشفى استثماري في الأدوار التي تعلوها، وعليها يقع عبء التراخيص للأدوار المخالفة إن تمت.
بناء على الصلح والاتفاق السابق، وفي يوم السبت الموافق ٣ إبريل ٢٠١٦، وقع كلًا من عقيد قوات مسلحة أسامة أنطون عطا الله، عن إدارة الأشغال العسكرية، ونيافة الأنبا أرسانيوس، مطران المنيا وأبو قرقاص، محضرًا رسميًا لتنسيق أعمال ملجأ أمين بك إبراهيم. بموجب هذا المحضر أتفق الطرفان على إقامة مبنى مجمع طبي وملجأ سويًا مكون من ٧ أدوار (بدروم + أرضي + أوّل + ٤ أدوار متكررة) على أن تقوم إدارة الأشغال العسكرية بتنفيذ؛ الأساسات + البدروم + الأرضي + الأول، وعلى أن تقوم المطرانية بتنفيذ ٤ أدوار متكررة على نفقتها. نصّ المحضر أيضًا على تخصيص دورين كملجأ أطفال (بنين) [12].
وعندما استلمت المطرانية المبنى من هيئة الأشغال العسكرية التي أنهت دورها، لم تقم بإزالة اللافتة التي تشير إلى أن المبنى يخضع للتعمير بواسطة القوات المسلحة حتى توحي للمارة والرأي العام أن مقاولي المطرانية هم نفس مقاولي القوات المسلحة. وبذلك استطاع مقاولو المطرانية بناء دورين إضافيين بالمخالفة، منتحلين صفة هيئة عسكرية لا يستطيع مجلس مدينة المنيا، باعتباره جهة التراخيص، التداخل مع أعمالها أو تعطيلها طيلة فترة الإعمار للمبنى، الذي ضخت الميديا القبطية بالفعل رغبة المطرانية في تحويله لمستشفى استثماري. الأمر الذي يغُل يد محافظة المنيا المشهورة بالتوتر الطائفي، خشية أن يُقابل إنفاذ القانون وإزالة الأدوار المخالفة من المطرانية باعتباره: اعتداء على الكنيسة.
يبدو لنا أيضًا أن المطرانية -إن صدقت وعودها الغير مُنفذة- تتجاهل السلامة الجسدية للأطفال في مقابل التوسع الاستثماري الأفقي للمبنى. إذ طبقًا لمحضر التنسيق يتضح أن المبنى مصمم كي يتحمل سبع طوابق وليس تسعة كما هو حادث حاليًا. وعلى هذا يكون وضع الأطفال في أسافل الأدوار لمبنى مخالف البناء، أمرًا يعرض سلامتهم الجسدية للخطر. وعلى الرغم من أن هذا الاتفاق غير مُنصف، إلا أن الجمعية القبطية لم تكن طرفًا فيه ولم يكن لديها خيارات، خاصّة مع توقف الدعم المادي للأقباط في المنيا بناء على خضوعهم لتوجيهات الأنبا مكاريوس. فرضخت الجمعية لما هو مُذعن.
طبقًا للمسؤوليات المُحددة في الأوراق، يجب ألا يزيد عدد الأدوار عن سبع طوابق مهما كان الغرض. والأمر يكاد يكون عنادًا مستحيلًا في حالة مستشفى زخم الكثافة العددية ومجهزة بمعدات واجهزة طبيّة ثقيلة الوزن. لا ينبغي تكرار كارثة حريق كنيسة أبو سيفين بمنطقة المنيرة الغربية، والتي كانت شقة سكنية يصلي فيها المسيحيين خلسة قبل توفيق أوضاعها. أدت المرونة مع الكنائس إلى تساهل في معايير السلامة، الأمر الذي أفضى لموت المصلين والكاهن اختناقًا وحرقًا نتيجة احتراق المكيفات [13]. يجب ألا تتهاون أجهزة الدولة مع الكنائس فيما يتعلق بحماية الأرواح وبالأخص الأطفال اليتامى كفئات شديدة الضعف. كما يجب الحذر مع الكهنة كفئات شديدة التواكل على الله ومعتادة الدروشة والاستهانة بالإجراءات الوقائية على سبيل البركاوية القاتلة! أنظر البيان في سطره الأخير والذي هو صادر من دراويش حتى ولو علمانيين (يقولونالرب يعمر، والذي عمّر فعلا كانتالهيئة الهندسية! شالوها وحطواالربمكانها وكله ماشي بالبركاوية التي تقتل ثم تُحمل المسؤوليات على الله!)
