المقال رقم 1 من 4 في سلسلة الكتاب المقدس والعلم

كيف يمكن للمسيحي(ة) أن يتعامل\تتعامل مع العلوم؟
هل ينبغي أن يشعر المسيحي(ة) بعدم ارتياح تجاه العلوم؟
هل تعد تهديدًا لإيمانه أو إيمانها؟
أيضًا، هل تتفق فكرة الإيمان الأعمى مع الأرثوذكسية؟ هل كانت الكنيسة الأولى تعيش مسيحية ذات إيمان أعمى؟

أظن أن هناك مساحة لإعادة النظر في التعامل المسيحي مع العلوم المحيطة بنا وأتمنى أن ألقي الضوء على هذا الموضوع…

تمهيد

أن نعتبر أن العلوم بمثابة تهديد، هو أن نعتبر الله نفسه تهديدًا، إذ أنه هو العالم المطلق. الله خلق وأسس العلوم. للأسف، في العقود الأخيرة شنت بعض الطوائف المسيحية غير الأرثوذكسية حربًا على العلوم، أو بشكل أدق شنوا الحرب على بعض جوانب العلوم. وقامت هذه الحرب على أساس سوء فهم، لكن كأرثوذكس، ينبغي ألا نخاف العلوم بل بالحري نتعلم كيف نتعامل معها بطريقة سليمة.

بنعمة الله، سأقوم بمعالجة جوانب سوء الفهم وكيفية التعامل مع العلوم بشكل أوسع في الحلقات القادمة من هذه السلسلة. ولكن بدون شك، ينبغي أن نبتعد عن شيء واحد، خصوصًا في الغرب ألا وهو الإيمان الأعمى. إيماننا المسيحي ليس أعمى. حين قال المسيح ل: “طوبى لمن آمن ولم ير“، عنى بذلك أنه ينبغي أن يكون لنا إيمان. وأن من لهم إيمان سيكونون مباركين. ولكن الإيمان والإيمان الأعمى ليسا نفس الشيء. دون شك، لم يكن ق. توما ذا إيمان أعمى حيث إنه قضى ثلاثة أعوام مع المسيح شاهدًا لمعجزاته، بل صانعًا للمعجزات، وسامعًا للمسيح محدثًا إياهم عن صليبه وقيامته.

يقول ق. الإيمان هو الثقة بما يرجى والإيقان بأمور لا ترى“. والرجاء فيما يرى لا يعد رجاء. أو بشكل أخر، يمكننا أن نقول إنه لا يمكننا أن نمتلك إيمانًا أو رجاءً فيما نراه. لذا فالإيمان والرجاء يشيرا إلى ما لا يمكننا أن ننظره. ولكن لأننا مولودين على صورة الله، فقد أعطانا العقل لنفكر. إذًا الإيمان يستخدم العقل في رجاءه فيما يخص الروحيات والأشياء التي لا ترى. أما الإيمان الأعمى، فهذا يلغي العقل الذي أعطاك الله إياه. الإيمان الأعمى يعني أن تؤمن بشيء على الرغم من أنه يبدو بلا معنى، أو الإيمان من أجل الإيمان دون الجهد الكافي لخبرتنا وبحثنا عن الله.

الإيمان الأعمى بشكل ما يلغي بحثنا عن الحقيقة، أي البحث عن الله ذاته. بطريقة أخرى، الإيمان الأعمى بالإلحاد سيصل بك إلى الإلحاد والإلحاد فقط. الإيمان الأعمى بدين ما سيجعل الشخص باقيًا على هذا الدين بصرف النظر عن صحته. كسفراء الحقيقة الكامنة في المسيح، نحن، كأرثوذكس، ينبغي أن نشجع على الإيمان العقلاني لا الإيمان الأعمى. فمن يمتلك الحقيقة لا يخاف شيء.

العلوم والكنيسة الأولى

حين ننظر إلى آباء الكنيسة الأولين وكيف عاشوا المسيحية، يمكننا أن نرى بوضوح أنهم لم يتبنوا الإيمان الأعمى. بل على العكس، كانوا لاهوتيين نظاميين، ولم يخجلوا من احتضان الفلسفة والعلوم، واستطاعوا أن يرتبوا أجزاء الـ”بازل” معًا حين نظروا للفلسفة والعلوم من منظور مسيحي. فعلى سبيل المثال، هل تعرف أن ق. الشهيد الذي ولد وثنيًا في عام 100 م، لم ينزع عنه رداء الفلاسفة بعد عماده. في الحقيقة، رأى أنه صار مستحقًا لارتدائها فقط بعد عماده، حيث إنه توصل إلى الحقيقة في المسيح. الآن، قد صار فيلسوفًا حقيقيًا، محبًا حقيقيًا لحكمة المسيح. في ذلك الوقت، لم يرتد الكهنة زيًا مميزًا إلا أن يوستينوس ارتدى بفخر رداء الفلسفة.

