بعد الانشقاق الخلقيدوني، لم يأمر ق. ديسقوروس السكندري (444-454) بإعادة معمودية أي شخص أو إعادة دهنه بالميرون للعودة للكنيسة على عكس ما يظنه البعض أن بمجرد الانشقاق صار كهنوت الكنيسة الأخرى محروم وبلا نعمة سرائرية. لو كان هذا هو الوضع السائد، لأمر ق. ديسقوروس بإعادة معموديتهم أو دهنهم بالميرون خصوصًا إن عادت أسرة ولد فيها أطفال وعمدوا على يد الاكليروس الخلقيدوني. إلا أن ق. ديسقوروس لم يعط قرارات في هذا الشأن وجاء ق. تيموثاوس بعده ليعطي قراراته.
ق. تيموثاوس الثاني السكندري (454-477) أمر بألا يثقل على العائدين من المذهب الخلقيدوني فيقول:
“إن جاء شخص علماني بسيط مؤمنًا بالإيمان المقدس بالثالوث المساوي ويشتاق للشركة معكم أنتُم المعترفين بوحدانية الرب جسديًا معنا في الجوهر—أرجوكم ألا تثقلوا هؤلاء بأي كلمات أكثر من هذا على الإطلاق ولا تطلبوا منهم تدقيق لفظي أكثر من هذا بل اتركوا هؤلاء ليسبحوا الله ويباركوا الرب في بساطة وبراءة قلوبهم”.
ويعلق الأب بيتر فارينجتون قائلًا ان بعض المؤمنين الأخرين طلب منهم فقط حرم النساطرة والأوطاخيين بهدف إعادة المسيحيين المنشقين للشركة بأسهل طريقة ممكنة. أما الإكليروس فأقر بأن يحرموا مجمع خلقيدونية وطومس لاون كتابةً أمام كل الأرثوذكس المجتمعين.
وفي الشق اللاخلقيدوني من أنطاكية والمناطق المحيطة، جاء ق. فلكسينوس المنبجي (440-523) في رسالته التي كتبها في موضوع السياسة البيعية إلى شمعون رئيس تلعدا من فيليبوبوليس خلال منفاه الثاني ليؤكد على عدم إعادة المعمودية أو إعادة السيامة في درجات الكهنوت فيقول:
“بعدما استولى الآريوسيون والمقدونيون على الكنائس، لا زمانًا يسيرًا بل أكثر من أربعين سنة، طردهم منها الملك المسيحي الطوباوي ثاودوسيوس، وجاء من بعدهم الأرثوذكسيون، ولم يُذكر أنهم أعادوا وضع يد الكهنوت الذي قام به الهراطقة ولا المعمودية. ولم يعارض أحدٌ من أبناء البيعة، ولم يخاصم الواحد الآخر زاعمًا إنه لا يجب اعتبار الذين نالوا وضع يد منهم كهنة، أو إن الذين اعتمدوا منهم ليسوا بمعمدين. بل اكتفى الأساقفة الأرثوذكسيون بأن جاءهم الذين كانوا آريوسيين ومقدونيين، واشتركوا معهم وصاروا معهم ومثلهم، كنيسة واحدة وفكرًا واحدًا. ولم ينتقوا منهم ذوي الفكر الدقيق لأن ذلك كان مستحيلًا، ولأنهم ارتأوا أيضًا أنهم إذا تعاملوا بالدقة في غير وقتها، وزعزعوا بذلك الإيمان، فإنهم يغيظون الله جدًا. ولئلا تضطرب الكنيسة ويُساء إلى الإيمان، بمطالبتهم بالدقة، ضربوا الصفح عن ذلك.
