ما الذي يتبادر إلى ذهنك فور سماعك كلمة "مادونا"؟ هل صورة للسيدة مريم العذراء، محيطة السيد المسيح رضيعًا بذراعيها؟ أم أن أول ما يقفز في ذهن شخص عاش في أوائل الثمانينيات وحتى وقتنا هذا في أي مكان في العالم هو نجمة البوب الأميركية "مادونا"؟

يرجع الإدراك الجماعي للأسماء ومدلولاتها إلى التأثير الكبير الذي تمارسه وسائل الإعلام على المتلقين ولا سيما الصغار منهم، فتصبح الثقافة الشعبية هي المرجع الأساسي لكل شيء، يربط أطفال جيل الثمانينيات والتسعينيات وأحيانا الجيل الحالي أسماء مثل ، ليوناردو، ، رافايللو، بأربعة سلاحف مقاتلة مقنعة يتم تدريبهم على يد جرذ متكلم، وهي أسماء مختصرة لأسماء إيطالية أكثر طولا وتعقيدًا، لكن هل حاولت السؤال ما الذي يربط ب أو ؟

يقص رسام القصص المصورة “بيتر لاريد” قصة بداية سلاحف النينجا في لقاء صحفي، لا يملك صناع الشخصيات سببا حقيقيًا لتسمية شخصياتهم بتلك الأسماء، ظنوا فقط أنها أسماء ظريفة ويمكن تذكرها، وهو ما حدث بالفعل، الكل يتذكر أسماء سلاحف النينجا، في إحدى الحلقات يجد الجرذ المعلم “رشدان” كتابًا قديمًا عن ، فيقرر إعطاء تلاميذه أسماء أربعة فنانين هم: ليوناردو، مايكل أنجلو، رافاييل، دوناتيللو، اشتهرت الأسماء الأربعة بين الأطفال والكبار وأصبحت علامات في الثقافة الشعبية، فعندما تنطق أحدها يقفز إلى الذهن العام أحد سلاحف النينجا بلون قناع محدد يتماشى مع كل شخصية، فهل مجموعة من الشخصيات الرسومية أشهر من أصحاب الأسماء الأصلية؟ أم أن شهرتهم مدخل لمعرفة تلك الشخصيات وتأثيرها الخالد في تاريخ الفن والعالم وثقافتنا البصرية؟

 

عن عصر النهضة

في أواخر قتل الموت الأسود ما لا يقل عن ثُلث سكان قارة أوروبا، يمكن رؤية ذلك كمأساة لا مثيل لها، لكنها كانت جزءًا من السبب في وصول أعظم العلوم والفنون التي غيّرت من شكل الثقافة والتاريخ، عندما قل عدد سكان أوروبا، تسببت قلة الأيدي العاملة في زيادة أجور الأفراد في مختلف المهن، وتحسن مستوى معيشة من تبقى على قيد الحياة، فامتلك الناس أموالا أكثر يمكن صرفها على الرفاهيات، وفي بداية القرن الخامس عشر بدأ تأثير الطاعون المدمر في التراجع وازدهرت القارة تدريجيًا من جديد، خلق زيادة الطلب على الخدمات والمنتجات طبقة جديدة من المصرفيين والتجار والحرفيين المهرة، ومعها تراجعت سيطرة الكنيسة بسبب عدم نجاحها في توفير ملاذ وخلق طمأنينة للناس من ويلات الوباء المميت، ويمكنك اعتبار الانهيار الحضاري والاقتصادي سببا من أسباب قيام عصر النهضة، فلا نهضة إلا بعد انهيار.. بجانب الوباء اشتهرت العصور الوسطى بانتشار الجهل والخرافات وتوسع سطوة الكنيسة والدين.

بعد قيام حضارتها من جديد ازدهر العلم والأدب وتم استرجاع أفكار الإغريق القديمة مع تطويرها، ولكن ما لم يقل تأثيره أو يدحض حتى اليوم أكثر من أي نظريات علمية أو أفكار فلسفية هي فنون عصر النهضة، فأفرزت تلك الفترة النهضوية مجموعة من أهم الفنانين وأكثرهم تأثيرًا على مر التاريخ، فالعلوم تتغير بالمعرفة المتراكمة وتلغي النظريات بعضها البعض حتى تصبح مرجعيات تاريخية، أما الفنون فهي تجارب مستقلة وشعورية، فحتى تلك اللحظة لا يمكن لأحد أن ينكر سحر سقف كنيسة السيستين أو تأثير ملامح الموناليزا أو إنكار كيف غيّر تمثال داود النحت، أو التوقف عن محاولة فك شفرات لوحة مدرسة أثينا.

