يرسم ، الأسقف العام في الأرثوذكسية، صورة عن نفسه بأنه رجل غامض. جزء من هذه الصورة ترسخ بأنه لا يتحدث كثيرًا، لكن حينما يتحدث أو تصدر عنه تصريحات ينسف هذه الصورة تمامًا. وأخرها البيان الذي أصدره بالتضامن مع الشيخ ضد مركز الأبحاث الوليد “تكوين”، مورطًا الكنيسة والأقباط فيما لا يخصهم من جدال.

أذكر أنني كنت شاهدًا على واحدٍ من تلك المواقف التي تحدث فيها الأنبا إرميا في المقر البابوي داخل الكاتدرائية المرقسية في العباسية، ثاني يوم رحيل ال الثالث في 17 مارس 2012، ومعها نسف صورة الغموض التي يصدرها عن نفسه. تحدث الفنان الراحل نور الشريف من قبل عن شخصية “كمال” في فيلم “العار”، واللازمة الشهيرة التي كان يؤديها برفع يده. وهكذا فعل الأسقف إرميا، حين رأيته أنا ومجموعة من زملائي الصحفيين يتحرك في فناء المقر البابوي جيئة وذهابًا بتلك اللازمة وهو يقول: أنا مش مسؤول، أنا مش مسؤول، لكن الذي أعلن أنه ليس مسؤولًا عن شيء، كاد أن يتسبب في كارثة. فبينما كان الناس يدخلون من اتجاه ويخرجون من آخر لإلقاء نظرة الوداع على البابا الراحل في الكاتدرائية، تدخل وفتح المسارين على بعض، فكان كثيرون على شفَا الاختناق بسبب الزحام والتدافع.

منذ نهايات عصر البابا شنودة، يقحم الأسقف إرميا نفسه في الملفات المرتبطة بالعلاقات مع مؤسسات وأجهزة الدولة، لدرجة أنه نال العديد من الألقاب على مواقع التواصل الاجتماعي، فمرة يقال عنه “رجل الأمن في الكنيسة”، و”رجل الإخوان في الكنيسة”، وحاليًا “رجل الأزهر في الكنيسة”، ليس بسبب البيان الأخير الذي أعلن فيه تضامنه مع الشيخ أسامة الأزهري فحسب، بل أيضًا لعضويته في الأمانة العامة لمؤسسة “بيت العائلة المصرية”، التي تأسست لمواجهة الطائفية. إلا أنه توجد علامات استفهام كثيرة على أداءها في ظل رعايتها لجلسات صلح عرفية مجحفة للطرف الضعيف -أي الأقباط- في بعض الاعتداءات الطائفية على المسيحيين، ما يضع الأسقف إرميا في موضع المسؤولية السياسية عن بعض الأحداث والوقائع، ومنها ما حدثت عندما كان سكرتيرًا للبابا الراحل شنودة الثالث، وكان يتولى التفاوض أو نقل رسائله للمسؤولين، وأبرزها وأهمها أحداث “”.

ماذا يريد الأسقف إرميا؟ 1وبما أن الأسقف إرميا هو رجل كل العصور، ودائمًا ما يبحث عن موطئ قدم له مع المسؤولين، لا ليعمل لمصلحة الأقباط وقضاياهم ومشاكلهم بل لمصالحه الشخصية، فهو دائمًا ما يبادر بدعم كل من يصل إلى الكرسي. ولا ننسى خطابه الشهير، بعد وصول مرشح الإخوان للحكم، فلم يكتفِ بتهنئة بروتوكولية تكون مقبولة، بل أشار إلى أنه أول رئيس منتخب بملء إرادة الشعب تطبيقًا لحرية الاختيار وال ومبادئ المواطنة. وناشد الذين اختاروا الدولة المدنية الديمقراطية بالتعاون معه. ألم نعش تلك الأيام التي تم التهديد فيها بحرق مصر ودخول إرهابيين من على الحدود لو لم يتم إعلان فوز مرسي؟ والأسقف إرميا يحدثنا عن الديمقراطية والمواطنة والدولة المدنية في فوز مرسي!

ماذا يريد الأسقف إرميا؟ 3

ولنا في منشور شخصية مرموقة وبرلماني سابق، بعد تنظيم لحفل كُرّم خلاله وزير الإعلام الأسبق ، الذي خرج في عهده تحريض علني ضد الأقباط وقت أحداث ماسبيرو، وقد ألمح البرلماني السابق إلى أن قيادة عسكرية قالت له بعد فض بؤرتي رابعة والنهضة في أغسطس 2013، بأن يتم اختيار شخص آخر يكون همزة الوصل مع الدولة، لأن الذي يتحدث عنه البرلماني، وهو من نظم تكريم أسامة هيكل، كان يحضر اجتماعات مع ، وفور خروجه منها يتصل بمكتب إرشاد الإخوان يبلغهم تفاصيل اجتماعات مفترض أنها سرية، في وقت عصيب عانى خلاله الشعب المصري تحت حكم تلك الجماعة الإرهابية عمومًا، والأقباط خصوصًا، حينما كان يتم التحريض عليهم من قيادات تلك الجماعة، بوصف المتظاهرين ضد مرسي بعد الإعلان الدستوري المعيب في 5 و6 ديسمبر 2012 أن 80% منهم أقباطًا.

