يُحكى أن "نرسيس" الصياد -وفقًا للأساطير اليونانية- إبن الإله "كيفيسيا" والحورية "ليريوبي"، كان مُعتدًا بجماله الخلاب بحيث يرفض من حوله ويتجاهلهم، وفي إحدى الأيام لاحظت الآلهة "نمسيس" تصرفاته تلك، وأخذته إلى بحيرة حيث يرى انعكاس صورته فيها، وما أن نظرها حتى وقع في حبها دون أن يدرك أنها مجرد صورة، وظل في إعجابه ذلك حتى عجز عن مفارقة صورته وظل يحدق بها إلى أن مات!
تُمثل قصة “نركسوس” أو “نرسيس” الأساس الذي بنى عليه “سيجموند فرويد” إحدى نظرياته للتحليل النفسي، والتي تُعرف اليوم باسم العقدة النرجسية، وفيها يُولع شخص ما بنفسه، ويتناسى أي حب أو إعجاب بالآخرين فلا يرى سوى ذاته، مما يؤدي في النهاية إلى انسلاخه عن مجتمعه وبذلك يفنى ويضمحل.
هذا النوع من شبه الحياة والانفصال عن الواقع يُعرف كذلك بـ “الذات المزيفة” وتلك الأخيرة تعتمد على خراب الإنسان من الداخل إلى الخارج، ففيها ادعاءاته وتظاهره بالحقيقة حيث تم التعبير عنها: “إن سمة الخداع هو القناع الذي يخفي التحفظ البارع لجميع القوى تحت مظلة العقلانية الفكرية أو تحت مظلة الالتزام المستعار أو التأدب الظاهري”
ولكن من الذي يُخادعه الإنسان؟ ألم تتساءل من قبل؟ هل يُخادع ذاته، أم مجتمعه، أم رغباته، أم إلهه، أم جميعهم؟
هذه نقطة انطلاقنا اليوم..
منذ بداياتها، قدمت السينما المصرية العديد من الأنماط مثل المثقف والشرير والضعيف والمُخادع.. إلى المتدين! ماذا عن المتدين النرجسي؟ لأن المتدين القبطي جزء من مجتمع أكبر حافل بـ الأفكار والأيديولوجيات، ظللت أبحث عن الكيفية التي قدمت بها السينما المصرية المتدين القبطي، ومدى اتساق تلك الصورة مع واقعها في الحياة اليومية.
لعل النموذج الأشهر والأكثر كاريكاتورية هو عدلي، الأب، محمود حميدة، في الفيلم الصادر عام 2004 “بحب السيما” من إخراج الراحل أسامة فوزي، الفيلم الذي لم يسلم لا من نقد المجتمع القبطي ولا الإسلامي، فلماذا؟
في ذُروة ارتباك المشاعر وتلاقي ثنائيات الخوف والرجاء، الرغبة والرهبة، التحريم والتحليل، الجنة والنار، القداسة والرغبات الإنسانية بشكل عام، يُجسد الأب “محمود حميدة” ببراعة يُحسد عليها شخصية المتدين الأصولي المتشدد الذي تحكمه تركة ثقيلة من ميراث القهر والخوف من كل شيء، فهو يبدأ يومه بالصلاة والاستغفار ويريد ترسيخ قناعاته الدينية في أذهان كل أفراد أسرته ولا يتردد في استخدام أسلوب الترهيب والوعيد في ذلك. يتعامل الأب عدلي هنا مع الجنة والنار بمفهوم تجاري بحت أي الربح والخسارة، فهو لا يسعى للقداسة لأنه يُحبها، فعلى العكس من ذلك هو يحسد الخطأة الذين ينغمسون في شهواتهم الأرضية ثم يتوبون قبل وفاتهم! بالنسبة إلى عدلي يُختزل الله في مجموعة قوانين، ورغم رغبته كإنسان طبيعي في الاستمتاع بمباهج الحياة وشكر الله عليها، إلا أنه ظل يُجرم أي نوع من الفنون ولحظات الفرح البسيطة في الحياة. بعد خروج عدلي من المعتقل يتواجه مع زيف حياته وهشاشة نزعاته ويوجه خطابه إلى الله معترفًا لأول مرة بحقيقته قائلًا:
“الناس بتكذب على بعض، لكن أنا بأكذب عليك أنتَ، كل ده كذب، أنا بحب الخطية، ومبحبش السيما عشان بتعريني وبتقولني وبتكشفني قدامي وتفضحني، أنا بحب الخطية، بس خايف من جهنم.. أنا معرفكش، أنا بعرف شوية إشارات وطقوس وحركات آلية… كلنا بنتفق على حاجة واحدة وبس، إننا خايفين منك، خايفين منك، بس مبنحبكش.. نفسي أحبك، نفسي أحبك زي ما تكون أبويا!”
