بدأ الصراع حول مسألة إعادة المعمودية في القرن الثالث الميلادي، وكان المشاركين في الصراع هم ستيفن (254-257)، بابا روما، وق. ديونيسيوس (248-264)، بابا اسكندرية، وق. كبريانوس (~248-258)، أسقف قرطاجنة. يعتمد الغالبية في فهم موقف ق. ديونيسيوس على اقتباس حفظه يوسابيوس القيصري في كتاب تاريخ الكنيسة. سنورد هنا النص بالعربية:
“كورنيليوس اعتلى كرسي الأسقفية في مدينة روما حوالي 3 سنوات وتبعه لوكيوس ومات الأخير بعد أقل من ثمانية أشهر، وصار منصبه لستيفن. كتب ديونيسيوس أول رسائله عن المعمودية له [أي لستيفن] لأن في ذلك الوقت اضطرم صراع ليس بقليل على ما إذا كان ينبغي أن يتطهر العائدين من الهرطقة بالمعمودية. لأن الوضع القديم الذي ساد في ذلك الوقت أنهم كانوا يُقبلوا بوضع الأيادي بالصلاة فقط.
أولًا، كبريانوس راعي كنيسة قرطاجنة، أقر بأنه لا ينبغي قبولهم إلا بعد أن يتطهروا من أخطائهم بالمعمودية بينما ستيفن بابا روما اعتبر هذا غير ملزم لأنه يعد إضافة جديدة مخالفة للتقليد المتبع من البداية وكان غاضب لهذا السبب.
لذلك، ديونيسيوس تواصل معه باستفاضة بواسطة رسالة مشيرًا لأنه منذ انتهاء موجة الاضطهاد، الكنائس في كل مكان رفضت أفكار نوفاتوس المستحدثة [النوفاتية رفضت قبول من ارتدوا عن الإيمان وقت الاضطهاد في الشركة مرة أخرى] وحل السلام بينهم [أي بين كنائس أفريقيا]، فيكتب التالي:
[يقول ديونيسيوس] اعلموا الآن يا أخوتي أن كل الكنائس في الشرق وما بعده، التي كانت من قبل منقسمة، قد اتحدت مرة أخرى. وكل الأساقفة في كل مكان أصبح لهم فكر واحد ويتهللوا معًا في السلام الذي يفوق كل عقل…
لكن ستيفن بعد أن ظل في منصبه سنتين، خلفه خيستوس. فكتب ديونيسيوس له رسالة ثانية عن المعمودية يريه فيها رأي وحكم ستيفن والأساقفة الآخرين، ويتكلم عن ستيفن بالطريقة التالية:
إذن، هو [أي ستيفن] كتب مسبقًا عن هيلينوس وفيرميليانوس وكل اللذين في كليكية وكبادوكية وغلاطية والأمم المجاورة أنه لا يشترك معهم لهذا السبب، أي لأنهم يعيدوا معمودية الهراطقة. ولكن انظر لأهمية هذا الموضوع.
لأنه فعلًا الشق الأكبر من المجامع والأساقفة، كما عرفت، قرروا في هذه المسألة أن الآتين من الجماعات الهرطوقية لا بد أن يتتلمذوا ثم يغتسلوا ويتطهروا من قذارة الخمير القديم غير الطاهر. وأكتب لك داعيًا إياك أن تعيد النظر في هذه الأمور. ثم يقول:
كتبت أولًا، بدايةً بكلمات قليلة، ومؤخرًا بكلمات كثيرة، لآبائنا القساوسة، مثل ديونيسيوس [شخص أخر غير ديونيسيوس السكندري وقد يكون ديونيسيوس الروماني] وفيليمون، اللذين اتخذا نفس رأي ستيفن وكتبوا لي عن نفس الأمور…
في الرسالة الثالثة عن المعمودية التي كتبها ديونيسيوس لفيليمون، الكاهن الروماني، يقص التالي:
لكني فحصت أعمال وتقاليد الهراطقة، ملوثًا عقلي لمدة قليلة بأفكارهم النجسة ولكني اتخذت الفائدة التالية منهم وهي أني استطيع الرد عليهم وحدي وأني كرهت أفكارهم أكثر وأكثر.
