نظرة الشيطان وتجربة الانتصار الفوريّ

يستخدم القدّيس توما ال تعبير «الشهوة الرديئة» concupiscentie. إنّ النظرة الفاحصة لتعليمه ترينا أنّ هذا المفهوم معناه الرغبة في الحلول السهلة التي لا تأخذ في حسبانها ثقل الحياة وواقعيّتها. ففي روايات الأناجيل، هو الذي يعد بحلولٍ سريعة «حوِّل الحجارة إلى خبز!». ومن أجل إشباع هذه الرغبة، خلقَ الإنسانُ آلهةً تفرِّغ هذه الأحمال من وجودها تمامًا: حيث يكفُّ العالم عن كونه عالمًا حقيقيًّا ليصير ما “ليس هو”، ليصير عالمًا خياليًّا. ويظلّ العالم المتصالِح متناقضًا.

يتجلّى على الصليب أنّ الفداء الإلهيّ يتعامل مع العالم بكونه عالمًا مستقلًّا. وبهذه الطريقة، يُنَجِّي العالمَ من تغييب الله. “الشهوة الرديئة”، “الحلول السهلة” والفوريّة السحريّة تغيّب الله، وهي النتيجة الطبيعيّة لاستغلال العالم وحرّيّته والفهم الخاطئ لله. لكي ينجو العالم من الشعور بغياب، الله عليه أن يتخلّص من الآلهة المزيّفة التي تغتصب مكانه.

إنَّ رفض الإنسان للفداء الإلهيّ يُنكِر حضور الله في العالم. وهو رفضٌ للإنسان المصلوب، موضع حبِّ الله للعالم. بهذا المعنى، نحن بحاجة إلى “تمييز الأرواح”، القدرة على التمييز بين الأرواح التي تَعِد بإلغاء التناقض، وروح الله الذي يضمن هذا التناقض داخل العالم.

نظرة الشيطان للمسيح على الصليب، نظرة تشفٍّ ونظرة تحدٍّ وُضعت على لسان أحد اللصّين: «إن كنتَ ابن الله خلّص نفسكَ وخلِّصنا». “هيا قم بحلٍّ سريعٍ” لا يحترم تناقضات العالم. يقضي على إنسانيّة المسيح ويقدِّم حلولًا سحريّة فوريّة. نظرة تشفٍّ تستفزّ المصلوب وكلّ المصلوبين “أين أبوك”؟ في الوقت الذي يبدو فيه الشيطان يحتضن أبنائه يظهر وكأنّ الآب السماويّ أهمل ابنَه.

هل ترك اللهُ المسيحَ؟

من أفضل اللاهوتيّين الذين تناولوا هذا الموضوع هو اللاهوتيّ البلجيكيّ إدوارد سخلبيكس في كتابه “المسيح سر الالتقاء بالله”. ألخّص هنا أهمّ أفكاره:

المسيح أصبح حقًّا إنسانًا، والكلمة صار جسدًا Sarx، كما قال القدّيس يوحنّا، أي أنّه أصبح إنسانًا ليس بمعنى “بشرًا” فحسب، بل إنسانًا في الحالة الوجوديّة لأبناء . وإذ صار إنسانًا، دخلَ اللهُ الابنُ في البشريّة التي جعلت تاريخها موسومًا بالإدانة ومتَّسمًا بالعصيان والتغرّب عن الله: الموت.

هكذا عبّر إن الله جعل المسيح خطيئة ومع أنّ المسيح شخصيًا هو الوحيد الذي بلا خطيئة، إلّا أنّ يسوع الذي عاش بالجسّد على الأرض عاش في وُضع تغرّب عن الله، وليس ذلك لسبب يرجع إليه شخصيًّا، بل بالأحرى، لأنه ممثِّلنا فقد أخذ هو شخصيًا مكان البشريّة الخاطئة أمام الآب. وهذا ليس مجرّد أنّه كان “يتصرّف كما لو…”.

