قامت منذ البدء على أساس تكوين لاهوتي، سواء من جهة شخصية الملك الذي يدبرها ويحكمها، أو من جهة دستورها الذي تعيش وتنمو به، أو من جهة غايتها في المستقبل القريب والبعيد.

فالله كان يقودها في البداية بنفسه، سرًا وعلنًا، من الخارج بقوة فائقة لمواجهة أعدائها، ومن الداخل بحضوره الشخصي أحيانًا وبأنبيائه يكلمهم عن الحياة الأفضل…

أما دستور مملكة إسرائيل فكان منذ البدء الأدبي والأخلاقي الذي سلمه لهم في الوصايا العشر وكافة الشرائع الروحية الأخرى.

وأما غاية مملكة إسرائيل فكان إعلان مجد الله لكافة الأمم واستعلان ملكوته الآتي على كل الشعوب في شخص المسيا.

لقد أدت مملكة إسرائيل خدمتها العظمى والأخيرة بتقديم المسيا للعالم، وهنا أوج مجدها ونهاية تاريخها، فمملكة إسرائيل وشعبها بكافة تاريخها كله وملوكها وأنبيائها لم تنل مجدًا في عين الناس ولا كرامة لدى العالم كله إلا بسبب ظهور هذا “المسيا” ليكون مخلَّصًا للعالم ونورًا لكافة شعوب الأرض.

والواقع الحي أن “إسرائيل المسيحية” أي كافة اليهود الذين قبلوا المسيح من كهنة وكتبة وفريسيين ورؤساء الشعب، وبالأخص جدًا التلاميذ الإثني عشر مع الرسل السبعين الذين بشروا المسكونة كلها، وبقية التلاميذ الذين تشتتوا من جراء الضيق مبشرين بالمسيح في كافة أنحاء الأرض، هؤلاء هم جيش إسرائيل العظيم والحقيقي الذي انقضَّ بقيادة المسيا غير المنظور على أكتاف الشعوب شرقًا وجنوبًا وعلى موآب والآراميين وأشور ومصر وكل جزر البحر واليونان وروما وأسبانيا وأفريقيا، حتى أخضع كل الأرض لسلطان الله في شخص المسيا الذي هو ملك إسرائيل الحقيقي. إذن فبالإيمان بالمسيح صارت الشعوب كلها مدينة بل مستعبدة بالروح لإسرائيل في شخص المسيا، وأسيرة بحبها وأمانتها لمملكة داود في شخص “ابن داود”، هذه هي الوسيلة الجديدة التي ورثت بها إسرائيل شعوب الأرض كلها أي بالإيمان بالمسيح، وبالخضوع الكلي لسلطانه وبالأمانة المطلقة لملكه فصارت هذه الشعوب كلها بالضرورة ضمن مملكة داود أو مملكة إسرائيل الحقيقية اللانهائية!

هذه الصورة لمعنى الميراث الروحي الجديد يبرزها عاموس النبي في آخر سفره، بحيث يكشف الروح المعنى الروحي الجديد لمفهوم ميراث إسرائيل للأمم بقوله أن الأمم التي ستتبع إسرائيل (روحيًا) هي الأمم التي “دُعي اسم الله عليها” أي التي قبلت الإيمان:

في ذلك اليوم أُقيم مظلة داود الساقطة وأُحصَّن شقوقها وأُقيم ردمها وأبنيها كأيام الدهر لكي يرثوا بقية أدوم وجميع الأمم الذين دُعي اسمي عليهم يقول الرب الصانع هذا

(عاموس ۹ : ۱۱، ۱۲)

وهنا التبس الأمر على عامة الشعب والأميين حتى من رجال الدين، ففهموا أن المسيا سيرُدَّ الملك لإسرائيل ويجدد عهد حروب داود وانتصاراته وأمجاده الدنيوية، ولذلك عثروا في المسيح عشرة لا قيام منها لما سمعوه يتكلم عن طوبى للمساكين بالروح لان لهم ملكوت السموات، وكانوا على وشك أن ينصَّبوه ملكًا لولا أنهم سمعوه يقول طوبى لكم إذا طردوكم وعيروكم وقالوا فيكم كل كلمة شريرة من أجلي كاذبين، وحينئذ تيقنوا أنه ليس هو المسيا الذي ينتظرونه، وهو أيضًا أدرك أنهم ليسوا بني الملكوت الذي يدعو إليه!!

ولكن من المؤسف أن شعب إسرائيل لم يؤمن بالمسيا الذي هو رجاء إيمانهم وحياتهم وملكهم الروحي الذي ظلوا يترجونه ما يقرب من ألفي سنة.

وفي الحقيقة من الصعب جدًا ومن غير المعقول أن نتصور إمكانية قيام مملكة إسرائيل بدون المسيح (المسيا)، فالمسيا ليس هو رجاء إسرائيل فحسب، بل هو قانونها الروحي الذي تعيشه ودستورها السياسي الذي تبذل حياتها من أجله وناموسها الأدبي والأخلاقي الذي تنبع منه وتنتهي إليه كل مملكة إسرائيل. فالمسيا أساس وجودها وغاية رجائها بل ومعنى اسمها.