وحين جاءني أخ من القسوس، متخوفًا من أن أُلوث ذهني بنجاسة شرهم—الأمر الذي أرى أنه قال فيه الحق—جاءتني رؤيا من الله وقوتني…
وبعد أن قال شيئًا عن كل هذه الهرطقات يضيف:
لقد استلمت هذا القانون وهذا الطقس من أبينا المبارك هيراكلاس. لأن هؤلاء العائدين من الهرطقات، حتى وإن كانوا قد ارتدوا عن الكنيسة—أو بالحري لم يرتدوا، ولكن ظلوا يقابلوهم [أي الهراطقة] أو حُكم بأنهم يذهبوا لمعلم ضال—فإنه بعد أن أخرجهم من الكنيسة لم يقبلهم مرة أخرى على الرغم من طلبهم لذلك حتى اعترفوا علنًا بكل الأشياء التي سمعوها من الأعداء [الهراطقة]، ولكن للوقت قبلناهم بدون أن نطلب منهم معمودية أخرى. لأنهم سبق وقبلوا الروح القدس منه”
مما سبق يتضح الآتي:
أولًا: الوضع الأول كان قبول الهراطقة بوضع اليد فقط حتى بدأت كنائس أفريقيا بإعادة المعمودية ثم قنن ق. كبريانوس مسألة إعادة المعمودية في مجمع قرطاجنة.
ثانيًا: مقتطفات رسائل ق. ديونيسيوس تُقر بأنه عالم بما تسلمته روما وما تسلمته قرطاجنة وأن الشركة انقطعت بينهم لهذا السبب.
ثالثًا: اعتمد الشق الأكبر من الأساقفة في الشرق رأي مجمع قرطاجنة الذي كان استقر لمدة قبل ق. كبريانوس لكن لم يكن قرار مجمعي بعد إلى ان انعقد مجمع قرطاجنة.
رابعًا: من كان بالفعل معتمدًا في الكنيسة ثم ارتد ثم عاد بعد توبة، لا تعاد معموديته.
خامسًا: على الرغم من قناعة ق. ديونيسيوس برأي مجمع قرطاجنة إلا أن تركيزه هو على أهمية إعادة الشركة بين روما من ناحية وكنائس آسيا وأفريقيا من الناحية الأخرى وليس على دعوة روما للعمل برأي مجمع قرطاجنة.
لحسن الحظ، تم اكتشاف 3 رسائل من ق. ديونيسيوس محفوظين باللغة الأرمينية (وليسوا مجرد مقتطفات مثل تلك الواردة في تاريخ يوسابيوس).
في الرسالة الأولى من ق. ديونيسيوس لستيفن، نجد النص التالي:
“لهذه الأسباب لنكون على وفاق، كنيسة مع كنيسة وأسقف مع أسقف وكاهن (شيخ) مع كاهن (شيخ)، دعنا نتوخى الحذر في كلماتنا خاصة حين نتعامل مع المسائل الخاصة مثل الطريقة التي يجب اتباعها لقبول القادمين من الخارج [أي خارج الكنيسة] وكيف نتلمذ هؤلاء الذين فيها، فنعطي تعليمات للأساقفة المحليين وهم بوضع اليد الإلهي [أي كونهم أساقفة] صاروا معينين للتعامل مع هذه الأمور لأنهم سيعطوا حسابًا للرب على كل ما يفعلوه”
(الرسالة الأولى لستيفن)
يتطابق ما ورد في هذه الرسالة مع ما أورده يوسابيوس فيما سبق. أما هذا الجزء فيتضح فيه تفهم ق. ديونيسيوس لاختلاف طرق قبول من هم خارج الكنيسة في الشركة حسب المنطقة وأن هذا الاختلاف في الرأي لا يعد سببًا لقطع الشركة بين روما وقرطاجنة مع العلم أن ق. كبريانوس نفسه لم يقطع الشركة مع روما على الرغم من قناعته بأهمية إعادة معمودية الهراطقة.
هذا بخصوص شق النصوص، أما بخصوص التاريخ فنعرف من رسالة 188 للقديس باسيليوس الكبير أنه يبدي تعجبه أنه على الرغم من أن الكنيسة لم تعترف بمعمودية الموناتست إلا أن ق. ديونيسيوس تغاضى عن هذا القرار وقبل معموديتهم. أسباب هذا القبول غير معروفة. وعلى أي حال فالقديس باسيليوس لم يعتبر ما قام به ق. ديونيسيوس في هذا الصدد من رأي الصواب.
