كانت عادة أهل أورشليم منذ زمان بعيد أن يستقبلوا الحجاج القادمين لقضاء الأعياد اليهودية بأغصان الآس (نبات عطري)‏ والصفصاف وسعف النخيل [1]، فتقف فرق اللاويين على قمة الطريق الموصل إلى الهيكل تحيي مواكب الحجاج مترنمة بتسابيح الرب لأن هذا هو عملهم الأساسي [2]. أما هذه التسابيح فتدعى في الطقوس اليهودية «مزامير الهلليل» مبتدية من مزمور ‎١١٣‏ حتى المزمور ١١٨. ونظام التسبيح يكاد يشابه نظام كنيستنا الآن المعروف بالمرابعة ‎antiphony، فيبدأ اللاويون من العدد الأول من مزمور ١١٣‏ هكذا:

اللاويونالشعب
سبحوا الله [3]هللويا
سبحوا يا عبيد الربهللويا
سبحوا اسم الربهللويا

وهكذا يستمر التسبيح حتى الآية الأخيرة من مزمور ١١٨: احمدوا الرب فإنه صالح وأن إلى الأبد رحمته [4]، فينضم الفريقان معا ويرددانها بصوت واحد.

ولما كانت للأعياد اليهودية مفهومًا مسيانيًا سيتحقق في الأزمنة الأخيرة، كان الموكب الاحتفالي في عيد المظال ينتهي بدورة الكهنة حول المذبح وهم يرددون الآية ‎٢٥ من مزمور ١١٨ يا رب خلصنا، يا رب سهل لنا النجاح [“طرقنا” في ]، مبارك الآتي باسم الرب [5].

نحن الآن قريبين على فصح سنة ‎٣٣‏م. والذي يرى أورشليم في هذه الأيام من منظور عين الطائر يخيل إليه أنها بحيرة بشرية تصب فيها الدروب والمسالك والطرق من كل نواحي فلسطين، وتموج بالوافدين والمواكب كطوفان بشري يتحرك نحو هذه البؤرة.

والذي يعنينا من هذا العجيج طريق يخرج من بيت عنيا، على مسافة ستة أميال من أورشليم، يمتد إلى جبل الزيتون وينحني فجأة نحو الشمال عبر وادي قدرون ليواجه أسوار الهيكل الضخمة وقبابه المغشاة بالذهب اللامع حيث تتركز أمجاد إسرائيل الأمة المختارة من قبل الله منذ أجيال طويلة، وهنا تتجمع كل آمال وتطلعات الشعب العابد التقي.

لكن فصح هذا العام يختلف عن كل عام، فالأنباء التي تواترت مع الحجاج القادمين من الجليل أن يسوع آت إلى أورشليم، وأنه أمضى مساء السبت في بيت عنيا بعدما أقام ميتًا أنتن في القبر أربعة أيام. والمواكب تتفرق إلى جماعات‏ صغيرة تتحاور فيما بينها بشأن‏ هذا النبيّ، ونبأ‏ إقامة أليعازر ينتشر بين الجموع كلهيب يشعل القلوب التي طال انتظارها: هل هو النبيّ الآتي باسم الرب؟!.. هل هو المسيّا الآتي ليملك على كرسي داود؟!.. هل هو المخلص الآتي من الأعالي؟!.. [6]

أسئلة حائرة، وعواطف ملتهبة، وشعب يترجى‏ خلاصًا غرسه الأنبياء في وجدانه.

