إنني أعترف بأنني بدأت أتعب بشدة من سماع تلك العبارة المملة والغبية التي ترددت مؤخرًا في كل مكان: "نحن لسنا مستعدين بعد للديمقراطية!"، صراحة، لا أستطيع فهمها على الإطلاق! هل يمكنك أن توضح لي متى سنكون جاهزين من وجهة نظرك؟ بعد عقدين ربما؟ أو ربما ستقول لي: "بعد زيادة مستوى الوعي والتعليم"، أو "بعد القضاء على الفقر"، أو أي حوار مضحك آخر، يعلم الجميع أنه لن يحدث قبل عقود!
عزيزي، إذا كان 65% من السكان في مصر متعلمون حاليًا، و55% منهم يعيشون فوق مستوى الفقر، ومع ذلك، فإن الأشخاص الذين يرددون هذه العبارة لا يزالون يتحججون بعدم جاهزيتنا للديمقراطية! لذا، من فضلك، أخبرني، متى سنكون جاهزين؟ وكيف يمكنا رفع مستوى التعليم وخفض معدلات الفقر ونحن مستمرون في زمن كهذا؟ إذا كان أكثر من ثلث الشعب لا يزال فقيرًا وجائعًا وجاهلًا، فكيف سيكون الوضع إذا عدنا -لا قدر الله- إلى العصور القمعية والاستبدادية؟!
الحمد لله تركنا تلك العصور البائدة إلى غير رجعة الآن (والحمد لله أيضًا على نعمة الحداقة!)
فهل الديمقراطية هبة للجميع، أم حكر على النخبة؟!
أليست الهند ديمقراطية وفقيرة بالرغم من ذلك؟ أليست دولًا كثيرة غنية بالموارد والأموال ومبشرة بثورات شعبية ضد حكامها بسبب الظلم والاستبداد والقمع؟ لماذا نعتقد أن الديمقراطية هي شيء يصعب الحصول عليه أو عجيبًا في يد الفقير المصري أو الجاهل؟ ولماذا نردد المقولة الخالدة الجاهلة الأهم في التاريخ الحديث…
بط هوين؟!
متى؟
نعم فعلا.. متى؟!
متى تأتي اللحظة المثالية “المزعومة” تلك لتطبيق الديمقراطية الليبرالية (أو المدنية المواطنية)؟ أعتقد لن تأتي أبدًا وذلك لأن “تومورو نفر كمز” يا سيد “بط هوين”! وسنستمر جميعًا نغوص في دوامة التناقضات!
لا تتسرع في الإجابة وتربطها أبدًا بالتعليم والتنوير والتثقيف، بكل جهل!
لماذا؟
دعني أجاوب سؤالك بسؤال: ما هي مصلحة الديكتاتورية أو الفاشية في القضاء على الجهل أو الفقر؟ بل على العكس، الجهل والفقر والمرض يخدمون دائمًا الديكتاتورية، ولذلك فهذا الهوني لن يحدث أبدًا في وجود فلان أو علام! وأبرز آيات الجهل والفقر والمرض والغباء هي آية “عندما يتعلق الأمر بالأمن القومي فلا تحدثني عن حقوق الإنسان!” التي نسبت كذبًا وزورا وبهتانًا لرئيس وزراء بريطانيا الذي رأينا سفيره في القاهرة في مداخلة تلفزيونية مباشرة عبر الهاتف -في برنامَج مع شريف عامر- ينفي جملة وتفصيلًا وجود مثل هذه العبارة الشؤونمعنوية العقيمة التي ألفها مخبر مغمور من الدرجة الثالثة من أمام كورنيش ماسبيرو غالبًا والله أعلم ونسبها لرئيس وزراء بريطانيا!
وبمناسبة عبارة “وعندما يتعلق الأمر بالديمقراطية” فلا أخفيكم سرًا، لم يكن دائمًا يثير اهتمامي ختام مقالات الدكتور علاء الأسواني بعبارته المعتادة “الحل هو الديمقراطية”، بل كانت تثير اهتمامي بشكل خاص عبارة الفيلسوف “اللامع” “الجهبز” د. مراد وهبة: “لا ديمقراطية بلا عَلمانية”.
هل يمكننا ربط هاتين العبارتين معًا للحصول على جملة جديدة وملهمة؟ ألا يمكننا قول إن “الحل هو الديمقراطية، ولا ديمقراطية بلا عَلمانية”؟ وكما قلت في المقال السابق…
في غياب الحرية، فلا ديموقراطية ولا عَلمانية ولا هم يحزنون!
بالطبع، عندما نتحدث عن الديمقراطية، فإن الديمقراطية الليبرالية بوجهة نظري هي الحل، هي التي تحمي حقوق الأفراد والأقليات من سلطة الحكومة، هي التي تدرج تلك الحقوق في الدستور، لتصبح دولة ديمقراطية مدنية تعتمد على القانون، ليس الدين!
أي دين!
ومع ذلك، يثير استخدام كلمة “ليبرالية” قلقًا وخوفا بين الإسلاميين وأنصارهم، الذين يرفضون بشدة الفكر العلماني السياسي المستنير، ولا يعرفون عن العَلمانية إلا أنها “تبيح وتقنن زواج المثليين!”.
الأصولية -بالذات في مصر- تمنح امتيازات شرعية مكتسبة لصاحبها على غيره دون وجه حق وبلا مجهود ولا استحقاق، وتلغي حقوق الأفراد والأقليات تمامًا، مما يسمح لصاحبها بنشر سلطته بشكل مطلق دون أي مساءلة!
وبما أنه أصولي أساسًا أو راديكاليًا، وأي راديكالي هو عدو طبيعي للفكر العلماني السياسي المستنير (بالمناسبة الليبرالية هي ابنة شرعية للعلمانية السياسية، فلا تصدق أي هراء يقول لك ذاك ليبرالي وذاك علماني، أي ليبرالي هو علماني مثله مثل أي يساري).
لكن ما يجعل الإسلامي أو الأصولي يدافع عن فكرته هو أن تجعله يلغي وجود الأفراد والأقليات تمامًا وبكل “غشم” ليبسط هو نفوذه السياسي بكل سلطوية وعنف ضاربًا عُرْضَ الحائط بأي اعتبارات أخرى، مستندًا كالعادة إلى نصوص مقدسة يفسرها هو غالبا على هواه، لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها، تهبه ما يشبعه من سلطات ومزايا ومنح.
وطبعا في غياب “العدالة” -كل أنواع العدالة- سواء اجتماعية أو سياسية أو قضائية (أو حتى اقتصادية) فجميع محاولات البناء والتنمية والتعليم التي يبذلها “أتخن” مجتمع للقضاء على الفقر أو الجهل أو المرض ستضيع أدراج الرياح، لذا فأول لبنة في بناء أي دولة هي “العدالة السريعة” أو “العدالة الناجزة” بالتحديد، وهذا شبه مستحيل أن تتحقق في أي نظام لا يتبنى، بل ويسفه من “الديمقراطية الليبرالية” أو “العَلمانية السياسية” بالرغم من أنهما دائمًا يطرحان الحل، وهما رمانة ميزان العدالة الناجزة تلك.
الحل هو الديمقراطية الليبرالية والعلمانية السياسية، وقبلهما الحرية المدنية المواطنية…
وابقي قابلني…
وللحديث بقية إن كان في العمر بقية!
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