إن إسرائيل برفضها وصلبها للمسيح قد رفضت حياتها في الله، وصلبت كافة نواميسها الأدبية والأخلاقية والروحية، ثم إن تشبثها بعد ذلك بإمكانية قيام دولة منفصلة عن المسيح يجرَّدها من كل ماضيها الإلهي أيضًا أي من تاريخها الروحي كله، ويحصرها في معنى وحدود دولة أرضية وشعب يكافح من أجل البقاء على الأرض والحصول على لقمة العيش.

ولكن الله في الأصل وفي الأساس لم يقم مملكة إسرائيل لتكافح من أجل شِبر أرض في فلسطين تسكنه، أو الاستيلاء على صحراء لتزرعها، بل لكي ينبعث من حياتها وروحها وناموسها وأنبيائها نورًا للأمم!! فيغطي مجدها العالم كله. إن ميراث مملكة إسرائيل الحقيقي ليس هو فلسطين بل العالم كله “روحيًا”، لأن ملكها الحقيقي هو المسيح، والمسيح يسود الآن على ملوك العالم، وبالنهاية سيخضع له العالم كله.

إن “روح العبادة” التي سلمتها إسرائيل للعالم بواسطة ال، بما فيها من ناموس أدبي فائق وناموس أخلاقي روحاني لا نظير له، يُعبَّر عن أعظم ميراث ورثه العالم من شعب.

ونحن لو تتبعنا مراحل النمو التي جازها هذا الناموس الروحي الأدبي والأخلاقي على مدى تاريخ مملكة إسرائيل، منذ أن سلَّم الله لموسى الوصايا العشر وحتى آخر ملك انتهت إسرائيل على يديه، نجد أنه لم يظهر بدقائقه الروحانية ولم تكمل دائرته الإنسانية الهائلة وعمقه الإلهي اللانهائي إلا في أيام المحن القاسية وأثناء مرارة السبي.

والذي يدرس تاريخ إسرائيل الروحي يتعجب لأن أعظم أنبيائها وأعظم نبواتها وأعمق وأصدق تعاليمها لم تصدر إلّا في أيام السبي وما سبقه من مخاض كمخاض الموت وما لحقه من مذلة كمذلة العبيد، حيث تصفَّت روح النبوة من كل تعلق بآمال المجد الدنيوي الباطل، وتنازلت نهائيًا عن القوة والبأس والنقمة والقتل، واتخذت عوضها السلام والبر والأمانة ومخافة الله كمعيار أعلا لمُلك المسيا!!

واستعلان ملكوت الله في شخص المسيا بدأ مبكرًا جدًا مع بداية مملكة إسرائيل، ونقرأ عنه بغاية الوضوح في أول أسفار التوراة لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع الشعوب (تكوين ٤٩ : ١٠)، حيث شيلون هنا بمعنى “حاكم السلام”، وهنا أول إشارة إلى طبيعة المسيا الروحانية.

ومن هذا التبكير في الإشارة إلى المسيا، يتضح أن غاية الله من إقامة مملكة إسرائيل هي أساسًا ومن البدء لاستعلان المسيا وملكوت الله بين كافة الشعوب.

وبمرور الزمن تبلغ مملكة إسرائيل منتهى اليأس من جهة إمكانية حكم الملوك عليهم حكمًا حكيمًا عادلًا حسب مشيئة الله. كما يبلغ الشعب منتهى اليأس من قدرتهم على طاعة الله واستجابتهم لوصاياه حسب الدستور الروحي الذي وضعه لهم. وبذلك بدأت تزداد الحاجة إلى المسيا جدًا في أواخر الأيام التي ازدادت فيها حالة المملكة سوءًا بسبب رداءة حكم ملوكها وعدم طاعة شعبها لله، الأمر الذي تسبب عنه تخلي الله عن مملكة إسرائيل ووقوعها فريسة تحت نقمة أعدائها مرات كثيرة…

ومن واقع الحال الذي انحطت إليه مملكة إسرائيل من جهة رداءة الحكم ومن جهة إخفاق الشعب في طاعة نواميس الله الأدبية والأخلاقية، بدأت تتركز حاجة إسرائيل إلى ملك يكون له الصفات التي تمِّكنه من الحكم الكامل والصالح، كما ظهرت الحاجة الشديدة إلى قوة روحانية تزيد الشعب قدرة على معرفة الله وطاعة وصاياه ونموهم في البر.. وهنا بدأت صورة المسيا تأخذ كل صفاتها المطلوبة والتي يحتاجها كافة العالم فعلًا.

وتحت هذا الإلحاح بدأ الروح القدس يعلن للأنبياء أوصاف المسيا:

يخرج قضيب من جزع يسى وينبت غصن من أصوله، ويحل عليه روح الرب؛ روح الحكمة والفهم؛ روح المشورة والقوة؛ روح المعرفة ومخافة الرب. ولذّته تكون في مخافة الرب، فلا يقضي حسب نظر عينيه ولا يحكم بحسب سمع أذنيه، بل يقضي بالعدل للمساكين ويحكم بالإنصاف لبائسي الأرض. ويضرب الأرض بقضيب فمه، ويميت المنافق بنفخة شفتيه. ويكون البر منطقة متنيه، والأمانة منطقة حقويه.