كل تلك الأعمال الفنية الخالدة تخص أربع أسماء عملاقة..
أسماء سلاحف النينجا كما يعرفها الجميع: مايكل أنجلو، ليوناردو، دوناتيللو، رافاييل..

 

دوناتيللو

عن "سلاحف النينجا" التي صنعت "عصر النهضة" 1كان نحاتًا إيطاليا رائدًا، يعتبر تمثاله العاري للنبي “داود” من أهم الأعمال النحتية في عصر النهضة، ويمثل التمثال “داود” ممسكًا بسيفه ومتكئًا بقدمه على رأس “” المقطوعة، يبدو داود كغلام صغير السن حسب الرواية التوراتية، لكنه شجاع بما يكفي لكي يقاتل جوليات المتوحش، السيف في يده نسبته تبدو غير متناسبة مع حجم جسده، وهذا لأنه قطع رأس “جوليات” بعدما أسقطه بصخرة وأخذ سيفه، فالتمثال يعبر بشكل بصري عن القصة كاملة بواسطة الدقة والحساسية تجاه النسب. واجه التمثال سيلا من الجدل بسبب تجرده من الملابس، فتم اتهامه بالتعبير عن الفجور من خلال التمثال، بينما شكر البعض في قدرته التعبيرية عن الجسد الإنساني بدون الالتزام بالقواعد الكلاسيكية بشكل صارم.

عن "سلاحف النينجا" التي صنعت "عصر النهضة" 3مثال آخر على تطوير دوناتيللو للنحت واستخدامه بشكل تعبيري يسبق عصره، هو تمثاله ل التائبة. جسد نحيل وملابس متهالكة دون أي مثالية أو زيف، يملأ وجهها المتغضن الندم والصدق، لم يحاول أن يخلق جسدًا أو وجها جميل الشكل، ولا أن يستعرض قدراته على نحت الثنيات القماشية في خامة الخشب، بل اهتم بالمشاعر التي يعبر عنها الموضوع نفسه بشكل أساسي، وهذا ما يجعل عصر النهضة عصرا فنيا بامتياز، فالفنون لا تزال موضوعاتها دينية مثل العصور الوسطى، لكن دخلت فرادة الفنان ورؤيته في المعادلة فأضفت أبعادا أخرى غير التصورات الكتابية المحددة أو التقليدية المستهلكة.

 

ليوناردو

يمثل “ليوناردو ” النموذج الأشهر لمصطلح “رجل النهضة”، وهو مصطلح يُطلق على شخص ذي فضول لا نهائي ونهم للمعرفة وخيال مبتكر بشكل محموم، فهو النهضوي المثالي الذي يجمع معارف متعددة وبشكل متساوٍ في الإتقان والإلمام، فلقد كان رسامًا، نحاتًا، مخترعًا، معماريًا، عالمًا، رياضيًا، مهندسًا، عالم تشريح وكاتبًا، تقول عن عبقريته المؤرخة الفنية هيلين جاردنر: “عقله وشخصيته يبدوان خارقان للطبيعة“.

عن "سلاحف النينجا" التي صنعت "عصر النهضة" 5كان منهج ليوناردو في البحث يختلف كل الاختلاف عن المثقفين في عصره، فهو لم يأخذ بالنزعة الميثولوجية، ولم يحاول قط الرجوع إلى فلاسفة الإغريق أو الرومان، وإنما اعتمد على التجربة الحسية المباشرة بعيدًا عن كل نظرة ميتافيزيقية، فنراه يقوم بنفسه بتشريح جسم الإنسان، ويراقب حركة الطيور في طيرانها، ويدرس هبوب العواصف وتلاطم الأمواج وتجمع السحب، كما ينكب على علوم الهندسة والمنظور والميكانيكا وغير ذلك في دأب وتفهم ويسجلها في رسوم دقيقة تدل على قوة الملاحظة، أما فنه فقد اعتمد على تجربته الباطنة الخاصة وبصيرته ذات الرؤى العجيبة وهي التي أضفت على لوحاته غلالة من السحر والإثارة المبهمة فبدت مجسماته في بروز لطيف رقيق، وكأنها خارجة من عالم غامض مجهول.