وقد بينّا جزئيًا في هذه الرسالة – وببراهين كثيرة في الرسالة الطويلة التي حبرناها – أن الأساقفة الأرثوذكسيين بعد أن جاءوا وتسلموا زمام الأمور في الكنائس بهمة الملك ثاودوسيوس، قبلوا وضع اليد ومعمودية الذين كانوا آريوسيين ومقدونيين. وفي شأن ملاطيوس المغبوط، لم نختلق شيئًا من عندنا بل أثبتنا من الروايات البيعية التي اطّلعنا عليها أنه ولئن كان سابقًا آريوسيًا ونال وضع اليد منهم، إلا أنه توصل بعد الندامة إلى الاعتراف والتكلم بالاستقامة في كنيسة أنطاكية، فألقي بسبب ذلك في المنفى، وكان الرئيس والمتقدم في المجمع المقدس الذي ضم مئة وخمسين أسقفًا. وهو نفسه (أي ملاطيوس الذي بينّا أن وضع اليد عليه كان من الآريوسيين)، رسم القديس باسيليوس الكبير شماسًا. فالرواية البيعية تخبر أنه هو الذي منحه وضع يد الشماسية. فهل يستطيع أحد أن يرفض كهنوت الطوباوي ملاطيوس بذريعة أنه كان آريوسيًا، أو وضع يد الشماسية على القديس باسيليوس الذي ناله (وضع اليد) منه (ملاطيوس)؟”
سُئل ق. ساويرس الأنطاكي (512-538) بخصوص إعادة معمودية الخلقيدونيين وإعادة دهنهم بالميرون وجاءت إجابته واسعة وشملت موضوع مجمع قرطاجنة وديونيسيوس وغيرها من المواضيع الخاصة بإعادة المعمودية، فتقر بالين ألين:
“كرس ساويرس الكثير من وقته وطاقته للتأكد من أن المسئولين منه اتبعوا طريقة صحيحة تجاه الخلقيدونيين، خصوصًا الإكليروس الخلقيدوني ممن أرادوا أن يرجعوا للشركة مع اللاخلقيدونيين… مثل تيموثاوس ألوريوس وبطرس الإيبيري وفلكسينوس، رأى ساويرس أن من يحرم خلقيدونية لا ينبغي أن يخضع لمهانة إعادة الدهن بالميرون أو إعادة المعمودية ولكن بالحري يكتب اعتراف ايمان ويقدم توبة”.
يرى العالم يوناتان موس، أن ساويرس بنى رأيه في عدم إعادة المعمودية على إيمانه بقابلية جسد المسيح للألم والأوجاع البريئة، فيرى ق. ساويرس أن الكنيسة كامتداد لجسد المسيح يمكن لها أن تحتمل قدر بسيط من الفساد وبالتالي يمكن إعادة الشركة مع الخلقيدونيين دون أعادة أي سر لأجل وحدة الكنيسة وكان هذا على الرغم من رؤيته لخلقيدونية كمجمع شبه نسطوري وشجبه الدائم للمجمع.
يقول ق. ساويرس في أحد رسائله:
“لهذا فكما أن كبريانوس في أفريقيا والمجمع الذي انعقد تحت سلطته أقر بأن المُعمدين في هرطقةٍ ينبغي أن يتقبلوا مياة التجديد مرة أخرى كما لو لم يُعمدوا من قبل، ولكن في النهاية صار رأي سكستوس الروماني ورأي ديونيسيوس السكندري هو الرأي السائد بأن المعمدين في اسم الثلاثة أقانيم… ينبغي ألا يعمدوا مرة أخرى، ولا يوجد شخص على قدر من الذكاء سيقول بأن الأساقفة القديسين ناقدوا أنفسهم بل أنهم بعد إعادة الرؤية رأوا طريقة أفضل وأكثر قانونيةً”
بالتالي نجد أن ق. ساويرس، يرى أن طريقة ق. كبريانوس اختلفت عن تلك الخاصة بالقديس ديونيسيوس وسكتوس، فرأى سكتوس بعدم إعادة المعمودية أما ق. ديونيسيوس فكان يُعيد المعمودية إلا أنه كان في طريق وسطى بين النقيضين فعلى الرغم من إعادته للمعمودية إلا أنه رأى أن يُترك الأمر لإفراز كل أسقف كما سبق وقلنا في فصل ما قبل نيقية ويبدو أنه—بحسب ق. ساويرس—قبل المعتمدين على اسم الثالوث من الهراطقة. لهذا صار الرأي السائد هو إما عدم إعادة المعمودية حسب سكتوس أو ترك الأمر للأسقف المحلي حسب ق. ديونيسيوس.
