انتشر مقطع فيديو قصير مؤثر للمؤدي الناجح للمهرجانات الشعبية “عمر كمال”، يحكي فيه عن طريقه في الحياة المهنية، لمدة 15 عامًا، الذي بدأه في العمل بأقل المهن أجرًا، مثل عامل مبيعات بمحل أحذية في الريف، عانى فيهم الفقر المدقع إلى أن أصبح يكسب الآن عدة ملايين من الجنيهات سنويًا.
وكالعادة رد كثير من المتألمين على حالهم في مصر والراضين قسرًا بنصيبهم والمتصنعين القناعة على “عمر كمال” بسيمفونيات مفخمة من التنظير والتصنع وادعاء المثالية والفضيلة، تُنكر عليه الشعور بالانتصار أو “بالوصول” وحنقهم من عدم وصولهم مثله بالرغم من سعيهم العبثي في ميدان وظائف (المبيعات، خدمة العملاء، الحسابات، قيادة سيارة الأجرة عبر تطبيق “أوبر”!) أو تقريبًا نفس الميدان المهني الذي كان يرزح تحته عمر حتى عام 2016.
أكثر الله من خيرهم تبرعوا بتلقينه -عبر فيسبوك- دروسًا ثمينة للغاية في الأخلاق والفضيلة، ليستفيق وليصحح مساره الحياتي القذر وأن يترك أعماله الرديئة وطرقه المعوجة، وأن يقتدي بهم وبأمثالهم من الأطهار والطوباويين من “المجاهيل” المكافحين والواقفين تحت الشمس المحرقة بالطوابير أمام المجمعات الاستهلاكية متشبثين ببصيص الأمل لاقتناص دجاجة مجمدة وعلبة شاي صنفرة!
المتألمون على حالهم في مصر وأدعياء المثالية يظنون، وبعض الظن إثم، أنه يقدم محتوى آثمًا وذميمًا ومكروها عند الله ورسوله، في حين هم -بسم الله ما شاء الله من أهل الله- من أصحاب الإيمان والخلق القويم من خريجي مدرسة “يوميات ونيس” التلفزيونية ذات النزعة الأخلاقية الفوقية لناظرها إمبراطور الفن النظيف الهادف المحترم جدا الملك “محمد صبحي” الأول والأخير!
على مدار خمسين عامًا ونيف سمعنا فيهم -وما زلنا نسمع- نفس تلك الأسطوانة المشروخة من أصحاب الإيمان العميق والخلق القويم إياهم: الحرامي! بالتأكيد هو حرامي! أمه جايبهاله! وأبوه برضو حرامي! أكيد من البودرة! هو كدا المطربين، والرقّاصات، كدا يا باشا!”
تفسيرًا وتبريرًا لثراء الآخرين من نجوم الفن أو الرياضة أو التجارة (وحاليًا الإعلام التلفزيوني) غير مبرر في نظرنا، كما لو أنه لا يوجد ما يقنع المصريين بأن يركب الإنسان في مصر سيارة فارهة دون أن يكون متورطًا في الحرام ومنخرطًا في الفساد، خاصة إذا كان شابًا في الثلاثينيات أو أصغر!
ولسبب ما أيضا لا يفهم كثير مننا -خاصة من أصحاب الإيمان العميق والخُلق القويم- أن من حق أي شخص ثري مما يركبون سيارات فارهة وهم شباب في الثلاثينيات، عدم التبرع بماله لمساعدة الآخرين -وفي العلن- حتى تنفذ نقوده عن أخرها، إلا إذا أراد ذلك الله، وإلا سيعتبر بخيلًا أو فاسدًا أو يتظاهر بالثراء على الرغم من فقره، إضافة طبعًا لكونه مؤدي مهرجانات “حقير” يغني خلف الراقصات وبين زجاجات الخمور والميسر و… و…
كمْ من هؤلاء الإصلاحيين المزعجين والجاهزين دائمًا لتلقين الآخرين دروسًا في الأخلاق والفضيلة، مستعدون فعلًا لرفض الثراء لو جاءهم على طريقة “عمر كمال”؟ القليل جدًا، وربما سيكونون أسوأ بكثير من الأشخاص الذين ينتقدونهم!
كان الأديب الكبير “نجيب محفوظ” يردد في رائعة “أولاد حارتنا” مقولة رائعة ألا وهي “آفة حارتنا النسيان”، إلا أنني كنت غير مقتنع أبدًا بها كالآفة الأصلية في “حارتنا”، ذلك الحالي الذي يعج بأصحاب الإيمان العميق والخلق القويم من الإصلاحيين أصحاب عبارات “استر على ولايانا يا رب” و”حسبنا الله ونعم الوكيل” في تعليقات “فيسبوك”… لا… كنت أميل أكثر إلى رأي الأديب الكبير “يوسف السباعي” أن أرضنا أو حارتنا هي “أرض النفاق” كما سماها في إحدى رواياته! وقد أزيد السباعي من الشعر بيتًا، أننا أراض الرياء والادعاء والتمثيل و”الاستعباط” و”الاستنباط”، وليس النفاق فحسب!
نرى مثلًا أن السواد الأعظم من تعليقات أصحاب الإيمان العميق، والأخلاقية المسرحية القديمة والمستهلكة -التي تسترعي أنظار وآذان النساء العجائز في البيوت والمراهقات في الريف المصري- من منشورات الشبكات الاجتماعية، صادرة من ممثلين درجة ثالثة مجهولين وموجودين بيننا، يصورون أنفسهم على أنهم أخلاقيون وإصلاحيون، تنهش قلوبهم الغَيْرَة والحقد والحسد والغل من حرمانهم من المال الوفير والصيت الذائع، ويحلمون بفساد عمر كمال هذا، ولكنه بعيد المنال لسوء طالعهم!
أصحاب الخلق القويم هؤلاء هم اليوم أكثر الخلق اشتياقًا لاحتراف الوقوف على منابر الوعظ طمعا في الهيبة والتقدير التي لن ينالونها في مساعيهم المهنية اليومية، التي يؤسفني القول إنها غير مجدية ماديًا ولا تشكل قيمة مضافة حقيقية ولا مختلفة تستحق أن ينفق عليها أي رب عمل سواء كان جزءًا من الدولة أو من الأفراد.
أصحاب الخلق القويم من جماعة الطوباويين والأخلاقيين الذين لم يحققوا شيئًا بحياتهم، دومًا جاهزين لإتحافنا بدروس يتلونها على أي شخص حقق مالًًا أو شهرة لا يستحقها بميزان أخلاقيات المكافحين الشرفاء من صناع الشطائر أمام أسياخ الشاورما، والصرافين أمام خزانة متاجر الآيس كريم، والسائقين خلف عجلة قيادة سيارات الأوبر، والمندوبين خلف سماعة الكول سنتر!
احترم كل هؤلاء وأقدرهم لكن مطلوب مننا جميعا احترام بعضنا، بلا مواعظ ولا مزايدات!
ونستكمل الجزء الأخير من حديثنا الأسبوع المقبل إن كان في العمر بقية..
صديقي القارئ المؤمن: لا تذهب بعيدًا!
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