يقول القديس أثناسيوس الرسولي في كتابه “تجسد الكلمة” [1]:
لو كان الأمر مجرد خطأ بسيط ارتكبه الإنسان ولم يتبعه الفساد، فقد تكون التوبة كافية، أما الآن وقد علمنا أن الإنسان بمجرد التعدي انجرف في تيار الفساد الذي أصبح طبيعةً له، وحُرم من تلك النعمة التي سبق أن أُعطيت له وهي مماثلته لصورة الله، فما هي الخطوة التالية التي كان يستلزمها الأمر؟ أو من ذا الذي يستطيع أن يعيد إِليه تلك النعمة و يرده إلى حالته الأولى إلا كلمة الله الذي خلق كل شيء من العدم في البدء؟(أثناسيوس الرسولي، تجسد الكلمة ٧ : ٤)
لقد اقتضت الخطية من الله لكي يلغي آثارها و ينهي على مفاعيلها في الإنسان والخليقة كلها، أن يُخلي نفسه آخذًا صورة عبد صائرًا في شبه الناس، وإِذ وُجد في الهيئة كإنسان أطاع حتى الموت موت الصليب
[2]!
ولكي يُخلي الله نفسه و يصير إنسانًا لينوب عن الإنسان في تحمل أجرة الخطية وعقوبتها وهي الموت، اقتضى الأمر أجيالًا عديدة من البشر وأحقابًا طويلة من الدهور، كان الله يُعدُّ فيها أذهان البشرية لاقتبال السر المكتوم منذ الدهور الذي للخلاص العظيم المزمع أن يكمله في ملء الزمان.
فقد كان لازمًا أن يعرف الإنسان كم أن الخطيئة خاطئة جدًا!؟ وإلى أي مدى تعمل بمفاعيلها في طبيعتنا!؟ ومقدار الخسارة الفادحة التي مُنيتْ بها الخليقة كلها من جراء تعدي الإنسان لوصية الله!؟ ومقدار الخلاص العظيم الذي صنعه الله لكي يفتدي به الإنسان.
لقد كانت نتائج سقطة الإنسان عظيمة، ولكن الله ما زال أعظم في رحمته. والإنسان كخاطئ سيظل موضوع المحبة الإلهية، رغم النتائج التي ترتبت من عصيانه، والتغيرات الجذرية التي نشأت في جميع نواحي الحياة، والتي استلزمت عناصر جديدة من التدبير الإلهي لمعالجتها:
أولًا: مبدأ الفداء:
لو لم يسقط الإنسان لكان تاريخه نموًا مطّردًا في حال النعمة والبر والبركة، وازديادًا مستمرًا في الحكمة والمعرفة والاتحاد بالله والتمتع بالحياة الحقيقية الصادرة منه… ولكن بسقوط الإنسان دخل العالم مبدأ جديد اقتضاه وجود عاملين متصارعين هما الخير والشر. وصار الإنسان نهبًا لهذا الصراع بفقدانه للقوة المحركة لحياته وهو الله، بسبب انحيازه لغير الله؛ كما صار في أشد الاحتياج لإنقاذ عاجل لطبيعته التي انطمست معالمها بفعل الشر الذي هو مخالف لطبيعته الأصلية. ولم يكن في استطاعة الإنسان أن يفعل هذا التجديد والإنقاذ لنفسه، لأنه فَقَد كل إمكانياته التي كانت له وصار في قبضة العدو الذي أسلم نفسه لإرادته بقبوله لغوايته.
والواقع أن سقطة الإنسان لم تكن بغير رجاء… لأن الإنسان لم يخترع الشر ولم تنبع الخطية من داخله، أو بوحي من ذاته، ولكنها أتته كغواية من خارجه، وحتى بعد سقوطه في الخطية لم يتكيف معها ولم تنسجم طبيعته مع نتائجها، بل أحس بها في الحال كشيء غريب عنه تسبب في عريه وملأه بالخجل وبحث عن وسيلة يستر بها عورته…!! فصارت بذلك أوراقُ التين تجسيمًا مباشرًا ورمزًا ظاهرًا لشعوره بالجرم والعجز، ودليلًا واضحًا على عدم رضاه بالانحياز للجسد وشهواته، رغم عدم قدرته على درء الأضرار التي لحقت به.