شهرة دافينشي تكمن في إنجازاته الفنية، ربما تسببت بعض المصادفات القدرية مثل سرقتها عدة مرات والألغاز حولها في جعل “الموناليزا” أشهر لوحاته بل وأشهر لوحة في العالم، فهي بورتريه لسيدة ليس لها مرجع ديني أو إنجيلي أو حتى أسطوري، هي زوجة تاجر كبير لكن على الرغم من كونها امرأة عادية جعل دافينشي وضعها في اللوحة بمثل أيقونية مريم العذراء، فهي تمثل الصورة المثالية للمرأة.

عن "سلاحف النينجا" التي صنعت "عصر النهضة" 7تعتبر الموناليزا من أوائل اللوحات التي تُمثل بورتريه (صورة شخصية) خلفيته منظر طبيعي، وفي المنظر الطبيعي استخدم “دافينشي” المنظور الهوائي عوضا عن الهندسي، وهو منظور يُستخدم في رسم المناظر الطبيعية الخلوية ويعتمد على درجات الألوان أكثر من الخطوط الهندسية المحسوبة، فالألوان تصبح أكثر زرقة وبياضًا وأبرد كلما ابتعدت في مؤخرة اللوحة، وتكون أكثر توهجا ودفئا كلما كانت أقرب لعين المتلقي، يُعتبر ليوناردو رائدًا في استخدام ذلك المنظور.

دارت جدالات وحلقات ثقافية ودراسية وكتابات حول ابتسامة الموناليزا وعما تعبر وهل هي تبتسم حقا؟ لكن إذا نظرنا بشكل أكثر موضوعية فهي تملك تعبيرًا هادئًا وغامضًا في عينيها بشكل رئيسي ويعلو هذا التعبير وجهها، كوننا نفهمه أو لا ليست تلك القضية، فجمال بعض الأشياء يكمن في تنوع أشكال التلقي، فهي لا تفرض عليك إحساسًا معينا بل تتركك تقرر، وزيادة التحليلات لمعنى الابتسامة أصبح مجرد محاولة لتبرير شهرة اللوحة وخلودها.

 

مايكل أنجلو

عن "سلاحف النينجا" التي صنعت "عصر النهضة" 9كان رسامًا، نحاتًا وشاعرًا، ينافس “دافينشي” في كونه رجل نهضة متكامل، ما يميز “مايكل أنجلو” كفنان هو دمجه لمعارفه ومهاراته المختلفة بشكل تبادلي، فرسمه وتصويره متأثران بنحته والعكس صحيح، فنجد تصوره للجسد الرجولي في اللوحات والجداريات ذا طابع نحتي مصقول ومجسم، به مبالغة لإظهار الجماليات العضلية، فبالنسبة لمايكل أنجلو التشريح الإنساني قيمة جمالية يجب إظهارها على أكمل وجه.

هوسه بالكمال جعله يعمل لمدة أربعين عاما عندما طلب منه البابا نحت تماثيل لمقبرة البابا يوليوس الثاني، التي تحوي واحدًا من أشهر أعماله: “تمثال موسى”. يعتبر المشروع واحدًا من أكثر المشاريع إحباطًا للنحات العظيم، فقد تم وقف عمله (ربما لأسباب مالية) وخفض عدد التماثيل إلى الثلث، وبعد كل تلك الأعوام من العمل لم يرض أبدا مايكل أنجلو عن النتيجة النهائية.

يخلق مايكل أنجلو منحوتاته داخل الحجر، يرى حالتها النهائية قبل أن يبدأ في إزالة الزيادات عن الشخص الكامن داخلها، لكن دقته المثالية لا تخلو من حساسية شديدة تجاه الخامة والموضوع، يرجع ذلك لعمله كرسام أيضا، فإذا كان الرسم هو إضافة للوصول إلى الشكل فإن النحت بالنسبة له هو حذف للوصول إلى الجوهر. يمكن دراسة فكرة أن الشكل موجود في الحجر نفسه وليس على الفنان إلا اكتشافه في تمثاله “نهوض المستعبد”، فهو يبدو كتمثال غير كامل ربما بسبب توقف المشروع، لكن في عدم اكتماله تعبير عن الفكرة باستخدام الخامة، فجعل ذلك المستعبد يشق طريقه بشكل حرفي خارج الصخر.

