في يوم الخميس ١٢ فبراير ٢٠١٥، أصدر تنظيم داعش تقريرًا في المجلة الإلكترونية الخاصة «دابق»، ويظهر فيه ٢١ من الأقباط [المسيحيين المصريين] كانوا قد اختطفوا في مدينة سرت الليبية، ويهددهم التنظيم بالقتل انتقامًا من اختطاف النساء المسلمات من قبل المصرية على حد زعم داعش. [1]

بعد ثلاث أيام، وفي يوم الأحد ١٥ فبراير ٢٠١٥، ظهر فيديو دمويّ لقطع رؤوس الرهائن الأقباط على الشاطئ [2]، معنون: رسالة موقعة بالدماء لأمّة الصليب، وحوى منطوقه النص التالي:

الحمد لله القوي المتين، والصلاة والسلام على من بُعث بالسّيف رحمة للعالمين.

إنَّ هذا البحر الذي غيّبتم به جسد الشّيخ أسامة بن لادن، تقبّله الله، اقسمنا بالله لنشوّبنَّه بدمائك… سنفتح روما بإذن الله، وعد نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم، واليوم نحن في جنوب روما في أرض الإسلام، ليبيا، نرسل رسالة أخرى: أيّها الصليبيّون، إنَّ الأمان لكم أماني، لا سيّما أنكم تقاتلونا كافّة، فسنقاتلكم كافّة، حتى تضع الحرب أوزارها.

(تفريغ نصّي لفيديو تنظيم داعش، والذي قيل كرسالة معنونة: رسالة موقعة بالدماء لأمّة الصليب)

في نفس اليوم، الأحد ١٥ فبراير ٢٠١٥، أكّدت الكنيسة القبطية الأرثوذكسيّة مقتل الأقباط، وأدان الأزهر الحادث، وأعلن الرئيس المصري فترة سبع أيام من الحداد الوطني، وعقد اجتماع عاجل مع مجلس الدفاع الوطني، أعلى هيئة أمنيّة في مصر.

خلال ساعات، وفي فجر الإثنين ١٦ فبراير ٢٠١٥، شنت القوات المسلحة المصرية غارات جويّة على مواقع تنظيم داعش في ليبيا. الضربات الجوية استهدفت أهدافًا محددة مسبقًا انتقامًا للعمال المصريين، ونتج عنها قتل ٦٤ من مقاتلي داعش، بينهم ثلاثة من القيادة في المدن الساحلية درنة وسرت. [3] أيدت وسائل الإعلام في كل من الإمارات والبحرين والكويت، بالإضافة إلى روسيا، العمليات العسكرية المصرية في ليبيا، في حين التزم بقيّة العالم بسياسة الصمت الحذر.

بعد يومين، وفي فجر الأربعاء ١٨ فبراير ٢٠١٥، تم إنزال برّي لمجموعات مصرية من قوات التدخل السريع للتعامل مع معسكر أبو كريم الوهداني جنوب درنة، ليبيا، وغضّت وسائل التواصل الاجتماعي بروايات شبه متماثلة عن مقتل أكثر من ١٥٠ من عناصر داعش في المعسكر، وأسر العشرات أحياء من بينهم مصريون وعرب وأجانب حسبما ذكرت مصادر من داخل ليبيا، وفي المقابل، فإن خسائر قوات التدخل السريع، وقوامها ٣٠ من أفراد القوات الخاصة المصرية، لم تتعد شهيدين و ٦ مصابين. [4].

كان هناك خبر تغطية بجريدة أخبار اليوم المصرية، لكن سرعان ما تم حذفه. لم نفهم وقتها لماذا، لكن بعدها، جهرت بعض وكالات الأنباء [العربيّة] بانحيازاتهم الدينيّة إلى جانب تنظيم داعش واضعين النظام المصري في ورطة أمام العالم.

بداية الاعتراض على الردع المصري جاءت من داخل الفصائل الإسلامية المتصارعة على حكم ليبيا، أي من الذراع السياسي لتنظيم داعش نفسه، أو معاونيه من الإسلاميين على أقل تقدير، حيث عُقد في ليبيا “المؤتمر الوطني العام”، والذي بدأ بمقدّمة إنشائية لإدانة ذبح الأقباط، ثم تلاها بما وصفه بـالعدوان المصري على مدينة درنة، معتبرًا أنّه اعتداء على السيادة الليبية.