ولكن الله تعاطف للغاية مع مشاعر الإنسان وخجله من خطيته، حتى أنه صنع لهما أقمصة من جلد والبسهما
[3]. وهذه كانت في حد ذاتها تأسيسًا لمبدأ الفداء الذي دخل إلى العالم منذ ذاك الوقت، لأن أقمصة الجلد تشير إلى عملية ذبح أكملها الله من أجل الإنسان لكي يأخذ من جلد الذبيحة و يستر به عري الإنسان لأن آدم الذي تعرى بالخطية لم يستطع أن يكسو نفسه، إشارة إلى أن الإنسان لا يقدر أن يفدي نفسه أو يُصلح ما أفسده، ولكنه يحتاج إلى ذبيحة قادرة أن تفديه وتخلع عليه من ذاتها ما يستر به عريه الروحي و يلبسه ثوب البر الذي لا يبلى المصنوع بيد الله.
وظل الله على مدى الأجيال يرسم أمام الإنسان معالم الذبيحة الكاملة المزمع أن تفدي الإنسان وتحمل خطية العالم كله، وتعالج كل نواحي احتياج الإنسان وتشفي كل أمراضه مطهرة إياه في النفس والجسد والروح جميعًا، وذلك بواسطة أنواع الذبائح والمحرقات والرموز والتشبيهات والنبوات؛ إلى أن جاء الذي أبطل الذبائح كلها بذبيحة نفسه، وفسَّر الرموز والتشبيهات وتحققت فيه جميع النبوات.
ثانيًا: الخليقة أُخضعت للبُطل، وتنتظر العتق من عبودية الفساد:
كان آدم تاج الخليقة وسيدها، ومن أجله خلق الله السموات والأرض والبحر وكل ما فيها، وسلطه على أعمال يديه (مزمور ٨ : ٦).
وكانت سعادة الإنسان في الفردوس مثل نهار مشرق لا يداهمه ليل، فكل ما هناك حسن جدًا، ومبهج جدًا، ولا يوجد سوى الجانب المشرق لكل الأشياء؛ وضعٌ يصعب على الإنسان أن يتصوره الآن بعد أن دخلت الخطية إلى العالم، فلم يعد في استطاعة الإنسان أن يدرك السعادة إلا بمقارنتها بالشقاء، والفرح بمقابلته بالحزن، والراحة بالتعب والصحة بالمرض والحياة بالموت… وهكذا… وهكذا كل شيء لا يُعرف إلا باختبار نقيضه. لأن آدم – سيد الخليقة – لما أخطأ اختل بسببه كل نظام الكون المخلوق لأجله، فقد طلب – في عصيانه لوصية الله – أن ينال المعرفة من الأرض… فصار محتاجًا للخليقة بعد أن كانت هي المحتاجة إِليه ليعملها ويحفظها… وهكذا انقلبت الأوضاع وصار الإنسان مضطرًا أن يعمل الأرض ليأكل منها بالتعب وبعرق وجهه؛ إِذ دخل العالم عنصر جديد لم يكن كائنًا من قبل، وهو اللعنة التي نطق بها الله قائلًا:
ملعونة الأرض بسببك. بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك، وشوكًا وحسكًا تنبت لك… بعرق وجهك تأكل خبزًا حتى تعود إلى الأرض التي أُخذت منها. لأنك تراب وإلى تراب تعود(سفر التكوين ۳ : ۱۷-۱۹)
و يعبر عن ذلك معلمنا بولس الرسول قائلًا:
إذ أُخضعت الخليقة للبُطل. ليس طوعًا بل من أجل الذي أخضعها على الرجاء. لأن الخليقة نفسها أيضًا ستعتق من عبودية الفساد إلى حرية مجد أولاد الله. فإننا نعلم أن كل الخليقة تئن وتتمخض معًا إلى الآن.(رومية ۸ : ۲۰-۲۲)
ولما قتل قايين أخاه هابيل قال له الرب:
ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دم أخيك من يدك. متى عملت الأرض لا تعود تعطيك قوتها. تائهًا وهاربًا تكون في الأرض(سفر التكوين ٤ : ١١-١٢)
وهكذا نرى أن خطية الإنسان لم تؤثر فيه وحده بل شمل تأثيرها كل ما يحيط بالإنسان من خلائق وكائنات.