ويبين ق. ساويرس أن قبله استخدمت الكنيسة طرق مختلفة للتعامل مع هرطقات مختلفة فميزت الكنيسة في مجمع نيقية ولاودكية بين أتباع بولس الساموساطي والنوفاتيين. معتمدًا على اقتباس للقديس ثيؤفيلس السكندري (384-412) في وصفه للقديس أمبروسيوس (374-397) والأساقفة آنذاك، يقول ق. ساويرس:
“فإنهم رأوا الأشياء التي صعب شفاؤها، ولم تسبب اضطرابًا في جسد الكنيسة ككل… وقبلوا كثيرين من الشرق ممن لم يساموا على يد الأرثوذكسيين، لئلا إن ظلوا بالخارج، تمتد جذور الأريوسية ويهلك القطيع ويصير الجزء الأكبر من جسد الكنيسة ضائعًا بين الأمم. بهذه الطريقة تعاملوا مع من كانوا في فينيقية وفلسطين وغيرهم الكثيرين، مقللين من شدة القوانين الخاصة بالسيامة كما هو واجب لأجل خلاص الأمم”.
ثم ينتقل ق. ساويرس لأمور أقرب في تاريخها لوضعه وهو عودة الشركة بين اسكندرية وأنطاكية عام 433م فيقول في رسالة كتبها خلال أسقفيته:
“وحين حرموا [أي الإنطاكيين] هرطقة نسطور؛ لم يقدم أي شخص أي قانون يقر بأن العائدين من هذا الضلال لنور الأرثوذكسية ينبغي أن يكملوا بالمعمودية أو بالميرون ولا يظهر أن أي شخص قد تم رشمه بالميرون في ذلك الوقت: هذا على الرغم من استمرارية الانشقاق لمدة طويلة وكان أساقفة الشرق يعضدوا نسطور وقطعوا ذواتهم من المجمع المسكوني (أي أفسس) ثم بعد ذلك عادوا وشاركوهم مرة أخرى… فكما أنه تبين للأباء في الأيام القديمة أنه لا بد من تكميل العائدين من الهرطقة بالمعمودية، كذلك فيما بعد بدأ التمييز في هذا الموضوع بتقديم التفريق بين من ينبغي أن تُعاد معموديتهم أو أن يُعاد دهنهم بالميرون، وبخصوص الهرطقة النسطورية فالآباء بعد فحص الهرطقة قرروا أن يتم حرم هذا التعليم بواسطة التائبين. بولس الساموساطي وفوتينوس أخطأوا ضد الذات الإلهية وطبيعة لاهوت الله الكلمة وقالوا إن الرب المولود من مريم هو إنسان عادي بينما نسطور قال أن الكلمة كان منذ الأزل إلا أنه قسم سر التدبير إلى اثنين قائلًا أنه لم يكن (أي الاتحاد) طبيعيًا بل تواصل أخوي بين الله الكلمة الذي اتحد بالجسد ذو النفس البشرية العاقلة. لذلك فنحن نسير على النتيجة التي توصل لها الآباء والشفاء الذي قدموه بخصوص العائدين من الهرطقة النسطورية ونتمسك بهذا كقانون لا يتزعزع ولسنا في احتياج للعودة للنتائج التي توصل إليها الذين كانوا في الأيام القديمة بخصوص الهراطقة ولكننا نقر بأن كل نتيجة لها صلاحيتها بالنسبة لمن تُقدّم لهم “.