(شخصية عدلي التي مثلها الفنان “محمود حميدة”، فيلم: بحب السيما)
يُمثل عدلي في تزمته إحدى أعراض النرجسية الشديدة وهي: لغة الجسد المتعجرفة والمقترنة برؤية الأحداث من منظور أحادي فقط ثم يتجاوز عن ذلك بلحظات شفاء صادقة يتعرف فيها إلى ذاته الأصيلة ويتنسم لفترة قصيرة نغمات الانعتاق.
إذًا أين المشكلة؟ فما سبق طرحه هو حوار إنساني صادق إلى أقصى درجة وشخصية درامية متعددة الأبعاد وليست سطحية. سأسرد حاليًا المشكلة من واقع العقل الجمعي القبطي والذي عبر عنه “نعيم” الطفل يوسف عثمان في الفيلم ببشاشة الأطفال واتساق ذواتهم:
التماهي:
ينكر معظم الأقباط تشابههم مع مجتمعهم ذو الثقافة الإسلامية ويُغلظون الأقسام أنهم لا ينتمون سوى للمسيح، هذا صحيح نسبيًا، بالفعل هم ينتمون لمسيح خاص بهم لا تجده في البشائر الأربعة! مسيح يغضب من شعر النساء غير المغطى داخل الكنائس، مسيح يتقزز من ذراع مكشوف، مسيح يُحرض على احتقار العلاقة الجنسية في الصوم، مسيح يُشجع ختان الإناث في فصول مدارس الأحد، مسيح يلغي فردية البشر ويحولهم لقطيع أعمى! الحقيقة الأغلبية سترى ذلك تجنيًا وادعاءًا، ربما بالطبع فأنا كذلك كائن بشري ذو خصوصية في أفكاره! لكن بمراجعة بسيطة لبعض منشورات التواصل الاجتماعي أو تعليقات الأغلبية على منشور في صفحة عامة ستجد أن التفكير واحد بين عناصر الأمة، في النهاية هم داخل مجتمع واحد و شاءوا أو أبوا يؤثرون في بعض! لا تصدقني؟ إليك بعض الكلمات الدالة يمكنك البحث من خلالها:
لا يليق = وهي تعني اختصارًا الحلال والحرام ولكن بصيغة مسيحية، لكنها ركيكة نوعًا ما. تشمل تلك الجملة القصيرة الكثير: لا يليق سماع الأغاني كثيرًا، لا يليق التحدث هكذا، لا يليق الجلوس في القهوة، لا يليق.. كلما سمعت مصطلح “يليق ولا يليق” أعلم أن الكلمات التالية ستكون من عينة العربية المفتوحة وعلب التونة فوق الأرفف!
ببيتك يا رب تنبغي القداسة = وتلك القداسة غالبًا تنطبق على النساء فقط، من تدخل في مساحة الزي الشخصي أو انتقاد تسريحة شعر أو توبيخ على حضور ليتورجيا بمستحضرات تجميل.. الأمر أشبه بالوصاية السرية من العلمانيات تحديدًا قبل ألإكليروس، فلا تفاجئي حين تجدين من تقتحم مساحتك الشخصية لأنها خادمة، مثالًا، وتوبخك على ملابسك في طابور التناول، فهذا لها حق مكتسب ونوع من التعالي المُستحق، فهنا لا مساحة للاعتراض، فالحرية الشخصية والإرادة الحرة قد تُعد رذيلة!