يقص ق. جيروم (347-420) ما حدث أيام ق. كبريانوس وستيفن وق. ديونيسيوس، فيقول:
“أرجو أن يتذكروا أن [كبريانوس] لم يحرم هؤلاء الذين رفضوا اتباعه فعلى كل الأحوال ظل في الشركة معهم على الرغم من اختلاف أراءهم مكتفيًا بنصحهم… لو أن الهراطقة غير معتمدين [أي معموديتهم الهرطوقية باطلة] ولازم إعادة معموديتهم لأنهم لم يكونوا في الكنيسة، فهيلاري نفسه [أحد الأساقفة الذين وقفوا ضد رأي ق. جيروم في عدم إعادة معمودية الهراطقة] لا يكن مسيحيًا لأنه اعتمد في كنيسة قبلت معمودية الهراطقة. قبل انعقاد مجمع أريمينم، وقبل أن يتم نفي لوسيفر، هيلاري كان شماسًا في كنيسة روما ورحب بمن جاءوا من الهراطقة حسب المعمودية التي نالوها قبل ذلك. من الصعب أن يُقال إن الأريوسيين هم الهراطقة الوحيدين وأن علينا أن نقبل الجميع [بدون إعادة معمودية] باستثناء من عمدوهم [الأريوسيين]“
(ضد أتباع لوسيفر 24 – 26)
من كلمات ق. جيروم يتضح أن الاختلاف في طرق قبول الأشخاص في الشركة اختلف من موضع لأخر وأن مجمع قرطاجنة لم يكن ملزمًا له (ولا لكل من عاشوا وقت انعقاده) وأنه رأي طريقة أفضل فيما اعتمدته روما آنذاك. قُبلت معمودية المانويين أيام ق. جيروم ويرى ق. جيروم في ذلك سببًا لقبول معمودية الأريوسيين.
في كتابه عن المعمودية، يتعامل ق. أغسطينوس (345-430) مع تاريخ قبول معمودية الهراطقة ولاهوت المعمودية فيقول بأن عدم قبول ق. كبريانوس لمعمودية الهراطقة ليس نوع من الدوناتية والدليل هو بقاءه في الكنيسة الجامعة على الرغم من إمكانية انضمامه للدوناتية بشكل رسمي إن كان مؤمنًا بأفكارهم، ثم يشدد على وجود اختلاف بين زمنه وزمن ق. كبريانوس حيث أن في زمن ق. كبريانوس لم يكن هناك قرار مجمعي مسكوني بينما في وقت ق. أغسطينوس كان قد انعقد مجمع أرلِس في 314 م وحيث أن الكنيسة الجامعة قررت عدم إعادة المعمودية في هذا المجمع، فلم يعد من الممكن اعتماد ما يقوله مجمع محلي وأرسى ق. أغسطينوس قاعدة وهي أن ما يأتي في مجمع محلي تُعرض فيه الآراء من الممكن أن يتم تعديله في مجمع مسكوني. ثم يضيف ق. أغسطينوس لذلك أن ما اعتمده مجمع أرلِس لم يكن أمرًا جديدًا بل كان هو المعتمد من البداية إلى أن استجد النظام الأفريقي في القرن الثالث في قرطاجنة الذي أقر بإعادة المعمودية. وعلى الرغم من منطقية فكر ق. أغسطينوس إلا أنه هو الوحيد الذي رأى في مجمع أرلِس مجمعًا مسكونيًا بينما رأت باقي الكنيسة أنه مجمع محلي مُمهد لمجمع نيقية المسكوني.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
كاتب وباحث دكتوراه اللاهوت اﻷرثوذكسي بكلية الثالوث، تورونتو - بكالوريوس الدراسات الدينية، ماكماستر
نحاول تخمين اهتماماتك… ربما يهمك أن تقرأ أيضا:
- [4] من العصر الوسيط للعصر الحديث في العصور الوسطى قام المتنيح نيافة الأنبا ابيفانيوس (1954-2018) ود. يوحنا نسيم يوسف بتقديم شهادات من قوانين العصور الوسطى في هذا الموضوع ونلخصه فيما يلي: قوانين البابا خريستوذولس (1046-1077) تضمنت عدم إعادة المعمودية والإيمان بأن أبناء باقي الطوائف هم أرثوذكس لا ينقصوا عنا من جهة الإيمان في شيء إلا من جهة عوايد وسنن معتبر هذه......