بجانب ذلك، ذكرت الوكالة الليبية، نقلًا عن تقارير تلفزيونية، أن الضربات الجوية التي شنتها الطائرات المصرية في مدينة درنة، أسفرت عن مقتل ثلاث أطفال وامرأتين، وتدمير عدد من المنازل، لافتةً إلى أن القوات المصرية نفذت ثماني ضربات، شنتها أربع طائرات، ترافقها طائرة خاصة بالتصوير. وأضافت أن الضربات استهدفت في طلعتها الأولى موقعًا لكتيبة شهداء أبو سليم، والجيش الإسلامي، ومقر شركة الجبل، فيما استهدفت الضربات التالية منازل مدنيين في حي شيحة الشرقية، حسبما أوردت الوكالة نقلًا عن قناة النبأ الفضائية. [5]

ومن هنا، بات الوضع مشتعلًا، حيث بدأت الماكينة الإعلامية للدول المؤيدة للحكم الإسلامي المتمثل في نظام الرئيس المعزول ، ومن أبرزها قطر وتركيا وغيرهم بالوكالة، والمناوئة بالتبعيّة لنظام جمهورية يوليو المتمثل في نظام ال. تعاونت تلك الماكينة الإعلامية على إعادة إنتاج المشهد باعتباره تدخلًا عسكريًا في السيادة الليبية لمعاونة خليفة حفتر. وصار الوضع الدولي مضطربًا ومشوشًا بعد أن تم إفقاد مصر أخلاقيّة الدفاع الحمائي عن مواطنيها الأقباط، وإظهار نظامها كنظام عسكري، يقود عمليات عسكرية ضد مدنيين أبرياء بهدف مساندة حلفائه العسكريين في ليبيا.

المشكلة الأعقد في مثل هذه المواقف أنه ﻻ يوجد ما يمكن فعله من داخل مصر. فأي سلوك من أفراد أو مؤسسات مصرية داعم لعمليات القوات المسلّحة المصرية لطالما صدر من داخل مصر فسيتم تأويله بالانحياز القومي الطبيعي والحكومي لجيش البلاد. وحتى الكنيسة القبطية الأرثوذكسية نفسها والتي -اعتباريًا- هي أمّ لشهداء الأقباط في ليبيا، والتي إليها تقدّم كل دول العالم العزاء، تعتبر في مثل هذه المواقف مجروحة الثقة الدولية باعتبارها ذراع ديني للدولة المصرية، وبشكل عام، كلام الأم الكلوم ﻻ يعتد به العالم.

وعلى غير اتفاق أو سابق إعداد، جاء المدد لجيش مصر من جيش الصليبيين التاريخي الذي تخاطبه داعش بالخناجر وتتوعد رأسه بالذبح وأرضه بالفتح.. جاء من كنيسة روما المجهدة، ال، مكتوبًا بالغة الألمانيّة ليتصدر المشهد بغلاف تاريخي في عدد يونيو ٢٠١٥:

واحد منا، طُعِن لأجل المسيح 1

واحد منا Einer von uns
ذُبح لأجل المسيح Geopfert für Christus

ﻻ أريد إفساد روعة المشهد الإنساني النبيل بتحليلاتِ سياسية، لكن أوّل من ضم الشهداء المصريين إلى الصليبيين كافّة، وأوّل من توعّد روما بالفتح، كان تنظيم الدولة الإسلامية في بيانه الذي قسم به العالم إلى شطرين: فسطاط الإيمان ورمزه أسامة بن لادن [حركة طالبان]، وفسطاط الكفر بقيادة العالم الأوربي ومركزه إمبراطوريّة روما القديمة. وربّما يكون هذا بالتحديد السبب الذي أدّى لتأخر تدخل الفاتيكان بهذه الكيفيّة إلى شهر يونيو بينما الأحداث بدأت في النصف الأخير من فبراير. إذ أنّ أيّ تدخّل من قيادات دينيّة مسيحيّة كبرى قد يزيد من حالة الاستقطاب ويزيد من الخصوم للنظام المصري الذي لديه من الخصومة مع الإسلاميين ما يكفيه. لكن الفاتيكان شئنًا أم أبينًا هي دولة. لها مبعوثين وسفراء في خمس قارات من بينهم مصر، وليبيا، ومنهم أيضًا ألمانيا، أهم داعم أوربي لنظام ، وإلا فلماذا بربّك يصدر العدد من هذه الدولة وهذه اللغة؟ لماذا يقول المانشيت “واحد منا” وهم عدديًا واحد وعشرين شهيدًا؟ لا يتصّور أحد بالتأكيد أنّ صفحة الغلاف لا تتسع إلا لرأس مقطوع واحد!