ولما أصعد نوح المحرقات للرب بعد نجاته من الطوفان، وتنسم الرب رائحة الرضا، وقال الرب في قلبه:
لا أعود ألعن الأرض أيضًا من أجل الإنسان لأن تصور قلب الإنسان شرير منذ حداثته، ولا أعود أيضًا أميت كل حي كما فعلت. مدة كل أيام الأرض زرع وحصاد وبرد وحر وصيف وشتاء ونهار وليل لا تزال.(سفر التكوين ۸ : ۲۰-۲۲)
ولما أورث الرب بني إسرائيل أرض الموعد، قال لهم على لسان موسى:
أُنظر، أنا واضع أمامكم اليوم بركة ولعنة. البركة إذا سمعتم لوصايا الرب إلهكم التي أنا أوصيكم بها اليوم. واللعنة إذا لم تسمعوا لوصايا الرب إلهكم وزغتم عن الطريق التي أنا أوصيكم بها اليوم لتذهبوا وراء آلهة أخرى لم تعرفوها.(تثنية الاشتراع ١١ : ٢٦-٢٨)
أما البركة فيشرحها موسى النبي هكذا: أُعطي مطر أرضكم في حينه المبكر والمتأخر. فتجمع حنطتك وخمرك وزيتك. وأعطي بهائمك عشبًا في حقلك فتأكل أنت وتشبع.
أما اللعنة فيصفها قائلًا: يحمى غضب الرب عليكم ويغلق السماء فلا يكون مطر ولا تعطي الأرض غلتها فتبيدون سريعًا عن الأرض الجيدة التي يعطيكم الرب
[4].
إِذن فقد صار مصير الأرض مرتبطًا بالإنسان وحبه الله وطاعته لوصاياه. هذه هي شريعة العهد القديم التي أقامها الله للإنسان الذي ارتضى أن يكون مصيره من مصير الأرض التي أُخذ منها حينما اشتهى أن يأكل من شجرة معرفة الخير والشر.
ولكن ما ينبغي أن نتذكره دائمًا هو أن الإنسان لم يُخلق لهذا العالم المتقلب الذي نهايته الفناء، بل لعالم آخر لا يسكن فيه إِلا البر… ولا يوجد فيه موت ولا حزن ولا صراخ ولا وجع… [5] أما الوضع الحالي فهو وضع دخيل أنشأته الخطية واقتضته طبيعة قامة الإنسان الجسدية. لذلك كان العهد القديم عهداً. تمهيدياً لعهد أكمل وأعظم، حيث مكافأة العهد الأول كانت بركات أرضية وقتية مهددة بالزوال، أما مكافأة العهد الجديد فهي سمائية باقية لا تزول:
فإنه لو كان ذلك الأول بلا عيب لما طُلب موضع لثان، لأنه يقول لهم لائمًا: هوذا أيام تأتي يقول الرب حين أكمّل مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهدًا جديدًا لا كالعهد الذي عملته مع آبائهم يوم أمسكت بيدهم لأخرجهم من أرض مصر لأنهم لم يثبتوا في عهدي وأنا أهملتهم يقول الرب.(عبرانيين ٨ : ٧-٩)
من أجل هذا أوصانا الرب يسوع في عهده الجديد أن نطلب أولًا ملكوت الله و بره وهذه كلها تُزاد لنا…
ونحن غير ناظرين إلى الأشياء التي تُرى بل إِلى التي لا تُرى لأن التي تُرى وقتية أما التي لا تُرى فأبدية، لأننا نعلم أنه إِن نقض بيت خيمتنا الأرضي فلنا في السموات بناء من الله بيت غير مصنوع بيد أبدي.(كورنثوس الثانية ٤ : ١٨، ٥ : ١)
فإن سيرتنا هي في السموات التي منها أيضًا ننتظر مخلصًا هو الرب يسوع المسيح.(فيلبي ٣ : ٢٠)
ثالثًا: مبدأ إخفاق الإنسان الدائم تحت كل الظروف والحاجة الملحة إِلى مخلص:
ليست الخطية مجرد تعدي على وصايا الله، بل هي كسر لقواعد وقوانين الحياة التي تأسست عليها علاقة الإنسان بالله جابله وخالقه من العدم، فهي إِذن انفصال عن مصدر الحياة وأصل الوجود. لذلك فإن أجرة الخطية موت…!
ولكن، هل استطاع الإنسان أن يدرك من ذاته هذه النتائج الرهيبة للخطية؟! بالتأكيد لا! لأن الخطية أعمت بصيرة الإنسان، حتى أنهم مبصرين لا يبصرون وسامعين لا يسمعون ولا يفهمون
[6] إذ هم مظلمو الفكر ومتجنبون عن حياة الله لسبب الجهل الذي فيهم بسبب غلاظة قلوبهم
[7].
هذه هي حالة الإنسان البعيد عن الله: يظن أنه غني وقد استغنى ولا حاجة له إلى شيء وهو لا يعلم أنه هو الشقي والبائس والفقير والأعمى والعريان. (رؤيا ۳ : ۱۷).
