اللاهوت المسيحي ، بدايةً ، شرَح عمل المسيح علي الصليب كما قال آباء الشرق بحسب ما جاء في الإنجيل من أن الصليب هو إعلان عن محبة الله ” لأَنّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيّةُ.“ ( يوحنا ١٦:٣) و في القرن السادس عشر لجأ قادة حركة الإصلاح في أوروبا إلي نظريات عقلية قانونية إستحدثوها تقول بأن الصليب كان لاستيفاء العدل الإلهي مستخدمين في ذلك نفس المصطلحات اللاهوتية المشترَكة التي وردت في الكتاب المقدس مثل : فداء – كفارة – بر .. إلخ، و ذلك بهدف القضاء على إنحرافات كنيسة العصر الوسيط والتي تمثلت في : المطهر – صكوك الغفران – المفهوم الخاص عن الإفخارستيا { كشرح الكنيسة الرومانية في منشورها عام ١٠٥٩ ”الإفخارستيا بشكل منظور وليس بطريقة سرية نرى دم المسيح في يد الكهنة و يُمضَغ جسده بأسنان المؤمنين “ } – و الفهم الخاص عن سلطان الكهنوت { متمثلاً في صلاة التحليل اللاتينية القديمة ” بموجب السلطان المعطى لي من الكنيسة أنا أحللك من خطاياك باسم الآب و الإبن و الروح القدس .وهي تختلف عن الصيغة الأرثوذكسية : اللهم حاللنا و حالل كل شعبك “ }.
و عن طريق استحداث نظرية ”عقيدة الكفارة “ إستطاع قادة حركة الإصلاح هدم : المطهر – صكوك الغفران – سلطان الكهنوت في كنيسة العصر الوسيط :
” إذا كان المطهر هو عبارة عن تكفير للخطايا أو أن يوفي الإنسان ديونه للعدل الإلهي، فما لزوم الكفارة وهي عمل المسيح وحده الذي وفَي كل مطالب العدل الإلهي “
( مارتن لوثر)
و قد أدي هذا الإستحداث بقادة حركة الإصلاح إلي التساؤل : ” إذا كان الرب قد أكَمل و أتم الخلاص في الصليب يوم الجمعة ، فما هي فائدة ودور الأسرار الكنسية مثل التناول ؟
و بذلك وَ ضَع المذهب البروتستاني نهاية حاسمة لتعليم لاهوت العصر الوسيط ، و ذلك بالتأكيد علي نظرية لاهوتية قانونية بأن المسيح دفع ثمن خطايانا علي الصليب لله الآب ترضيةً له ولعدله ولغضبه علي خطية الإنسان ، وذلك بأن تحمّل العقاب عوضاً أو كبديل عن الخطاة . و هكذا ظهرت النظرية اللاهوتية ”موت المسيح النيابي أو البدل العقابي “.
و استمر هذا الإستحداث اللاهوتي النظري الذي بدأ بفكرة أن الله دفع الغرامة إلى الله ، أي أن العمل يبدأ بالله وينتهي بالله ، و بالتالي ليس على الإنسان إلا أن يؤمن بما حدث على الصليب . و هكذا نشأ ” التبرير بالإيمان “ عند البروتستانت و الذي أدي إلي اقتلاع الأسرار الكنسية من جذورها في تعليمهم . فالأسرار- و بشكل خاص الإفخارستيا – هي رموز و علامات فقط ، ُتذَكِر المؤمنين بما فعله المسيح علي الصليب .
أما اللاهوت الشرقي فلا يَعرف على الإطلاق مفاهيم العصر الوسيط الخاصة بهذه الكلمات ( فدية ؛ كفارة ..) ، و إنما إنسجاماً ظاهراً بين معاني هذه الكلمات و معانيها في الكتاب المقدس . لذلك لم تذكر الصلوات الأرثوذكسية (الليتورجية) تلك المعاني التي استحدثتها تلك النظريات . فمن المعروف أن الليتورجية هي مرآة عِلم اللاهوت في الشرق . فالتعليم و شرح العقيدة الذي لا أساس له في الليتورجية لا أساس له في الأرثوذكسية ، لأن الإيمان الذي لا يُعبَر عنه في صلاة إنما هو إيمان عقلي وفكر خاص . هذا على الرغم من إضافة صلاة قسمة كاثوليكية في الخولاجي المقدس المطبوع بمعرفة مكتبة المحبة بعد عام ١٩٧٠م. و هي ليست موجودة بالخولاجي المقدس المحَقَق بيد القمص عبد المسيح المسعودي في طبعته الأولي ١٩٠٢م. و من بعده على نفقة القمص عطالله أرسانيوس المحرقي و لا حتى طبعته الثانية ٢٠٠٢م. الصادرة من دير البراموس.