في الرسالة ال34 للأرشمندريت والكاهن أليشع، يقول ق. ساويرس الاتي:
“ليخضع هؤلاء لفترة توبة كما علمنا تيموثاوس ذو السيرة المقدسة، رئيس أساقفة الإسكندرية، الذي أرسى ذلك في التعامل مع من تحولوا من الهرطقة الديوفيزيتية… لهذا فحين قال شخص يدعى ثيؤدوتس، أحد أساقفة فلسطين، وبدأ يدهن بعض الأشخاص فلم يُعترف به وتم حرمه بواسطة تيموثاوس رئيس أساقفة السكندريين هو وكل من شاركوا أرائه”
يدعو ق. ساويرس ثيؤدوتس وأتباعه بأصحاب دين إعادة المسحة المعينين لذواتهم (أي من لم يعترف أحد بما فعلوا بل هم عينوا ذواتهم لهذا الفعل).
وتنطبق نفس القرارات على من كانوا لاخلقيدونيين ثم تحولوا للمذهب الخلقيدوني ثم عادوا مرة أخرى للمذهب اللاخلقيدوني، فيقول:
“وحيث أن البعض، كما علمت، قاموا بإعادة سيامتهم، فمجرد السماع بهذا هو أمر شنيع”.
عاصر ق. ساويرس الأنطاكي ق. يعقوب البرادعي (~543-578) وانعقد في عهده مجمع وتقرر عنه:
(1) أن السيامة التي تمت بواسطة الكيان الخلقيدوني يمكن تعقبها لما قبل انعقاد المجمع وخطأهم لا يلغي صحة وشرعية كهنوتهم وبالتالي لا يلغي صحة الكهنوت الذي يعطوه،
(2) السيامة عطية رسولية فنقبلها ونشفي بها أولئك الذين وقعوا في الخطأ
(3) من سيم من الجانب الخلقيدوني وأراد الانضمام للكيان اللاخلقيدوني يحتاج للشفاء وفترة توبة قد تمتد لسنتين بعدها يعود للخدمة بدون إعادة السيامة. وفي هذا دليل على استمرارية رؤية الكيان اللاخلقيدوني لشرعية وفاعلية الكهنوت الخلقيدوني على الرغم من الانشقاق واختلاف الإيمان (كما رأوا آنذاك). مع ذلك قال الشق اللاخلقيدوني بألا يقبل اللاخلقيدونيين المعمودية وأعمال الكهنوت منهم لكن في الوقت نفسه لا يجوز إعادة معموديتهم وتقرر أن العائدين في درجات الكهنوت يُقبلوا بعد توبة وصلاة أسقف لتثبيت الكهنوت لا لإعادة السيامة.
هنا وينبغي أن نوضح أن ق. فلكسينوس كان يبلغ من العمر 15 عام حين انعقد مجمع خلقيدونية وأن كلًا من ق. ساويرس وق. يعقوب البرادعي ولدا بعد انعقاد مجمع خلقيدونية، مما يعني أنه وقت كتابتهم للرسائل السالف ذكرها كان قد تم سيامة عدد من الكهنة والأساقفة على يد اكليروس خلقيدوني وكان قد ولد عدد من الأطفال الذين اعتمدوا وتم دهنهم بزيت المسحة على يد الإكليروس الخلقيدوني إلا أن هذا لم يقف في طريق قبولهم لمعموديتهم ودهنهم بالميرون وعدم إعادة أي من السرين وعدم إعادة سيامة من تم سيامتهم في الدرجات الكهنوتية على يد الخلقيدونيين معتمدين في ذلك على من سبقوهم. ولم نسمع أن أحدهم وقف ورفض تقييمهم للموقف متحججًا بوجود حرومات (أو أناثيما) بين الفريقين.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
كاتب وباحث دكتوراه اللاهوت اﻷرثوذكسي بكلية الثالوث، تورونتو - بكالوريوس الدراسات الدينية، ماكماستر