‏المسيح يعلن مملكته:

يسوع، منذ الصباح الباكر، أرسل اثنين من تلاميذه ليحضرا له الأتان وجحش ابن أتان. ولأن مرقس أكثر الإنجيليين إفاضة في ذكر تفاصيل هذه الواقعة، لذلك يرجح أن بطرس كان أحدهما، وبالتالي رفيقه. وأعد التلميذان الأتان لركوب المعلم بأن فرشا عليها ثيابهما وساعداه على امتطائها. وتحرك موكب غاية في العجب والبساطة، موكب نصرة لم يُسمع مثله من قبل. جماعة التلاميذ تتقدم بالأغصان، جموع من المساكين والخطاة الجليليين يهللون، تسابيح من أطفال صغار لا زالت ألسنتهم تتلعثم، الجميع يلوحون ويهتفون ويترنمون. وأثناء تحرك الموكب تنضم إليه جماعات قلوبها حارة بالروح، ترى في الراكب على الأتان ملكًا وديعًا، وروح النبوة يشير بإصبع واضح أن هذا هو الملك الذي قال عنه زكريا [7] :

ابتهجي جدًا يا ابنة صهيون، اهتفي يا بنت‏ أورشليم، هوذا ملكك يأتي إليك، هو عادل ومنصور، وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان يتكلم بالسلام للأمم وسلطانه من البحر إلى البحر ومن النهر إلى أقاصي الأرض.

(زكريا ۹ : ۹-۱۰)

وكلما اقترب الموكب من الهيكل ازدادت الجموع وارتفع الهتاف، وتحول إل مسيرة شعبية ضخمة يحركها روح الله ويعزف على حناجرها بأوتار الترنم نشيدًا تهتز له السموات: [8]

العبريّةالعربيّة
« أدوناي هو شيعا – نّا »« يا رب خلّصنا »
« أدوناي هصليحا – نّا »« يا رب سهّل نجاحنا »‏
‏« باروخ هبَّا بِشِم أدوناي »« مبارك الآتي باسم الربّ »

إنها لحظة تقابلت فيها الإرادة الإلهية لتحقيق الخلاص مع وعى الأتقياء وتوسلهم الدائم إلى الله لمجيء المخلص، فمن ذا الذي يستطيع أن يواجه هذا الموقف!! وعبثًا يحاول الفريسيّون أن ينتهروا الجموع، وباطلًا سعوا لإسكاتهم، لأنّه إن سكت هؤلاء فالحجارة تنطق [9].

الآن تحقق خطاب الملاك للعذراء يوم بشرها ب وكيف سيعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب، إلى الأبد، ولا يكون لملكه نهاية. [10].‏ وبقيت هذه الكلمات غير محققة حتى أتت الساعة -الآن- التي استعلن فيها يسوع مُلكه من فوق منبر غاية في العجب. الملوك تعلن سلطانها من فوق المركبات والفرسان، ولكن النبوة تتحدث عكس ذلك وأقطع المركبة من افرايم، والفرس من أورشليم [11]. وهكذا يدخل الملك الوديع إلى أورشليم وإلى الهيكل.

معنى كلمة «هوشيعا نّا» «خلّصنا»:

هذا الوزن هو المزيد من الفعل الثلاثي البسيط «يَشَعَ» الذي يقابله في العربية «وَسَعَ» [12]. فالكلمة تتضمن خروج من ضيق إلى سعة كما جاءت في هذه الآية: هو وقت ضيق على يعقوب ولكنه سيخلص منه. [13]. فالشعب حينما يصرخ «هو شيعا نّا» أو «أوصانّا» يعني أنه يحس بالضيق والانحصار ويترجى خروجًا إلى السعة والفرج. وهذا لا يتم إلا بتوسط إلهي، لأنّ هذا الوزن بالذات من الأفعال يستعمل للتدليل على طلب تدخل طرف ثالث يكون هو المتسبب في قضاء الفعل المطلوب، مثلما نقول أنّ فلان حضر، وأن شخصًا ثانيًا استحضر فلان هذا. وهو ما يسمى في فقه اللغة «السببية»، فالشعب لا يطلب هنا خلاصًا فقط، بل خلاصًا مضاعفًا يعيّر به عن عمق الضيق والمعاناة التي يعيشها.