اسم المسيح يُهان بسببكم = بالطبع يُقصد هنا “سببكن”! فوفقًا للأقباط المعاصرين تتحمل المرأة وزر السقوط وتبعاته وحدها، ولا يُدركون أن في ذلك تهمة بلاهة للذكر نفسه! تُلام المرأة على التحرش الذي تتعرض له تحت بند “شوفي لبسك”، تحرش غالبًا ما يكون من صبية يعرفون موعد الخدمات أو أفراد أمن! ومع ذلك هي مُلامة! فمبدأ الملابس حرية شخصية وذوق فردي لا يلقى استحسانًا داخل المجتمع القبطي. الأمر يُذكرني بأسطورة “ينتهي الغلاء حين تتحجب النساء” لكن بنكهة قبطية تُناسب المجتمع. ولا ننسى بالطبع وعظات المطارنة والكهنة حول مدى احتشام النساء المسلمات أو ملابس العذراء مريم، في حين أن أولئك يتناسون أن الملابس وليدة بيئتها، وأنه وفقًا للإحصائيات لا تسلم أمرأة أيًا كان عمرها أو ملابسها من التحرش في هذا المجتمع! من العجيب حقًا أنهم لا يتحدثون تمامًا عن القانون وكيفية تطبيقه، النساء فقط ملفتات ويستحققن ما يحل بهن! فليخبرهم أحد أن الرجال كذلك فاتنون! فلكي لا يسمع لفظ “ديوث” يتربى الذكر القبطي على فوقيته واستحقاقاته عن بنات حواء، ولا يحاول معالجة المشكلة بتطبيق القوانين وتشجيع النساء على أخذ حقوقهم بالقانون. للذكر القبطي المصري “المرأة تابع لرجل” ما وما زاد على ذلك فهو من الشرير!
ابن الطاعة تحل عليه البركة = وهي عبارة تُساوي لا تُجادل ولا تُناقش فيما تسلمنا حتى وإن بدا منافيًا لإنسانيتك وعقلك المفكر: لماذا تفكر طالما لدينا جواب لكل شيء. منذ نعومة الأظافر ينشأ جيل كامل على السمع والطاعة وعدم التفكير مليًا وربما تجنب القراءات المحظورة أو المشاركة السياسية.. الأمر أشبه بماكينة تفريغ عقول وملئها بثوابت لا تقبل الجدل أو احترام الأخر أو الحرية الفردية، أتحدث هنا عن الصبية و الفتيات.
عشان إحنا إيماننا سليم = وهذا متطابق بالطبع مع عقيدة “الفرقة الناجية”. أفكارنا غير قابلة للنقاش، نمتلك الحقيقة المطلقة، لا نُخطئ.. ليس الأمر هنا فقط اتهام الأخر بالدونية والفسادـ لكن في هذا مسحة خفية من لذة ممارسة السلطة وتجييش القطيع، فلندعوها سلطة أبوية، سلطة مستحقة، أيًا كان فهي تُلاقي الرواج بين الجماهير!
عقدة الجسد:
سبق وعرضنا علاقة التأثير والتأثر بين الأقباط والمجتمع، ورغم كراهية الأقباط كثيرًا للبدع إلا أنهم يُحبون الغنوصية أو احتقار الجسد بصورة ما، بل ربما يجدون في ذلك فضيلة! وحيث أن الفن يحتفى بالحياة ويُقدر روعة الجسد ستجد عدد لا يُستهان به من الأقباط يُعرضون عنه أو يجدون له بديلًا داخل جدران الكنيسة. فلا مانع من الرسم والتمثيل والتعبير الحركي والمسرح والموسيقى داخل إطار كنسي مُحافظ، لأنك، وبالنسبة للعقلية القبطية، أن فعلت ذلك خارج أسوار الكنيسة، أو المجتمع الآمن، ستختلط بالعالم وهذا بالطبع سيؤذيك، ربما ستقدم تنازلات أو تتخلى عن إيمانك أو تنغمس في الشرور، أو حتى تبتعد عن عيننا التي ترعاك! كمجتمعهم، يتقزز غالبية الأقباط من الجسد، بالأخص الأنثوي، قد يقولون أن الطمث ليس نجسًا ولكن يمنعون النساء من الشركة المقدسة خلال الحيض، قد يقولون أن الزواج سر كنسي أصيل لكن منهم من يشعر بالذنب تجاه علاقته بزوجته قبل القداس أو في صوم: كأن الأمر دنس ونجاسة، لك بالطبع أن تتخيل أن تُثر قضايا الاغتصاب الزوجي والعلاقات الرضائية أو الإعجاب والافتتان في مجتمع كذلك. لذلك السبب لم أتعجب من تقزز “عدلي” في بحب السيما من العلاقة الجسدية ولوحات النساء في منزله!
