المقال رقم 7 من 8 في سلسلة التمايز في شرح العقيدة المسيحية

التبرير في المفهوم الأرثوذكسي

قلنا في المقالات السابقة إن آباء الشرق جميعاً قرأوا رومية ١٢:٥ بأن موت وفساد الطبيعة الإنسانية إنتقل من إلي ذريته بالوراثة وليس خطية آدم. وبالتالي ركَّزوا علي سِرّ تجسد المسيح إبن الله كأساس لخلاص الإنسان المحتاج لتجديد طبيعته، المحكوم عليها بالموت، إلي طبيعة جديدة أسَسَها إبن الله للإنسان عندما تجسد. بينما ركّز الغرب في العصر الوسيط في أوربا ثم حركة الإصلاح الي في القرن ١٦، علي صليب المسيح كأساس للخلاص. حيث جاء الغرب بنظرية ” البديل المعَاقَب أو البديل الخلاصي“ لتشرح كيف أن المسيح حمل خطيئة الإنسان – بينما هو البار-  وصُلَب كفاعل شرٍ واحتمل عقوبة الموت بحسب . و بذلك قدَم الترضية للآب ووفَي مطالب العدل الإلهي فنال حُكم البراءة  والعفو من الآب كإنسان باستيفاء أحكام شريعة موسى، ثم أَعطي لنا حكم البراءة  والبر.

إن الغرب اعتبر تبرير الإنسان نتيجةً لحفظ المسيح للناموس والسلوك به ثم قَتْل البار ظلماً علي الصليب، فتبرير المسيح للإنسان في اللاهوت الغربي هو نتيجة استيفاء المسيح للعدل بمفهومه الأرضي .. سِنٌ بسِنٍ وعينٌ بعينٍ .  بينما لاهوت الشرق – كما قلنا سابقاً – لم يضع نظريات لاهوتية بل اعتمد على المكتوب في الكتاب المقدس : (أولاً ) … من حيث أن المسيح لم ُيصلَب كفاعل شرٍ ، بل  ظلماً وحسداً وبشهود زورٍ ؛  وأن الموت أتي إلي المسيح علي الصليب لم يكن بسبب خطيئة صنعها، فهو البار، ولكن بسبب أنه ُولِدَ من إمرأة تحت الناموس – أي كان يحمل طبيعة آدم بعد السقوط و التي حَكَم الناموس عليها بالموت ” وَلكِنْ لَمّا جَاءَ مِلْءُ الزّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُودًا تَحْتَ النّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ الّذِينَ تَحْتَ النّامُوسِ، لِنَنَالَ التّبَنّيَ.“ ( غل ٤:٤) . فالمسيح ُولِدَ في شبه جسد الخطية  ” فَاللهُ إِذْ أَرْسَلَ ابْنَهُ فِي شِبْهِ جَسَدِ الْخَطِيّةِ، وَلأَجْلِ الْخَطِيّةِ، دَانَ الْخَطِيّةَ فِي الْجَسَدِ“ ( رو ٣:٨) بمعني أن يسوع البار الذي لم يصنع إثماً أخذ طبيعتنا التي عليها حُكم الموت بسبب خطية آدم ؛  وأن المسيح صنع هذا بسبب محبته لنا ” ابْنِ اللهِ، الّذِي أَحَبّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي“ ( غل٢٠:٢)  ؛  وأن المسيح لم يخضع للشيطان أو الموت ” لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضًا “ (يو١٨:١٠). بل قَبِل أن يدخل بيت القوي ( الموت ) وينهب أمتعته (البشرية التي تحت سلطان موت الخطية) ( مت ٢٩:١٢) .