فكيف يعرف الإنسان نفسه لكي يدرك مدى احتياجه الشديد إلى الله؟ لأنه بدون إِدراك الإنسان لعوزه واحتياجه وعجزه الكامل لن تدركه مراحم الله ولن يستحق عطاياه….
لذلك اقتضت محبة الله واهتمامه الفائق بالإنسان أن يهيئ له شتى الفرص التي يختبر فيها قوته وإمكانياته في كافة الأحوال لكي يتبين له إِخفاقه الدائم تحت كل الظروف، فيدرك بنفسه مدى احتياجه الله…! وهكذا استلزم الأمر آلافًا من السنين من التدبير الإلهي لكي يتبرهن خلالها للإنسان أن كل قواه الأخلاقية وكل أنظمة الحكم الاجتماعية، بل وكل طقوس عباداته وتقدماته وحرصه الشديد على حفظ الوصايا والفرائض والأحكام، كل هذه ليست قادرة على خلاصه ولا كافية لدرء الموت الذي حل به، وأن خطة الله لخلاصه بالمسيح هي الأمل الوحيد والرجاء الأخير…!
وهذا ما يكشفه لنا العهد القديم بأنواع وطرق كثيرة، حيث يتبين لنا دائمًا إخفاق الإنسان في جميع الأحوال مع تأديبات الله الحاوية لخطته الخلاصية ووعده بالمخلص والفادي المنتظر:
فعندما أعطى الله للإنسان أن يحقق ذاته ويمارس حريته في الفردوس، سقط في الغرور وطرد من الفردوس… ولكنه نال الوعد بنسل المرأة الذي يسحق رأس الحية.
وعندما تركه الله يتصرف بضميره الطبيعي ومعرفته للخير والشر، سقط في الدعارة… فأغرقه بالطوفان، ولكنه أبقى نوح و بنيه شاهدًا للبر، وأقام ميثاقه مع الإنسان لكي لا يهلكه ثانية بالطوفان…
وعندما أعطى الله الإنسان سلطانًا على كل الخليقة بعد الطوفان وباركهم ليثمروا ويكثروا ويملأوا الأرض، سقطوا في التعلق بالأرض والتكتل البشري لتأمين الحياة، فشتتهم الله و بلبل ألسنتهم.
وعندما أقام الله وعوده مع الآباء البطاركة، سقطوا في الشك والخوف وتغربوا في بلاد غريبة حيث تمررت نفوسهم في العبودية.
وعندما أعطاهم الله الناموس والوصايا والهيكل والذبائح ليعدَّهم له شعبًا مختارًا بين جميع الشعوب، تفاخروا ببر الناموس وسقطوا في بر أنفسهم!
وعندما أجاب الله رغبتهم ليحكمهم ملك منهم كسائر الشعوب، سقطوا في العصيان والتمرد وعبادة الأصنام…! فعاقبهم بالتشتت بين الأمم، وعاشوا في السبي أجيالًا طويلة يحلمون بأرض آبائهم وبالمخلص الذي يفتديهم من عبودية أعدائهم…!
وهكذا لما استنفذت كل الوسائل، وأثبت الإنسان فشله في سائر الأحوال، وعلا صراخه وأنينه مترجيًا الفادي والمخلص، حل ملء الزمان، وجاء المسيا المنتظر ليخلص كل الشعوب ويملك على بيت داود إِلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية!
رابعًا: مبدأ الاختيار والقطيع الصغير المعين للملكوت:
أمام هذا الفشل الذريع للإنسان، والحكم الرادع من الله لعلاج كل حالات الجحود والشك والعصيان والتردي في شتى أنواع الخطايا، كان من اللازم أن يُبقي الله بقية تنجو من قضاء حكمه العادل لتكون أساسًا لتقدُم أكثر في خطة خلاصه التام. كما يقول إشعياء النبي لولا أن رب الجنود أبقى لنا بقية صغيرة لصرنا مثل سدوم وشابهنا عمورة
[8].
وهكذا من وسط قضاء الموت يقيم الله دائمًا حياة جديدة تسود وتعلو فوق الشر، ويختار الله نخبة صغيرة لكي تصير نواة لبداية جديدة من أجل تجديد شامل للخليقة كلها… ومع هذا القطيع الصغير يقطع الله وعوده ويقيم عهده و يعلن عن ذاته ويهيئ السبيل لملكوته الأبدي.