ثُنائية السر والعلن:
ينطبق هذا على كل شيء تقريبًا: لا تُناقش مثل تلك الأمور على الملأ. خليك في خلاص نفسك، اللجام الذين يضعونه لمن يفتح فاه. اختصارًا لا تكن نفسك، كن نسخة من القديس فلان. انكر رغباتك ومشاعرك وحين تطارد صحوك ومنامك قل أنها أفكار شريرة. الأمر أشبه بأننا نعرف الكثير من قضايا الفساد داخلنا وداخل مؤسساتنا لكننا لن نعترف بذلك. لام الكثيرين على الفيلم قصة لمعي ونوسة داخل أسوار الكنيسة كذلك طلاقهما، واعتبروه تحريض على الفجور ودعوة لهدم الأسر القبطية، المهدمة بالفعل، كما عتبوا على الجدة التي تشتم ببذاءة، وانكروا كل الاستنكار خيانة زوجة مسيحية لزوجها، وكأنهم ليسوا شخصيات قد نجدها حولنا في المجتمع! فالقبطي نموذج واحد فقط معروف بتقواه وفضائله ولا يصح أن تظهره السينما بتلك الصورة! نحن لا نعترف بوجود الخطأة ولا نقبلهم كمسيحنا!
الأفكار المغلوطة عن الله:
ولأنك لن تتساءل عما هو طبيعي، كطفل قبطي، بالطبع لن تتساءل عما فوق الطبيعي! كان الاعتراض الأكبر على فيلم “بحب السيما” هو تصويره لمشهد مُصارحة بين البطل ونفسه والله، في خطوة غير مألوفة، فكيف يُخاطب الذات الإلهية بتلك النبرة؟ كيف يُخاطبها أساسًا بعد خروجه من بار خمور؟ كيف يجرؤ على الشك بعقيدته وطقوسه؟ أليست الطقوس هي باب ملكوت السموات؟ كانت نقطة تحول “عدلي” بالنسبة لي هي لحظة انهيار دفاعاته الداخلية، لحظة الصدق التي بكى فيها أمام الله، وعاد ليكون نفسه يستكشفها بلطف ويعيش ذاته بحلوها ومرها دون أن يرتعب. كثير من شباب الأقباط لا يعرفون عن الله سوى الممارسات من حضور ليتورجيا أو فصل ألحان أو مدارس أحد، لكن إن تحدثت معه عن الله ستجد العجائب لا يكفي مقال لنشرها. رغم حزني لوفاة “عدلي” في الفيلم بعد فترة قصيرة من اكتشاف ذاته، لكني فرحت باكتشافه أعمق معاني السلام داخل نفسه من خلال الحياة فقط كـ”عدلي”: فقد اكتشف ملكوت الله داخله!
بعيدًا عن الطرح الساخر شبه الكاريكاتوري لبعض شخصيات فيلم “بحب السيما” هل مازلت لا تعرف لماذا يكرهه الأقباط؟ أشك في ذلك. نجح الفيلم في ربط الفكر بالمتعة البصرية. شاهده أولًا ثم قرر بنفسك.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
نحاول تخمين اهتماماتك… ربما يهمك أن تقرأ أيضا:
- شنودة يحاكم هؤلاء يا تُرَى من السبب في مأساة الطفل "شنودة"؟ بداية الكنيسة أخطأت أنها لم تبلغ عن وجود الطفل، والأهل أخطأوا إنهم نسبوا الطفل لأنفسهم دون تقنين، لكن السبب الذي دفعهم لهذا هو تجريم التبني حتى على المسيحيين. وأن الدولة لو “شمت خبر” ستأخذ الطفل وتضعه في ملجأ، وهذا ما حدث فعلاً، قمة العبث إنك تسحب طفل......