إن العدل الإلهي الذي يقضي بموت الخاطئ ، و رحمة الله التي تقضي بخلاص الخاطئ لا يمكن أن يكونا علي طرفي النقيض –  يعمل أحدهما ضد الآخر كما في الإنسان المنقسم علي ذاته  ( مت ٢٥:١٢). فعمل الله كامل ومتكامل  وليس فيه تناقض و إنقسام . فالعدل الإلهي هو الجانب الآخر لرحمة الله ، فهو عدل يعيد ما ضاع و يجدد ما أصابه الموت . و قد ألمح الرب بنصيحته في (لو٥٧ :١٢) بسمو عدله فوق عدل الإنسان و فوق الناموس . (ثانياً)…إن التعبير اللاهوتي في غلاطية ١٦:٢ يصبغ اللاهوت الشرقي الأرثوذكسي كله ” إِذْ نَعْلَمُ أَنّ الإِنْسَانَ لاَ يَتَبَرَّرُ بِأَعْمَالِ النّامُوسِ، بَلْ بِإِيمَانِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، آمَنّا نَحْنُ أَيْضًا بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، لِنَتَبَرّرَ بِإِيمَانِ يَسُوعَ لاَ بِأَعْمَالِ النّامُوسِ. لأَنّهُ بِأَعْمَالِ النّامُوسِ لاَ يَتَبَرّرُ جَسَدٌ مَا…. لَسْتُ أُبْطِلُ نِعْمَةَ اللهِ. لأَنّهُ إِنْ كَانَ بِالنّامُوسِ بِرٌّ، فَالْمَسِيحُ إِذًا مَاتَ بِلاَ سَبَبٍ! “ لأنه يثير السؤال هل بر المسيح الذي برَرنا به ، هو بره  كإنسان نفَذ و قام بكل ما هو مطلوب منه كإنسان حسب الناموس والشريعة؟  الإجابة بكل يقين: لا . بالرغم أن المسيح تمَمَ كل بر (مت١٥:٣).  فالناموس أو الشريعة وُضِعَت للبشر، و هي لا تخّص واضع الشريعة لأنه لا يستمد برَه من الشريعة، بل من كماله الإلهي. فلو كان بر المسيح الذاتي من الناموس، لَتَحَوَل بر المسيح إلي قدرة إنسانية تكفي فقط الإنسان يسوع المسيح، ولا تكفي الإنسانية كلها من آدم إلي آخر الدهور.

إن ق. بولس (رو٢١،٢٠:٥) لا يقارن موت آدم بموت المسيح بل  يقارن بين موت آدم و بين النعمة التي بالمسيح ” كَمَا مَلَكَتِ الْخَطِيّةُ فِي الْمَوْتِ، هكَذَا تَمْلِكُ النّعْمَةُ “ . و لا يقارن بين خطية آدم و بين تنفيذ المسيح لوصايا الناموس بل الهبة و النعمة ” وَلكِنْ لَيْسَ كَالْخَطِيّةِ هكَذَا أَيْضًا الْهِبَةُ … وَلكِنْ حَيْثُ كَثُرَتِ الْخَطِيّةُ ازْدَادَتِ النّعْمَةُ جِدّا “. فلا مجال هنا لعدالة الناموس سن بسن و عين بعين أو عدالة البشر في محاكمهم. فهي ليست مبادلة ولا موت نيابي يُدفَع فيه ثمن خطية. التبرير لم يكن قراراً إلهياً جاء نتيجة حفظ المسيح للناموس والشريعة اليهودية. بل أُعلن كنعمة تُوهَب للإنسان بسبب صلاح الله و ليس صلاح الإنسان يسوع، بالرغم من أنه البار ”«الّذِي لَمْ يَفْعَلْ خَطِيّةً، وَلاَ وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ»“ ( ١بط ٢٢:٢). لذلك فنحن أخذنا البر الإلهي كنعمة من الإله يسوع المسيح.