ومع أنّه ليس بوسعنا أن نسبر أعماق هذه الحقيقة الخلاصيّة بفكرنا البشريّ، إلّا أنّ المسيح لابدّ أنّه عاش خبرةً رائعة ومخيفة وصلت إلى ذروتها في بستان الزيتون وعلى الصليب. وفي جوهر وجوده الشخصيّ البشريّ، كان يسوع حقًا ذاك الذي حمل ثقل خطايانا. فنحن جميعًا أخطأنا وأعوزنا مجد الله، ممّا يعني أنّه ليس فينا روح الله. وهكذا، كان مجد الله مطلوبًا في بشريّة يسوع وهو بالجسد هنا على الأرض. وعلى ذلك، فإنّه قبْل موته بقليل استطاع أن يصلّي إلى الآب بإصرار وإلحاح: أيها الآبمجّد ابنك بمعنى “أعطِ مجدك لهذا الإنسان يسوع”.

في حياة يسوع الأرضيّة، بصفته المسيح أو ممثّل البشريّة الخاطئة، جاء حقًّا من عند الآب. وكان هذا حقًّا في الواقع، حتّى إنّه كان يستطيع أن يصلّي معنا قائلًا من الأعماق صرختُ إليك يا ربّ. ليس بمعنى محلّيّ بل بمعنى نوعيّ: “في أعماق حالة بؤس البشريّة الساقطة، صرختُ إليك يا إلهيّ”. وقد تردّد صدى هذه الصرخة قبل أي شيء آخر من على الصليب.

إنّها ثورة إنسان، على الرغم من معرفته لنفسه أنه شخصيًا مرتبط بالآب بمحبة من أعماق قلبه البشريّ، إلا أنه على الرغم من ذلك، كان يعيش بالفعل وبشكل تام وحتىّ النهاية، خبرة التغرب عن الله المرتبطة ببشريتنا الخاطئة، حيث اعتبر نفسه من بين كل ما كان، سواء كان أو سيكون ناتجًا عن الخطيئة التي تولّد التغرب عن الله في هذا العالم. وكان عليه أن يمر بحالة العجز التي تولدت نتيجة الاغتراب عن الله هذا، حتىّ يمكن بعد ذلك أن يتلقّى المجد الذي سيعطيه له الآب. وإذ أخلى يسوع ذاته من نفسه، كرس ذاته للآب الذي فيه يجد يسوع رفعته ومجده. وخلف هذا كله يكمن سر لا يُسبر غوره.

القيامة

استجابة الآب لصلاة الابن وتقدمةِ ذاته عن حياة العالم تتجلى في القيامة. ليست استجابة الآب كتجربة الشيطان التي تبحث وتغوي بحلٍّ سحريّ. وقبول الآب لذبيحة المسيح تمثّل في قيامة المسيح. القيامة هي ذبيحة” الصليب” التي سمعها الآب واستجاب لها، وكان هذا على وجه الدقة كذبيحة مسيحانية؛ كذبيحة البشرية بأسرها.

في هذا القبول فقط أصبح “الفداء الفعليّ “حقيقة؛ لأنه عند ذلك فحسب افتُدينا نحن جميعًا بالفعل في المبدأ، أي المسيح “رأسنا”. لقد رفع الآب المسيح إلى المجد نتيجة لذبيحته «اجلس عن يميني»؛ وهذا هو تنصيب المسيح بواسطة الآب الذي جعله ربًّا Kyrios وتكون الرياسة على كتفه. نتيجة قبول الآب لحياة يسوع كلّها التي عاشها كتعبير عن عبادته لله.

اندمجت دائرة المحبّة المتبادلة بين الآب والابن بشكل كامل في إطار بشريّة المسيح. في هذا الإطار وحده وصل يسوع إلى إتمامها. وهكذا، فبفضل محبة يسوع الذبائحيّة للآب، فإنّ الآب، عن طريق القيامة، أوجد “خليقة جديدة” في sarx جسد المسيح: بشريّة ممجّدة.

في هذا فقط أصبح خلاص البشريّة حقيقة واقعة.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جون جابريل
راهب في معهد الدراسات الشرقية للآباء الدومنيكان  [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب نقدي: ، هل من روحانية سياسية؟
تعريب كتاب جوستافو جوتييرث: ، التاريخ والسياسة والخلاص
تعريب كتاب ألبرت نوﻻن الدومنيكاني: يسوع قبل المسيحية
تعريب أدبي لمجموعة أشعار إرنستو كاردينال: مزامير سياسية
تعريب كتاب ال: ومواهب الروح القدس