وثيقة المتعلقاتعلى كل الأحوال، التوازنات السياسية لا تفسد المشهد الإنساني بل تعضّده، وتجعل لكل شيء تحت السماء وقت يتجلّى فيه. فالمشهد الإنساني الذي أيقظه الفاتيكان لم ينته بغلاف يونيو ٢٠١٥، ففي مايو ٢٠٢٣ أعلن ال، بابا الفاتيكان، اعتراف الرومانية بشهداء الأقباط الـ٢١ في ليبيا، كشهداءً في ، ومدوّنين في سير ال الروماني، مشيرًا إلى أنه سيقوم بعمل مذبح على اسمهم. [6] ومن جانبه، أهدى قداسة ال للبابا فرانسيس صندوقًا يحوى أجزاء من ملابس الشهداء ومتعلقاتهم مع ثلاثة أربطة من التي رُبِطَت أيديهم بها وقت استشهادهم ذبحًا.

لم نر أو نسمع عن رابطة كاثوليكية تنفي نقاوة شهدائنا، أو تتفوه بشعرة عن إيمانهم رغم كونهم عقائديًا ليسوا من الكاثوليك، والأوربيون تحديدًا لو سألتهم عن ديانتهم يجيبونك: “كاثوليكي” وليس “مسيحي كاثوليكي” مثلًا. لم نر أو نسمع عن فرد واحد زايد على إيمانهم ورفع في وجوهنا شعار “لا وحدة قبل وحدة اﻹيمان” التي نسمعها من بعض الأرثوذكس المحليّين في أي موقف تقارب مع الطوائف المسيحية، وأتحدث هنا عن هؤلاء الأصوليين المتعصبين الذين فعليًا يريدون أن يتحوّل الكاثوليك أرثوذكسًا قبل السماح بالصلاة المشتركة! لم نجد كهنتهم وأساقفتهم وكرادلتهم يعلقون على حادث الاعتداء على “مار ماري عمانوئيل” بكلمات أقل ما توصف بأنها عاديّة، أو واجبة، ﻻ إحساس فيها، ثم يتبعها الأصولي بتحذير من تعاليم الكنيسة الآشوريّة [الية] التي ينتمي إليها وإنهم “هراطقة”، وأحيانًا “غير المسيحيين” كما قال الأنبا سوريال، أسقف ملبورن، أو أن الواجب الإنساني المقدم له كما الواجب المقدم “للملحد” كما عقّب ال، أسقف كنائس وسط القاهرة.

وسيجيبونك من أطنان كتب التراث الطقسي المهترئة في عصور ما قبل الانشقاق بأن المقابلة غير واردة، فشهداء الأقباط في ليبيا قد ذبحوا حتى فاضت دمائهم في البحر المتوسط، بينما عمانوئيل فشل طاعنه في قتله وهو حيّ يُرزق وزي القرد، والذبيح ينال “معموديّة الدم” التي لا يختلف عليها أحد. عفوًا، وهل تقيّد الكنيسة القبطيّة الأرثوذكسية في سنكسارها كل شهيد بمعموديّة الدم من غير الأرثوذكس أو ممن تراهم هراطقة أو غير معمّدين بما فيهم الفردين المصريين من القوات الخاصة، والذين استشهدا أيضًا في عمليّة الإنزال البريّ؟ ماذا عن شهداء الروس الأرثوذكس، و، والذين نعترف فعليًا بمعمودياتهم لكن يفصلنا عنهم الخلاف الخلقيدوني الإداري غير العقائدي؟ ثم من الذي يتحدث عن الشهداء وتقييد أسمائهم في السنكسار؟ نحن نتحدث عن موقف مسيحيّ غير مزدوج المعايير! يا سيدي فليبق الاختلاف العقائدي قائمًا لكن لكل حادث حديث! هل يجب أن يموت عمانويل جديد حتى تتكرم سيادتك بالتعاطف غير المهموز الملموز وقتها؟

أشعر أن شهدائنا، يخجلون منا..

هوامش ومصادر:
  1. زينت الجندي، الأهرام أونلاين، Islamic State publishes report on Coptic Egyptian workers kidnapped in Libya [🡁]
  2. الجزيرة، فيديو إعدام المصريين.. الأكثر قسوة ورعبا. [🡁]
  3. وكالة BBC البريطانية، Egypt bombs IS in Libya after beheadings video [🡁]
  4. ستيفانو دي باوليس، موندو الإيطالية، وكالة أنسا Libia: allarme armi chimiche Gheddafi, prese da milizie Isis [🡁]
  5. CNN العربية، الإمارات، مواقف متضاربة في ليبيا حول ذبح 21 قبطياً وقصف الجيش المصري لمواقع “داعش” في درنة. [🡁]
  6. يسام رمضان، جريدة المصري اليوم، بابا الفاتيكان: إدراج الأقباط المصريين ضحايا داعش في ليبيا ضمن «سير القديسين والشهداء». [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

باسم الجنوبي
[ + مقالات ]