ليس هذا فقط، بل الصيغة الرجائية التي جاء بها هتاف الشعب تحمل أيضًا دلالة أخرى تزيد عمق إدراكنا بمعاني هذه الكلمة، فنحن نعلم من اجرومية اللغة العبرية أن الصيغة الإخبارية تعني مجرد الخبر والإعلام فقط، بينا الصيغة الرجائية التي جاءت بها كلمة «هو شيعا نّا» تؤكد النية والتصميم المتضمن في العمل ذاته والاهتمام الشخصي بتتميمه. لذلك فهتاف الشعب بهذه الكلمة «هو شيعا نّا» يعني إلحاحًا ولجاجة في مخاطبة الله وتوسلًا بإصرار وحرارة أن يتمم هذا الخلاص. لذلك نستطيع أن نترجم هذه الكلمة مشروحة هكذا: نرجوك ونتوسل إليك بلجاجة أنّ تخلصنا. [14]

بذلك نستطيع أن نقيس عمق المأساة الق يعيشها الإنسان بسبب خطيته، ومدى السعة التي يقود بها المسيّا شعبة خارجًا من الضيق إلى الفرج، والانفعال الروحي الذي دفع هذه الجموع لتهتف وتنشد وتفرح.

«نظر إلى المدينة وبكى عليها»:

وبينما الموكب الحافل يقترب من المدينة، يتجاوز يسوع كل مجد الملوكيّة وينظر إلى المدينة، التي دعيت مدينة السلام، ويراها تحولت إلى حطام. الشعب الذي أختاره الرب وميّزه عن كل الشعوب، أستأمنه على أسراره وشرائعه حتى قال عنه النبيّ قديمًا: كما تلتصق المنطقة بحقويّ الرجل هكذا ألصقتُ بنفسي كل بيت إسرائيل وكل بيت يهوذا، يقول الرب؛ ليكونوا لي شعبًا، واسمًا، وفخرًا، ومجدًا. [15]. هذا‏ الشعب طوّح مجدة وداس إكليل فخره: انتبهوا جدًا وانظروا هل صار مثل هذا؟ هل بدّلت أمّة آلهة وهي ليست آلهة؟ أما شعبي فقد بدّل مجده بما لا ينفع. [16].‏ فنظر يسوع بعين نبويّة سبيَّ هذا الشعب الذي ألصقه الله بنفسه حتى يكون له اسمًا ومجدًا، ولكن هذه المرة سبيٌّ لا عودة منه ولا رجاء فيه. فبكى على الأمّة التي لم تعرف زمان افتقادها.

هذا هو يسوع، الذي قلبه كلّه رحمة وحلاوة، ماذا يفعل أمام القساوة وغلظة القلب؟!
لننتبه، لأنّ دموع يسوع أكثر تبكيتًا وإيلامًا للنفس من كل التأديبات والعقوبات التي يستحقها الخاطئ.

زمان الافتقاد:

أول من أعلن هذا الافتقاد في العهد الجديد هو زكريا الكاهن في تسبحته المعروفة: مبارك الرب الذي افتقد وصنع فداء لشعبه بأحشاء رحمة إلهنا التي بها افتقدنا المشرق من العلاء. [17].‏

والكلمة في مفهومها العبري أو اليوناني لا تزيد عن زيارة -مجرد زيارة- يقوم بها شخص عظيم كريم تنازلًا لمن هو أدنى بقصد المواساة وتخفيف الحزن لكارثة حدثت. ولكن في مفهومها الإلهي شيء فائق. أول افتقاد إلهي للإنسان حدث وقت صراخ شعب الله ضد عبودية المصريين: فسمع الله أنينهم، وتذكّر ميثاقه ونزل لينقذهم فلما سمعوا أنّ الربّ افتقد بني إسرائيل ونظر مذلتهم ونزل لينقذهم خروا وسجدوا. [18]. فحينما يفتقد الله إنسانًا يعني أنّه يسمع الأنين،‏ يذكر الميثاق، ينظر المذلّة، ينزل وينقذ ويخلص. وبعدما أقام يسوع ابن أرملة نايين أخذ الجميع خوف ومجد الله قائلين قد قام فينا نبيّ عظيم وافتقد الله شعبه. [19].

