* الله كلم الآباء (بالانبياء) بأنواع وطرق كثيرة (عب 1). فإن الإدراك الإنساني له مستويات مختلفة. ولا يمكن أن يتفق الكل على ما يدركه كل واحد على حدة، ولكن الكل يتفق على الهدف أو الغاية التي لأجلها وُضِعَت العقيدة.
إن الله الذي رسم نفسه في خليقته، هو الذي طبعها على التنوع لأنه مثلث الأقانيم. فتثليث الأقانيم هو مصدر التنو: تنوع المواهب، تنوع الخليقة، وتنوع الوجود نفسه (مادي. روحي. وما نكتشفه في مستقبل الأيام). لذا فالتنوع ضرورة، وهو أساس الحرية في كيان الله و بالتالي حرية الإنسان لأن الله خلقه على صورته في الحرية.
الله هو جوهر واحدٍ مساويٍ وغير منقسمٍ بين أقانيم / أشخاص ثلاثة متمايزة. هذا الجوهر الإلهي الواحد هو الغِنَي المطلق الذي منه يأتي كل غِنَي. فأقانيم الله فيها تمايز، ولذلك اختلفت الأسماء الإلهية: الآب غير الابن غير الروح القدس. وصفات جوهر الله مُعلَنة بصورة مُطلقة في الأقانيم الثلاثة. والمحبة هي أهم صفات جوهر الله. و المحبة لها غاية تسعى إليها وهي الإتحاد بالآخر. والإتحاد الحقيقي هو بين من يتمايزون. لذلك بدون التنوع لا مكان للمحبة .
* إن شرح العقيدة الأرثوذكسية ، هو شرح متعدد لحقيقة واحدة وتعليم واحد، صاغه قانون الإيمان واجتهد الآباء معلمو الكنيسة في شرحه بطرق متنوعة، من أجل الإحتفاظ بالفروق الفردية وخصائص حياة كل شخص. هذا نراه في الإنجيليين الأربعة؛ كتبوا أربعة أناجيل متنوعة عن المسيح الواحد. ونجد أيضا أن الروح القدس يمنح مواهب متنوعة، مع أن الرب الواحد هو الذي يوزع هذه المواهب.
* و في النهاية نقول، إن التنوع هو مصدر الوحدة، فنحن نتحد بما نختلف عليه، و هذا مجال المحبة وغايتها. وما نختلف عليه هو ما يجعل تمايز كل شخص سبباً للوحدة؛ لاننا نتحد بمن هو مختلِف عنَّا في فهم وإدراك المعاني الكامنة في النصوص المقدسة. و هكذا تتحد الكنيسة في تنوع الشرح لأنها تسمح بالحرية وبتعدد الرؤي، لكي ينمو كل إنسان حسب فهمه وحسب الهدف الذي تحدده العقيدة.
* وما يلفت النظر هنا، هو إتفاق هذه الشروح المتنوعة وانسجامها مع ليتورجية (صلوات) الكنيسة. وهذا هو ما حفظ وحدتها، وأكد أن الإيمان واحد.
* و بالنسبة للعقيدة المسيحية عامةً فهي واحدة من حيث أن الأرثوذكس والكاثوليك والبروتستانت يؤمنون بالتثليث والتوحيد، وبالتجسد الإلهي، وبمسيح واحد هو إبن الله الظاهر في الجسد، و بالقيامة من الأموات وحياة الدهر الآتي .. إلخ ؛ و لكن الشرح لها متعدد .
* لقد شرح الغرب العقيدة المسيحية شرحاً عقلياً مؤسساً علي الفكر والفلسفة. أما الشرق الأرثوذكسي فقد ركَّز في شرحه للعقيدة المسيحية علي الممارسات الليتورجية ( الصلوات و الطقوس الكنسية : قداس. معمودية. ميرون….) والحياة النسكية.
* ان شرح الغرب (الفكر الأوربي) للعقيدة المسيحية يعكس بالضرورة تطور الفكر الكاثوليكي في العصور الوسطى، والذي يعتبر المصدر التاريخي واللاهوتي للفكر البروتستانتي الذي جاء به عصر الإصلاح في القرن السادس عشر.
* ولما كان شرح الغرب للعقيدة قائماً على الفلسفة والفكر الاجتماعي السائد آنذاك، لذلك تأثر أيضاً بالفكر السياسي؛ أما الشرق فقد فَصَل بين الفكر السياسي والإيمان المسيحي.
* لذلك نجد أن شرح آباء الشرق قد روحن المصطلحات التي كانت سائدة في عصرهم، بينما لاهوت الغرب سيَّس هذه المصطلحات و فسَّرها في إطار القانون.
* فبينما إهتم الشرق بالمحبة الإلهية وبالصلاح الإلهي الذي أُعِلن لنا من الآب بالابن في الروح القدس، لذلك حَفِظَ مفهوم العدل الإلهي كجزء من المحبة الإلهية، وفَهِمَ العدل الإلهي بشكل يختلف عن العدل الأرضي – عدل المحاكم والقانون؛ نجد أن الغرب حصر المحبة في إطار العدل لأن هذا يتفق مع النظام السياسي؛ فالإمبراطورية المسيحية التي أسسها شارلمان لا تقبل مجانية النعمة.
* إن الكنيسة القبطية و منذ القرن العاشر ، و بسبب من الغزو العربي لمصر ( منتصف القرن السابع) إنقطعت صلتها بفكر آبائها الذين كتبوا باليونانية والقبطية وبدأ التأليف باللغة العربية. هذه الفترة تكاد تكون خلت من نتاج فكري يضمن التواصل مع تسليم الآباء ، مما سمح للفكر الكاثوليكي والبروتستانتي للتغلغل بالتدريج منذ مطلع القرن التاسع عشر مع الإرساليات . و لولا إحتماء الكنيسة القبطية بصلواتها- والتي تُعتبر في حد ذاتها أدق صِيَغ تُعبر عن الإيمان، لضاعت إلي الأبد هوية الكنيسة القبطية، و لَفَقَد اللاهوت الأرثوذكسي أعمق مُعَبّر عنه.
والسُبح لله.
بقلم: رءوف ادوارد.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