لا يسوءون ولا يفسدون في كل جبل قدسي لأن الأرض تمتلئ من معرفة الرب كما تغطي المياه البحر. ويكون في ذلك اليوم أن أصل يسَّى القائم راية للشعوب، إياه تطلب الأمم ويكون محله ممجداً

(إشعياء ١١ : ١-١٠)

والملاحظ جدًا أن تصوير المسيا كملك هو في الواقع تصوير مجازي، لأن حكومته حسب النبوة تشمل العالم كله، كما أن قوته التي سيعاقب بها هي كلمة فمه، وسلامه الذي يميت به المنافقين (أعدائه) هي نفخة شفتيه. وقدرته هي برُّه وشدته في أمانته.

أما شعبه الحقيقي فحسب النبوة هم المساكين، واهتمامه الأساسي يكون لبائسي الأرض. ودستوره الذي يحكم به الأرض لا ينحصر في وصايا ولكنه يفيض بالمعرفة حتى تغطي المعرفة وجه الأرض. وهو لا يغزو الأمم ولا يسعى وراءها ولكن الشعوب تنجذب إليه كما ينجذب الشعب إلى راية خلاصه، وتتبارى الأمم في طلب ودِّه.

ومن هذه النبوة نستطيع أن نرى مقدار صحة إدراك الأنبياء لأوصاف المسيا الروحية وأوصاف الملكوت القادم التي تخلو من التصويرات المادية أو العنصرية الصرف. فعمومية الملكوت واضحة.

ولكن لأن الأنبياء أدركوا بالروح أن مجيء المسيا وتأسيس الملكوت الآتي سيقع حتماً في صميم الزمان لا في نهايته، بدأوا يصبغون نبواتهم عن الملكوت والمسيا بصبغة زمنية يتخللها رنة الأعمال والأوصاف التي تشابه أعمال وتصرفات الملوك المقتدرين، وهذا مما أوقع عامة الشعب والمتعصبين من إسرائيل في الإحساس بأن الملكوت الآتي سيكون ملكًا زمانيًا صرفًا بأمجاد أرضية، وملكه سيكون إسرائيليًا متعصبًا لإسرائيل.

لأنه يولد لنا ولد ونعطى ابنًا وتكون الرئاسة على كتفه ويدعى اسمه عجيبًا مشيرًا إلهًا قديرًا أبًا أبديًا رئيس السلام، لنمو رياسته وللسلام لا نهاية على كرسي داود وعلى مملكته ليثبتها ويعضدها بالحق والبر من الآن وإلى الأبد.

(إشعياء ٩ : ٦،٧)

 

ها أيام تأتي يقول الرب، وأقيم لداود غصن برَّ فيملك ملك وينجح ويجري حقًا وعدلًا في الأرض، في أيامه يخلص يهوذا ويسكن إسرائيل آمنًا وهذا هو اسمه الذي يدعونه به الرب برنا.

(إرميا ٢٣ : ٦،٥)

وقد تمادى الشعب وخصوصًا المتعصبون لوطنيتهم وأرضهم والمتحمسون ضد أعدائهم في تصور المسيا لأنفسهم كملك سينتقم لإسرائيل أشد النقمة فيسحق أعداءهم ويوسع تخومهم الأرضية ليمتلكوا أراضي كافة الأمم حولهم وبالأخص الذين أذلوا إسرائيل وأهانوها واستعبدوها فيما مضى. ويجعل إسرائيل فوق الممالك كلها لتسود وتحكم على شعوب الأرض.

وقد وقع الشعب في هذا التصور الخاطئ للمسيا بسبب الالتباس في فهم وظيفة مملكة إسرائيل التي قامت على أساسها وبسببها وهي أن تكون خادمة لشعوب الأرض لا سيدة عليهم، لأن عملها الأول والأخير هو توصيل رسالة النور والخلاص للعالم عن طريق المسيا حيث تكون خدمتها هذه هي هي بعينها مجدها وعظمتها وسيادتها التي سيظل يذكرها لها العالم كله بالشكر والعرفان. وهذا أشار إليه سمعان الشيخ بفم إسرائيل كلها عندما حمل الرب يسوع على يديه طفلًا وقال بالروح:

الآن تطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام لأن عيني قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته قدام وجه جميع الشعوب، نور استعلان للأمم ومجدًا لشعبك إسرائيل.

(لوقا ۲ : ۳۲)

مركز المسيّا في مملكة إسرائيل بقلم ، نُشر أوّل ما نُشر في ، عدد فبراير ١٩٧٩، الصفحات من ١٣ إلى ١٨

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

متى المسكين
Website  [ + مقالات ]

اطرح عنك ذاتك التي تمنعك من الانطلاق في حرية أولاد الله