كذلك، ق. ، ولد لأبوين وثنيين عام 150 م تقريبًا وقدر الفلسفة بدرجة شديدة، ولكن مع ذلك عرف حدودها. وحيث كان تلميذًا للقديس بانتينوس، الذي تحول من مدرسة الفلسفة الرواقية إلى المسيحية، فكليمنضس أمن أن الفلسفة تقود الناس إلى :

“وهكذا، قبل مولد الرب، كانت الفلسفة مهمة لليونانيين لأجل البر. والآن أصبحت مساعدة للتقوى؛ حيث إنها كانت نوع من التدريب التمهيدي لمن كانوا سيعتنقون الإيمان بالكرازة… فالله هو أصل كل ما هو صالح… ربما أيضًا أن الفلسفة أُعطيت لليونانيين بشكل مباشر وأولي، حتى يأتي الرب ليدعو اليونانيين. فكان هذا معلمًا للعقل الهيليني كما كان للعبرانيين، ليمهد لهم المسيح. لذا، فالفلسفة كانت إعدادًا، راصفة الطريق لمن سيكملون في المسيح”

(إكليمندس السكندري، ، الكتاب الأوّل، الفصل الخامس)

يمكننا أن نرى بوضوح كيف أنه تعامل بإيجابية شديدة مع الفلسفة من منظور مسيحي. كذلك ق. ، في كتابه “ستة ”، استخدم علوم عصره كوسائل إيضاح لحقيقة وجمال الله وكيف ينبغي على المسيحي أن يعيش. فكان رجلًا بليغًا من الدرجة الأولى وصارت عظاته سببًا لتوبة كثيرين. كذلك، اعتادت المدرسة السكندرية تدريس العديد من المواد إلى جانب اللاهوت المسيحي مثل الفلك والرياضيات والفيزياء والفلسفة. فكل هؤلاء من منظور مسيحي أظهروا الحق الإلهي وساعدوا التلاميذ في مشاركة أيمانهم مع أصدقاءهم.

لم تتجنب الكنيسة الأولى العلوم ولكن فهمتها بمنظور مسيحي. هنا وينبغي أن أكون غاية في الوضوح، أنه في بعض الأحيان تستخدم العلوم بطريقة غير أخلاقية ضد الأخلاقيات الإلهية، كمسيحيين، نحن لا نقبل مثل هذا الاستخدام. فالعلوم، كسائر الأشياء، يمكن أن تستخدم استخدام جيد أو رديء حسب حرية الإرادة البشرية. ينبغي أن نميز بين العلوم التي تستخدم بطريقة شريرة وبين حقيقة أن العلوم في حد ذاتها شيء جيد وأنها ليست شيء شرير.

بناء على ذلك

المسيحية ليست في تضاد مع العلوم بل بالحري مكملين لبعضهما البعض. فكليهما يجيبان الأسئلة الأربعة الأساسية: “من”، و”لماذا”، و”كيف”، و”ماذا”. المسيحية، بتقليدها المقدس بما فيه الكتاب المقدس، يجيب على من هو الله؟ ومن هو الإنسان؟ ولماذا خُلقنا؟ هذه الأسئلة لا يمكن إجابتها عن طريق العلوم.

العلوم تجيب عما هو الكون؟ ما هي مكونات الإنسان؟ كيف صنع العالم؟ لهذا فالعلوم تجيب على ماذا وكيف ولكن لا سلطان لها على سؤالي “من” و”لماذا”. بنفس الطريقة، ليس للمسيحية أن تجيب عن سؤالي “ماذا” و”كيف”.

الكتاب المقدس ليس كتابًا علميًا على الإطلاق. سنتحدث بتوسع أكثر عن بعض التفاصيل الخاصة بالعلوم القليلة التي نراها في الكتاب المقدس. لكن الآن ينبغي أن نفهم أن العلوم الموجودة في الكتاب لا تهدف إلا لإجابة سؤالي “من” و”لماذا”. فلا يحاول الكتاب المقدس أن يجد إجابات للأسئلة العلمية،

لكن هناك فرق واضح وهام بين العلوم والمسيحية. المسيحية إعلان من الله. الله يعلن من هو، ومن نحن كبشر، ولماذا خُلقنا. وحيث أن هذا الإعلان من الله الكلي القوة والمعرفة وغير الزمني، فهو إعلان غير متغير بل بالحري ثابت. أما المعرفة العلمية فهي متطورة وتُكتشف بواسطة البشر. لذا فالعلوم تتطور كلما وجد الإنسان طرق جديدة لفهم العالم المحيط بنا. إذن العلوم تتغير بينما إعلان الله لا يتغير. بالتالي، فمسيحيي كل العصور يضطروا لمواجهة الاكتشافات العلمية ولابد من أن تبدأ نقاشات لاهوتية لبحث هذه الاكتشافات الجديدة. فبعض الاكتشافات لها أساس وبعضها لا أساس له. بعض الاكتشافات تقودنا لاكتشافات علمية حديثة أخلاقية، بينما البعض الأخر يقودنا لاكتشافات غير أخلاقية.

كمسيحيي القرن الواحد والعشرين، ينبغي أن نكون جزء من هذه النقاشات. فالإجابة لا تكمن في تجنب العلوم. الإجابة الحقيقة تكمن في تبني آلية آباء الكنيسة والتعامل مع العلوم في نور المسيح.

هذه المقالة ترجمة لحلقة من سلسلة عن الكتاب المقدس والعلم من تحضير وإلقاء كاهن قبطي أرثوذكسي بشمال أمريكا طلب عدم ذكر اسمه إلا أنه سمح بنشر هذه الترجمات بمعرفتي

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: الكتاب المقدس والعلم[الجزء التالي] 🠼 ما هو المعنى الحقيقي لتكوين1؟
Avatar of أندرو يوسف
معيد بكلية الثالوث، تورونتو في الأكاديمية البطريركية، تورونتو  [ + مقالات ]

كاتب وباحث دكتوراه اللاهوت اﻷرثوذكسي بكلية الثالوث، تورونتو - بكالوريوس الدراسات الدينية، ماكماستر