المقال رقم 8 من 8 في سلسلة التمايز في شرح العقيدة المسيحية

الصليب و ذبائح العهد القديم في اللاهوت الشرقي الأرثوذكسي

لقد تجسد إبن الله الكلمة وصار رئيس كهنتنا الأبدي الذي قدَم جسده الذاتي بإرادته وحده ذبيحة أبدية أسس بها عهده الجديد مع الإنسان. لذلك هو الكاهن والذبيح معاً للعهد الجديد. أما عن  ذبائح العهد القديم  ” تِلْكَ شَرِيعَةُ الْمُحْرَقَةِ، وَالتّقْدِمَةِ، وَذَبِيحَةِ الْخَطِيّةِ، وَذَبِيحَةِ الإِثْمِ، وَذَبِيحَةِ الْمِلْءِ، وَذَبِيحَةِ السّلاَمَةِ،الّتِي أَمَرَ الرّبّ بِهَا مُوسَى فِي جَبَلِ سِينَاءَ، يَوْمَ أَمْرِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِتَقْرِيبِ قَرَابِينِهِمْ لِلرّبِّ فِي بَرِّيّةِ سِينَاءَ.“ ( لاويين ٢٣:٧) ، فإن الات ( الصلوات ) الأرثوذكسية لم تقدم أية إشارة إليها، أي  ذبيحة الإثم – المحرقات بكل أنواعها – ذبيحة الخطية – ذبيحة السلامة – تقدمة خبز الوجوه .

إن غياب هذه الذبائح في الليتورجيات الأرثوذكسية ليس مجرد مصادفة . ذلك لأن قلب وجوهر الطقس والعقيدة الأرثوذكسية لا يمكن أن تشرحه ذبائح العهد القديم تلك . وقد أوضح القديس وال هذه الحقيقة . فرسالة العبرانيين ١٠ تتكلم عن أن الله لَمْ يُسَرّ و لم يطلب أصلاً ذبائح الشريعة الموسوية ” لأَنّهُ لاَ يُمْكِنُ أَنّ دَمَ ثِيرَانٍ وَتُيُوسٍ يَرْفَعُ خَطَايَا .. بِمُحْرَقَاتٍ وَذَبَائِحَ لِلْخَطِيّةِ لَمْ تُسَرَّ (الله لم يُسرُّ بها) .. ذَبِيحَةً وَقُرْبَانًا لَمْ تُرِدْ (الله لم يطلبها) وَلكِنْ هَيّأْتَ لِي جَسَدً (تجسُد المسيح) “.

و يشرح ق. أثناسيوس في (الرسالة ١٩من رسائل عام ٣٤٧م) كيف أن الشريعة لم تأمر أولاً وفي البداية بتقديم الذبائح، وأنه لم يكن هذا هو تدبير الله الذي أعطي الشريعة أن تُقَدَم له المحرقات ”لأَنّي لَمْ أُكَلّمْ آبَاءَكُمْ وَلاَ أَوْصَيْتُهُمْ يَوْمَ أَخْرَجْتُهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ مِنْ جِهَةِ مُحْرَقَةٍ وَذَبِيحَةٍ.“ (ارميا ٢١:٧). ولكنه أوصي الشعب بأن يعرفوه أنه الإله الحقيقي و كلمته ، وأن يحتقروا هؤلاء الآلهة الكاذبة التي تُدعَي كذباً آلهة . وأظهر الله ذاته لشعبه بشكل ظاهر ، و جعلهم يعرفون أنه هو الذي أخرجهم من أرض مصر. ولكن عندما اختاروا أن يعبدوا البعل و تجاسروا على أن يقدموا الذبائح لمن لا وجود لهم ونسوا المعجزات التي تمَت في أرض مصر، وعِوضاً عن الحَمَل (الفصح) الذي أُعطِيَ لهم أن يقدموه، تعلموا كيف يذبحون للبعل ، بل وفكروا في العودة إلي مصر، هنا فقط جاء بالوصية الخاصة بالذبائح وحتى يتعلموا كيف يعبدون الله حسب وصايا الناموس وبذلك يتركون الأوثان. أما عن  الحَمَل الذي أُعطِيَ لهم والذبيحة الواحدة التي تَجُب كل الذبائح فهي ذبيحة وهي المناسبة التي أسَس فيها ربنا يسوع المسيح سر تقديم جسده ودمه بخبز وخمر . لذلك فإن مركز وقلب التعليم الأرثوذكسي هو حَمَل الفصح؛ لأن حَمَل الفصح أَبعد ملاك الموت وحَوَل الُمهلك عن شعبٍ بأكمله، مثلما حَوَلت ذبيحة الرب على الصليب الموت والفساد عن الجنس البشري كله.

والعلاقة بين حَمَل الفصح و موت الرب تتلخص في أن  ذبيحة حَمَل الفصح: أبادت الموت / كانت للخلاص من الموت والعبودية / هي الوحيدة التي يأكلها الشعب كلها / هي عن الشعب كله / يقدمها الشعب كله / لا يُقَدَم منها شئ على المذبح ليُحرَق بالنار، لأنها لم تكن لمغفرة الخطايا . فعلى خلاف رؤية اللاهوت الغربي لذبيحة المسيح على الصليب ، نجد أن حَمَل الفصح لا علاقة له بما يمكن أن ُيقال عن حَمْل عقوبةٍ، أو موتٍ نيابي عن خطيئة آخر، أو إستيفاءٍ لعدل الله أو ترضيةٍ لغضب الله مِن جهة ذنب إنسان . هذا الفكر هو مِن وَضْع  مدارس لاهوت العصر الوسيط في أوروبا و بتأثير من الفكر القانوني السائد ذلك الوقت عن عدم وجود مغفرة مجانية. وأيضاً بسبب تفسير الغرب أننا ورثنا خطية وليس طبيعته المائتة ، مما استوجب عقابَ  شخصٍ بديلٍ عن البشر – و هو يسوع المسيح – يحمل العقوبة عنهم إستيفاءاً لعدل الله الذي ظنوه عدلاً لا يختلف عن عدل محاكم البشر وربما أقل لأن القانون البشري لا يعاقب برئ  عِوضاً عن المذنب.