أما أساس الاختيار فكان كما قال بولس الرسول:
اختار الله جهال هذا العالم ليخزي الحكماء، واختار الله ضعفاء العالم ليخزي الأقوياء. واختار الله أدنياء العالم والمزدرى وغير الموجود ليبطل الموجود، لكي لا يفتخر كل ذي جسد أمامه.(كورنثوس الأولى ۱ : ۲۷-۲۹)
وكما قالت القديسة العذراء مريم أنزل الأعزاء عن الكراسي ورفع المتضعين
[9].
وعلى هذا الأساس اختار الله نوح وإبراهيم واسحق ويعقوب وموسى وداود ليقيم فيهم كلمته، لأن الإنسان ينظر إلى العينين وأما الرب فإنه ينظر إلى القلب
[10].
خامسًا: مبدأ التبرير ببر الله:
لعل أخطر ما تعرض له الإنسان من إخفاق هو افتخاره ببر الناموس واعتقاده أن التدقيق في تكميل واجبات الناموس يؤدي إلى بر أكثر يمتاز به الإنسان عن غيره ويحظى بواسطته على القبول والرضا عند الله!
ولكن الإنسان المُخلِص في عبادته لن يغرَّه تكميل الناموس، بل لابد له أن يكتشف في عبادته وتدقيقه أنه لا يمكن الوصول بها إِلى حالة كاملة.
وهكذا فالإنسان الذي يظن أنه بار بحسب ظواهر الأعمال سيرى نفسه في النهاية مقصرًا ومذنبًا بحسب مجال التدقيق الذي لا نهاية له… وهذا معناه أن الناموس عاجز بسبب ضعف الجسد أن يصل بالإنسان إلى البر الكامل… وبذلك يَثبُتُ ثبوتًا قاطعًا بشهادة الضمير الذي أيقظه الناموس أنه لو أُعطي ناموس قادر أن يُحيي لكان بالحقيقة البر بالناموس
[11].
فالناموس ينهى عن الخطية ولكنه لا يساعد الإنسان على التغلب عليها… لأن الناموس روحي وأما الإنسان فجسدي مبيع تحت الخطية (رو ٧: ١٤) فإن لم يتغير الإنسان عن شكله بتجديد ذهنه ليصير روحيًا فلن يمكنه أن يكمل الوصايا… أما الناموس فقد أُعطي لكي يكشف الخطية، فلم أعرف الخطية إلا بالناموس
[12].
وإِذ يعرف الإنسان خطيته والموت المتربص له فيها، و يدرك عجزه عن بلوغ البر، فلابد له أن يكتشف حاجته الملحة إلى فادي ومبرر.
والمفهوم الجذري للناموس متعلق بالفداء والتبرير الذي أتمه المسيح على الصليب بسفكه دمه كفارة عن خطايانا، من أجل إعادة تأسيس علاقة الإنسان بالله على أساس نعمة الله وليس على أساس ما يحققه الإنسان من أعمال وبالتالي ليس على أساس الناموس، لأنه إِن كان بالناموس بُّر فالمسيح إذًا مات بلا سبب
[13].
فالناموس إذًا كان مرحلة أساسية في تاريخ خلاص الإنسان لكي يدرك به احتياجه الشديد إلى التبرير ببر الله، أو كما يعبَّر عن ذلك معلمنا بولس الرسول قائلًا: لأن غاية الناموس هي المسيح للبر لكل من يؤمن
[14]. إذا قد كان الناموس مؤدبنا إلى المسيح لكي نتبرر بالإيمان ولكن بعدما جاء الإيمان لسنا بعد تحت مؤدَّب
[15].
وهكذا كان يلزم للإنسان بعد سقوطه -كمرحلة من مراحل خلاصه- أن يكتشف الخطية الرابضة في داخله و بالخطية الموت، وأنه لابد من إنسان آخر يكون كاملًا وبارًا ولم يخطئ قط لكي يتدخل ببره بين الله والإنسان، ويقبل نيابة عن الإنسان حكم الموت ثم ينتصر على الموت، لكي يخلص الإنسان من جسد هذا الموت!!
هذا هو المسيح الذي أشبهنا في كل شيء ما خلا الخطية، وهو الذي “بذبيحة نفسه دخل مرة واحدة إلى الأقداس السماوية فوجد لنا فداء أبديًا”
المعالم الرئيسية لخطة الخلاص في العهد القديمبقلم الأب متى المسكين، نُشر أوّل ما نُشر في مجلة مرقس، عدد فبراير ١٩٨٠، الصفحات من ١٨ إلى ٢٤
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
اطرح عنك ذاتك التي تمنعك من الانطلاق في حرية أولاد الله