انتهى ذلك العهد وطويت تلك الصفحة، وجاءت صفحة جديدة زار فيها رئيس الجمهورية الجديد، عبد الفتاح ، الكنيسة في قداس . فيترك القداس ليكون أول شخص في استضافة الرئيس والسير بجانبه، ثم يرافقه دونًا عن بقية الأساقفة والكهنة إلى خارج الكنيسة، مظهرًا وكأنه صديق الرئيس الشخصي.

مع أن الأسقف إرميا لم يتفوه بكلمة واحدة ضد ال الثاني، مثلما يفعل بعض الأساقفة بإعلان عصيانهم علانيًة للبابا، إﻻ أنه يحترف المعارضة بالوكالة، مثل أغاثون والعدوة، ويما ، الذي فتح له إرميا قناة “مي سات” -المسماة زورًا قناة الكنيسة ومختطفة من قبله للترويج له ولرجاله- لتقديم برنامج “إيماننا الأقدس”، الذي كان يخرج من خلاله أسقف أطفيح لمعارضة البابا والرد على عظاته، وتم وقف البرنامج بقرار من البابا تواضروس بعد تعديات زوسيما المتكررة، إضافة لترويجه التعصب ومعلومات سطحية عن الأعياد والمناسبات، وتأملات في البلح والجوافة.

ولنا في التسريب الشهير للأسقف إرميا، حيث أعلن حزنه عن وقف برنامج الأسقف زوسيما، متسائلًا متعجبًا: “عايز واحد يقولي الأنبا زوسيما شتم البطريرك؟”، كما تحدث عن أحد الأساقفة وادعى حسب التسريب أنه أراد تلفيق تهمة للأسقف زوسيما، وقال: “ممكن يلفقوا تهم.. دول لا دين لهم”. السؤال هنا: كيف مر هذا التسريب الواضح دون محاسبة من ، حين يقول أسقف على بقية الأساقفة إنه لا دين لهم؟

من المعروف أن هناك أشخاصًا بعينهم وصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي تمثل لجانًا إلكترونية -مثل لجان التي لا تزال تحرض ضد مصر والمصريين- لمهاجمة البابا تواضروس والتيار الإصلاحي. ومن قبل، حرضوا على الأنبا إبيفانيوس، رئيس ، قبل مقتله. هؤلاء يدعون زورًا وبهتانًا حماية الإيمان والحفاظ عليه، ويهاجمون الحوار بين والكنائس الأخرى، ويرفضون أي مساعي للوحدة في توقيتات الأعياد، ويفتحون “مندبة” لا تنتهي على ضياع الإيمان والتفريط فيه لمجرد الرغبة في توحيد مواعيد الأعياد المرتبطة بالتقويمات وليس بالإيمان. ولكن عندما بدأ الأسقف إرميا بيانه بعبارة البابا شنودة “بسم الإله الواحد الذي نعبده جميعًا”، خرجوا للدفاع عنه ومعهم الأسقف أغاثون الذي قال إنها عبارة لاهوتية صحيحة.

والسؤال هنا: “منين بيودي على فين؟” كل “شلة” اللجان الإلكترونية ومعهم الأسقف أغاثون يروجون بأن مركز “تكوين” يسعى لهدم الأديان ويروجون لمؤامرة في خيالهم بتوحيد الأديان تحت راية دين جديد يسمى “الدين الإبراهيمي”. وفي نفس ذات الوقت يهللون لعبارة “بسم الإله الواحد الذي نعبده جميعًا”. أليست هذه العبارة تصب في ترسيخ “الدين الإبراهيمي الجديد”؟

لستُ في مجال مقارنة الأديان، ولكن أبسط الأمور هو أن مفهوم الله في المسيحية يختلف تمامًا عن مفهوم الله في الإسلام. ومع ذلك، يروج الأسقف أغاثون وبقية اللجان الإلكترونية لتقارب كنيستنا في مفهومها عن الله مع الإسلام أكثر من تقاربها مع والكنائس الية، الذين نشترك معهم في “قانون الإيمان النيقاوي”. ويدّعون أن “مسيحنا غير مسيحهم”.

سؤال موجه إلى أصحاب العقول النابهة الذين يلمحون التفاصيل الصغيرة ويربطون الأشياء ببعضها: لماذا يهاجم الأسقف أغاثون واللجان الإلكترونية البابا تواضروس، بينما انبروا للدفاع عن الأسقف إرميا الذي يرفض إنكار “السنة المشرفة”؟

أضيف صوتي أخيرًا للدكتور نائب رئيس مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية في المنشور الذي كتبه على حسابه بـ”فيسبوك”، عن الأسقف إرميا وتصرفاته، ومطالبه بـ”عدم خلط الدين بالسياسة ومع دولة مدنية حديثة، تنهض على أساس المواطنة والمساواة وحكم القانون، تفصل الدين المقدس والمطلق عن السياسة النسبية المتغيرة، واقتصار دور رجال الدين في المجال الروحي فقط”، والمطالبة بـ”حركة تصحيح تعيد رجال الدين المسيحي إلى أدوارهم الروحية ويتوقفوا عن اللعب على الأحبال السياسية”.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

بيتر مجدي
[ + مقالات ]

باحث وكاتب صحفي متابع للشأن الكنسي وشؤون الأقليات.
زميل برنامج زمالة الأقليات- مكتب المفوض السامي لحقوق لإنسان- الأمم المتحدة، جنيف/ ستراسبرج 2023.
زميل برنامج "" () لشبونة 2022.