عن "سلاحف النينجا" التي صنعت "عصر النهضة" 11أكثر أعمال مايكل أنجلو خلودًا هي رسمه لسقف كنيسة السيستين والتي تمثل بداية الخلق، وسقوط من الجنة، وعدة موضوعات إنجيلية أخرى، في ذلك العمل الضخم الأسطوري تمتزج قدرات مايكل أنجلو التصويرية مع ثقافته النحتية، فيبدو أنه اكتشف أجساد الإله والأنبياء داخل السقف عوضا عن خلقه إياها، ألوان متوهجة لكنها ليست صارخة تغطي الأقمشة وثناياها، وتعبيرات وجهية مختلفة عن كل ما قدم في عصر النهضة أو ما قبله، بالإضافة إلى إمكانية تكنولوجية لا مثيل لها على خلق بُعد ثالث وهو ما يرجع فضله للنحت أيضا، فتبدو العناصر طائفة في هواء الكنيسة وليست ثنائية الأبعاد أو تصويرية.

 

رافاييل

عن "سلاحف النينجا" التي صنعت "عصر النهضة" 13عاصر “” عملاقي عصر النهضة مايكل أنجلو وليوناردو، فكانت المنافسة محتدمة للغاية، ويجب أن تكون عبقريًا لكي تصمد في هذا العصر، عندما وجد الفنان الشاب الذكي أن من الصعب عليه أن ينافس قوة أسلوب مايكل أنجلو ورقة أسلوب دافينشي، تخير لنفسه أسلوبًا منفردًا اقتبسه من أعمال مجموعة الفنانين الإيطاليين المعاصرين له الذين أُعجب بهم، واستطاع بمهارته أن يكوّن من هذا المزيج أسلوبًا خاصا تميز به.

ولأن عصر النهضة أتى بعد عصور قاحلة لا تنوير فيها ولا فلسفة، أعاد اكتشاف الجماليات الإغريقية والرومانية وبعض فلسفاتهم ونظرياتهم عن الفن والجمال، عبّر رافاييل عن ذلك عندما طُلب منه تزيين جدار قصر البابا فصوّر أشهر أعماله “مدرسة أثينا”، وهي عبارة عن أربع جداريات تُمثل كلٌّ منها فرعا من العلوم: الفلسفة، الشعر، الموسيقى، اللاهوت.

عن "سلاحف النينجا" التي صنعت "عصر النهضة" 15تحوي الجدارية معظم الفلاسفة والعلماء العظام من الإغريق متراصين في أوضاع تميزهم، فيشير إلى الأعلى تعبيرًا عن المثالية، بينما نجد يد تلميذه مشيرة إلى الأسفل تعبيرًا عن توصيل تعاليم أستاذه إلى البشرية. ومن الواضح أن رافاييل كان قد رأى سقف كنيسة السيستين قبل أن يبدأ في جداريته، كما أن تصميمها يذكرنا بـ “” لدافينشي، إلا أن رافاييل تميز بمقدرته الفنية في إذابة عناصر أساليب الفنانين في طرازه الخاص الجديد.

اشتهر رافاييل بتصويره عددا كبيرًا من اللوحات لمريم العذراء وطفلها والطفل يوحنا أثناء إقامته في فلورنس وروما ومنها العذراء والسمكة الذهبية، العذراء في المروج، وعذراء ألبا، كما رسم صورا شخصية لوجوه غير مقدسة بأسلوب متميز وبحس لوني قوي ومشبع. على عكس دافينشي ومايكل أنجلو الذين فضّلا أسلوبًا لونيا أكثر وقارا وضبابية، استخدم رافاييل ألوانا أساسية مباشرة في رسم ملابس شخصياته، فنجد الأحمر الساخن ولونه المكمل الأخضر مكثفًا في الخلفية في بورتريه للبابا يوليوس الثاني.

يستحيل محو الارتباطات الشرطية التي تأخذ وقتا طويلًا للتكوّن في الأذهان مثل الربط بين شخصيات رسومية وفنانين أعادوا تشكيل التاريخ والفن والثقافة البصرية، الأمر يشبه تسمية شارع باسم أحمد عرابي أو ميدان طلعت حرب، بالتدريج يفقد الاسم الأصلي دلالته التاريخية ومدلول صاحبه الأصلي لكن لا يمحو ذلك تأثيره، فربما روابط مثل تلك تعطي فرصة بالذات للأطفال ليتم تعريفهم بعلامات مميزة في تاريخ الإنسانية.
اقرأ أيضا:

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

باسم الجنوبي
[ + مقالات ]