هنا نري معني ما قاله ق. ” أعطانا الذي له و أخذ الذي لنا “ . المسيح لم يأتي بقرار عفو عن الخطاة – فهذا لا يتطلب تجسد الله – بل جاء لتغيير الطبيعة الإنسانية إلي مجده و برّه علي سبيل النعمة     ” وَنَحْنُ جَمِيعًا نَاظِرِينَ مَجْدَ الرّبّ بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ، كَمَا في مِرْآةٍ، نَتَغَيّرُ إِلَى تِلْكَ الصّورَةِ عَيْنِهَا، مِنْ مَجْدٍ إِلَى مَجْدٍ، كَمَا مِنَ الرّبّ الرّوحِ.“ ( ٢كور ١٨:٣). هذا المجد لا يعرفه الناموس و لا علاقة له به . وفي ( تي ٧:٣) ” حتى إذا تبررنا بنعمته ، نصير ورثة “ نرى أن التبرير بالمفهوم الإنجيلي الشرقي هو تغيير الطبيعة كضرورة لميراث الملكوت . كان بولس بحسب الشريعة و الناموس بلا لوم . و لكن اعتبر بره الذي بالناموس نفاية أمام البر الذي له من الله والذي ليس حسب الناموس ” مِنْ جِهَةِ الْبِرّ الّذِي فِي النّامُوسِ بِلاَ لَوْمٍ. لكِنْ مَا كَانَ لِي رِبْحًا، فَهذَا قَدْ حَسِبْتُهُ مِنْ أَجْلِ الْمَسِيحِ خَسَارَةً. بَلْ إِنّي أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْضًا خَسَارَةً مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبّي، الّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ الأَشْيَاءِ، وَأَنَا أَحْسِبُهَا نُفَايَةً لِكَيْ أَرْبَحَ الْمَسِيحَ،وَأُوجَدَ فِيهِ، وَلَيْسَ لِي بِرّي الّذِي مِنَ النّامُوسِ، بَلِ الّذِي بِإِيمَانِ ( أمانة) الْمَسِيحِ، الْبِرّ الّذِي مِنَ اللهِ بِالإِيمَانِ. لأَعْرِفَهُ، وَقُوّةَ قِيَامَتِهِ، وَشَرِكَةَ آلاَمِهِ، مُتَشَبّهًا بِمَوْتِهِ، لَعَلّي أَبْلُغُ إِلَى قِيَامَةِ الأَمْوَاتِ.“ ( في ٣:١١-٦).

إن عظمة بر المسيح أنه هو هو بر الله – برٌ واحدٌ لاينقسم – وهو يفوق كل ما يقرره الناموس كثمرة لإرضاء العدل الإلهي – و ثبَته بعقوبات من أجل إستقرار العلاقات الإنسانية. و الدليل أن عينيّ بولس كانت على القيامة والحياة الأبدية ، أشياء لم يَرِد بخصوصها شيئٌ بالمرة في شريعة موسى ولا في نظام الذبائح . فالتبرير بالروح في المسيح ليس إعلان براءة الخاطئ ، ولكن هو الإنضمام إلى المسيح أي الكنيسة. ” لِكَيْ لاَ يَفْتَخِرَ كُلُّ ذِي جَسَدٍ أَمَامَهُ..وَمِنْهُ أَنْتُمْ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ، الّذِي صَارَ لَنَا حِكْمَةً مِنَ اللهِ وَبِرّا وَقَدَاسَةً وَفِدَاءً. حَتّى كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «مَنِ افْتَخَرَ فَلْيَفْتَخِرْ بِالرّبِّ».“(١كور ٣٠:١) هنا يَظهر المسيح نفسه كأقنوم حيث تتوالى أسماؤه : الحكمة القداسة  البر الفداء لتؤكد أننا إزاء علاقة شخصية تجعل عدل الله وبر الله هو شخص المسيح ، وليس مبدأ قانوني يُطَبق حسب قواعد الشريعة .

و السُبح لله .

بقلم : رءوف إدوارد

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: التمايز في شرح العقيدة المسيحية[الجزء السابق] 🠼 التمايز في شرح العقيدة المسيحية (٦)[الجزء التالي] 🠼 التمايز في شرح العقيدة المسيحية (٨)
التمايز في شرح العقيدة المسيحية (٧) 1
[ + مقالات ]