أما اللاهوت الشرقي فبحسب الكتاب ( انظر مقال ٣ ) اعتقد بوراثة الطبيعة المائتة لآدم و ليس خطيئته. لأن فعل الإنسان لا يُوَرّث بل نتائجه.. أي فساد الطبيعة البشرية نتيجة خطية آدم. مما تطَلب شفاء الطبيعة البشرية بتجسد المسيح. ولقد أُلصِقت فكرة  موت البديل البريء عن المذنب بدايةً بالعهد القديم، ثم وصلت إلي المسيح نفسه و جَعلت منه خاطئ – حاشاً له.. فهو قدوس القديسين – حتى يدفع ثمن خطايا البشرية موتاً على الصليب . مع أنه لا يوجد نص ٌواحدٌ في العهد القديم، ولا في المصادر اليهودية السابقة علي المسيحية، أو في المسيحية الشرقية، يقول إن الخطية تنتقل بوضع يد مُقرّب الذبيحة إلى الذبيحة.

أما بخصوص ما ُذكِر في ( لاويين ٤:١)  عن ذبيحة المُحرَقة  ” وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِ الْمُحْرَقَةِ، فَيُرْضَى عَلَيْهِ لِلتّكْفِيرِ عَنْهُ “ ، فإن السفر لم يذكر أية علاقة بينها وبين الخطية بالمرة؛ بل إنها تقدمة إختيارية حيث يبدأ السفر بكلمة إذا ” إِذَا قَرّبَ إِنْسَانٌ مِنْكُمْ قُرْبَانًا لِلرّبّ “. كما  أنها ” رَائِحَةِ سَرُورٍ لِلرّبّ“ و لا علاقة لها بالخطية. و لكن المُقرّب يضع يده علي رأس الذبيحة، لكي يؤكد فعل التقديم حسب شرح كل علماء المسيحية و اليهودية.  إن خرافة إنتقال خطية الإنسان إلى حيوان برئ لا يَعرف فكر الإنسان ولم يشاركه خطيته، حاول بها شيعة ” الإخوة “ وغيرهم ، شرح  ما جاء في ( 1 بطرس 24:2 ) ” الّذِي حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَدِهِ عَلَى الْخَشَبَةِ ، لِكَيْ نَمُوتَ عَنِ الْخَطَايَا فَنَحْيَا لِلْبِرّ “ بينما هم يجهلون الأصل اليوناني للفعل   ” حَمَلَ “ أنه بمعني” رفع “ أو” أزال “ الخطية كعائق، وليس أضاف إلى نفسه و مَلَك ما لا يمكن امتلاكه، و هو الخطية. الله لا يقبل موت إنسان عن إنسان وإلا كان إستجاب لشفاعة موسي عن بني إسرائيل أن يموت بديلاً عنهم ” وَالآنَ إِنْ غَفَرْتَ خَطِيّتَهُمْ، وَإِلاّ فَامْحُنِي مِنْ كِتَابِكَ الّذِي كَتَبْتَ “. بينما كان رّد الله له ” مَنْ أَخْطَأَ إِلَيّ أَمْحُوهُ مِنْ كِتَابِي“ (الخروج 32:32 ). ويقول المزمور( ٧:٢٩) ”الأَخُ لَنْ يَفْدِيَ الإِنْسَانَ فِدَاءً، وَلاَ يُعْطِيَ اللهَ كَفّارَةً عَنْهُ“.

إن مصطلح أن ربنا يسوع المسيح ” قُدّمَ مُحرَقةً “ للآب لم يذكره أيٌ من الآباء، و هو مصطلح غائب عن العهد الجديد. أما نص أفسس (2:5) ”  وَاسْلُكُوا فِي الْمَحَبّةِ كَمَا أَحَبّنَا الْمَسِيحُ أَيْضًا وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، قُرْبَانًا وَذَبِيحَةً للهِ رَائِحَةً طَيّبَةً “ فقد فسره ق. [ صار المسيح رائحةً زكيةً ، لأنه أعلن في ذاته الطبيعة الإنسانية التي صارت بلا خطية ]. فلا يجب أن يُشرَح النص علي أساس ما جاء في العهد القديم من الذبائح التي لم يُسَرّ بها الله، بل إستناداً إلي شرح الآباء و إستناداً إلي القاعدة اللاهوتية أن تفسير العهد القديم يجب أن يتم علي أساس إعلانات العهد الجديد وليس العكس” فَإِنّ شَهَادَةَ يَسُوعَ هِيَ رُوحُ النّبُوّة “( رؤيا ١٠:١٩). لذلك كانت ذبيحة الفصح و يوم الكفارة و تقدمة إبراهيم لأسحق وتقدمة ملكي صادق من الخبز والخمر هي فقط التي ارتبط ذكرها بذبيحة المسيح في الليتورجيا الأرثوذكسية القبطية. ( وهذا موضوع المقال القادم بمشيئة الرب ) .

والسُبح لله.

بقلم: رءوف أدوارد

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: التمايز في شرح العقيدة المسيحية[الجزء السابق] 🠼 التمايز في شرح العقيدة المسيحية (٧)
التمايز في شرح العقيدة المسيحية (٨) 1
[ + مقالات ]