و كمثال لما سبق ، نجد أن صلاة القداس الأرثوذكسي توضح أن الصليب جاء بعمل إيجابي و ذلك بتجديد و إحياء الخليقة ، وردَّ الحياة لها بعد أن كانت مستعَبَدة للموت : ” والموت الذي دخل إلى العالم بحسد إبليس هدمته بالظهور المحيى الذي لابنك الوحيد ربنا و إلهنا و مخلصنا يسوع المسيح “. و نجد أن إعلان العهد الجديد هو مصدر هذا الفهم الأرثوذكسي لعمل المسيح علي الصليب:
” فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ فِي اللّحْمِ وَالدّمِ اشْتَرَكَ هُوَ أَيْضًا كَذلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِالْمَوْتِ ذَاكَ الّذِي لَهُ سُلْطَانُ الْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ،15 وَيُعْتِقَ أُولئِكَ الّذِينَ خَوْفًا مِنَ الْمَوْتِ كَانُوا جَمِيعًا كُلَّ حَيَاتِهِمْ تَحْتَ الْعُبُودِيّةِ. “
( عبرانيين ١٤:٢)
فبينما نرى مما سبق أن المسيح مات علي الصليب لكي يبيد الموت ، فإن نظرية الكفارة حسب إخوتنا البروتستانت تقول بأن الإبن قدَّم نفسه فدية للآب أو أرضَي مطالب العدل و قدَّم للآب فديةً هدَّأت غضبه و جعلته يرضى عن الإنسان . إن اللاهوت الأرثوذكسي يَفهم ” الفدية “ و ” الكفارة “ التي قام بها المسيح – إقنوم الإبن المتجسد- ليس علي أنه ثمن يدفعه الإبن للآب كعمل سلبي يعلو فوقه صلاح الله ، لأنه يُحَوّل المسيح من الإقنوم المتجسد إلي ثمن – و هو مفهوم ساد في الفكر الغربي البروتستانتي أكثر من الكاثوليكي – و لكن يَفهم الفدية أنها عمل و قوة المسيح التي تحرر الإنسان و ليست ثمناً يُدفَع أو دَيناً يُرَّد . و أيضاً َيفهم ” الكفارة “ أنها تَعبير عن التطهير والغفران. فالله يكفر عن شعبه . أي يغفر ويستر الخطايا . و هو أيضاً يفتديه ، أي يخلصه من يد الأعداء و من السقوط في وهدة الهلاك .
فالمسيح أقنوم مساوي للآب و ليس ثمناً يُدفع للآب. و موت الرب على الصليب هَدَم الموت و أزال العداوة. هذا هو المسيح ”الفادي“ الذي يَفدي، يَفُك، يُخلّص ” قوتك فكَكَت بذراعك شعبك “ ( مزمور ١١:٧٧) . أو قل المسيح ”الفدية “ إن شئت ، و لكن ليس بمفهوم الثمن بل بمفهوم عمله علي الصليب في عتق و تحرير و إقتناء الإنسان . كلها معاني تُعَبّر عن الخلاص في معناه الشامل. و للعلم فإن العهد القديم لم يستخدم الإسم ” فدية “ في الكلام عن خلاص وفداء الله بل إستخدم دائماً الفعل ” يَفدي “، و أطلق إسم الفاعل ” فادي “ علي الله نفسه . ولعل أول ما يخطر على فكر القارئ بخصوص الفدية هو مفهوم ذبائح العهد القديم. و لكن هذا يتطلب بعض الشرح فيما بعد لا يتسع له المقال الآن.
و كمثال آخر، يصلي الأرثوذكس في الساعة السادسة ” يا من سُمرت علي الصليب من أجل الخطية التي تجرأ عليها أبونا آدم في الفردوس ، مزق صك خطايانا أيها المسيح إلهنا و نجنا .. َقتلت الخطية بالخشبة أحييت الميت بموتك (آدم).. من أجل هذا نمجد المسيح إلهنا لأنه قوي“. هنا أيضاً نري اللاهوت الشرقي مستمَداً من إعلان العهد الجديد:
”و إِذْ مَحَا الصّكّ الّذِي عَلَيْنَا فِي الْفَرَائِضِ، الّذِي كَانَ ضِدّا لَنَا، وَقَدْ رَفَعَهُ مِنَ الْوَسَطِ مُسَمّرًا إِيّاهُ بِالصّلِيبِ“
( كولوسي ٤:٢ )
. و في هذا كله يُظهِر اللاهوت الشرقي أن المسيح مزق ( ليس دفع ) الصك . أهمية هذا الفهم هو موضوعنا القادم .
و السُبح لله. ( يُتبع)
بقلم : رءوف إدوارد
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