إسرائيل لم يعرف زمان افتقاده لأنة ليس شعبًا علمانيًا بل أمّة مقدسة ومملكة كهنة وشعب مقدس للرب [20]،‏ وتاريخ هذا الشعب يبيّن أن كل ما جرى عليه يعلن أن إسرائيل لله والله لإسرائيل: هو فخرك وهو إلهك الذي صنع معك تلك العظائم والمخاوف التي أبصرتها عيناك. ‏سبعين نفسا نزل أباؤك إلى مصر، ‏والآن قذ جعلك الرب كنجوم السماء. [21].

‏أما الآن، وقد افتقده الله بابنه يسوع المسيح، فإذا بالكهنة يتآمرون على قتله، ورؤساؤه ‏متمردون لغفاء اللصوص، محبون للرشوة ولا يقضون لليتيم طوفوا في شوارع أورشليم وانظروا ‏واعرفوا وفتشوا في ساحاتها، هل تبدون إنسانًا أو يوجد عامل بالعدل طالب الحق فأصفح عنها؟ [22].

نحن يا أحباء نعيش زمان الافتقاد هذا، نعيش مُلك المسيّا الوديع المتسلط على القلوب. يا لفرحتنا ويا لتهليلنا حينما نقبله كمخلص آتٍ باسم الرب ليفتح لنا كنوز خيراته السمائية ويفيض علينا من بركاته بما لا تسعه نفوسنا. ويا لشقاوتنا لو عبر علينا هذا الافتقاد ولم نعلم ما هو لسلامنا، هل نحتمل بكاءه علينا؟!

دخول المسيح أورشليم بقلم الأب ، نُشر أوّل ما نُشر في ، عدد أبريل ١٩٧٩، الصفحات من ٢١ إلى ٢٥.
هوامش ومصادر:
  1. The Life and Times of Jesus the Messiah, by Edersheim, Alfred [🡁]
  2. واللاويون بآلات غناء الرب التي عملها داود لأجل حمد الرب (أخبار الأيام الثاني 7 : 6). [🡁]
  3. في الأصل العبري كلمة هللويا هي «سبحوا الله». [🡁]
  4. احمدوا الرب فإنه صالح وأن إلى الأبد رحمته (مزمور ١١٨). [🡁]
  5. يستطيع القارئ الآن أن يفهم دورة الكاهن بالحمل في بداية القداس الإلهي بينما الشعب يرتل خارجًا نفس هذه الآيات. [🡁]
  6. The Life of Christ, by Frederic W. Farrar [🡁]
  7. زكريا ۹ : ۹-۱۰. [🡁]
  8. The Interpreter's Dictionary of the Bible [🡁]
  9. لوقا ١٩ :  ٤٠ [🡁]
  10. لوقا ١ : ٣٢-٣٣ [🡁]
  11. زكريا ٩ : ‏ ۱۰. [🡁]
  12. Hebrew – English Lexicon, by Edward Robinson [🡁]
  13. إرميا ٣۰ : ٧ [🡁]
  14. Gesenius' Hebrew Grammar, by Wilhelm Gesenius & Benjamin Davies, p320 [🡁]
  15. إرميا ١٣ : ١١ [🡁]
  16. إرميا ٢ : ١۰-١١ [🡁]
  17. لوقا ١ : ٦٨-٧٨ [🡁]
  18. خروج ٢ : ٢٣-٢٥ و ٣ : ٨ و ٤ : ٣١ [🡁]
  19. لوقا ٧ : ‎١٦ [🡁]
  20. تثنية الاشتراع ٧ : ٦-٨ [🡁]
  21. تثنية الاشتراع ١٠ : ٢١-٢٢ [🡁]
  22. إرميا ٥ : ١ [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

متى المسكين
Website  [ + مقالات ]

اطرح عنك ذاتك التي تمنعك من الانطلاق في حرية أولاد الله