احتجاج الوجه الجميل
بعد انتهاء فترة مجلس الإدارة لجمعية جنود المسيح وانتخاب مجلس جديد، أجرى بيمن فايق، رئيس مجلس الإدارة الحالي، حصرًا لممتلكات وأدوات الجمعية، وتم اكتشاف أن صفحة الجمعية على فيسبوك، والمشار إليها بالأعلى، ليست تحت تصرف مجلس الإدارة، وليسوا هم من يكتب عليها، وبناء عليه، أبلغ كل المعنيين بسرقة الصفحة القديمة.
يمكنك متابعة الصفحة الحاليّة لجمعية جنود المسيح على الفيسبوك، بالضغط على هذا الرابط، وستجد المنشور الخاص بسرقة الصفحة القديمة مثبتًا في أعلى الصفحة.
تجتهد الإدارة في الصفحة الحالية في عرض الوجه الجميل للكنيسة والدولة، لذلك، لا تتعجب إن وجدت رصدًا وتوثيقًا لزيارات الأنبا مكاريوس نفسه للملجأ. في الحقيقة فإن جميع أطفال الملجأ هم شمامسة، ويواظبون على الكنيسة بانتظام، ولا تندهش مطلقًا إن وجدت بعضهم نال جوائز تقدير من الأنبا مكاريوس نفسه، ففي كل الأحوال هم أبناء رعيّته، والذين يجتهد العاملون بجمعية جنود المسيح على عدم إقحامهم قدر الإمكان في النزاع الدائر بينهم وبين المطرانية، تمامًا كما يجتهد العلمانيين قدر إمكانهم في الفصل بين التعليم الروحي الذي يخضعون فيه لكهنة الكنيسة، وبين واجبهم المقدس في الإشراف المالي والإداري على نفس الكهنة فيما يتعلق بالممتلكات العامة للكنيسة، أو الأوقاف القبطية، أو الملاجئ ودور الأيتام مثل ملجأ أمين بك إبراهيم.
على الرغم من هذا، ما لن تجده في الوجه الجميل لصفحة جنود المسيح بالمنيا، هو ثقافة الاحتجاج! قد نعارض جميعًا استخدام الأطفال في الوقفات الاحتجاجية وتعريضهم لصراعات نفسية في مثل هذا العمر، لكن مع تعنت وإصرار مطرانية المنيا، فإننا نضع ثقتنا في الله، وإنه لن يترك أولئك الأطفال اليتامى دون حماية تفوق حمايتنا.. والله غالب!
الأطفال تهتف: عايزين المبنى بتاعنا
، عايزين نرجع مكاننا
وأحد المارة يظهر صوته مستنكرًا: عليّا النعمة ما هاتاخدوه
تُسلّط حكاية “أمين بك إبراهيم” الضوء على دور العلمانيين في خدمة مجتمعاتهم، وتحويل الوصم بـ”عدم الإنجاب” من انقطاع اسم ولقب وسلالة، إلى طاقة بّناءة تجعل اسم أمين إبراهيم حيًا إلى الآن. تثير القصة شجون حزينة حين تذّكّرنا بالصفقات المريبة للكنيسة مع الدولة بشأن التبني وتراجع مدنيّة الدولة، لكنها تلقي على العلمانيين الأقباط، جنود المسيح في أرض مصر، مسؤولية الدفاع عن دورهم الطبيعي في الكنيسة متخذين من قصة أمين إبراهيم أملًا وعبرة. تكشف القصة عن التحديات الأخلاقيّة الكبرى التي يواجهها مجتمع كنسيّ معقد ومتنوع يسيطر فيه رجال الدين على القرارات والممتلكات وإدارتها، ويحاربون استقلال الجمعيات المدنية بتوجيه المال الديني بعيدًا عنها لتجفيفها اقتصاديًا والاستحواذ على ملكية وإدارة منعتهم الشريعة الإلهية منها، ومكّنتهم الدولة منها. تثير الحكاية مخاوفًا بشأن مستقبل المجتمع المسيحي حين يلعب الدين دورًا متزايدًا في الحياة العامة، وحين يخضع المال المسيحي للاحتكار داخل جدران الكنيسة التي لا تخضع للرقابة، وتسير بغموض الثقة وليس بشفافية المحاسبة. بالنهاية، من خلال اتخاذ قرارات اليوم، يمكننا ضمان أن يظل اسم أمين بك إبراهيم حيًا إلى الأبد، وأن يكون إرثه مصدر إلهام للأجيال القادمة.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