بدأ الرب يسوع المسيح حديثه في أنجيل يوحنا أصحاح ١٤ بعبارة ” لاتضطرب قلوبكم “ عدد ١.  وذلك لأنه كان بصدد أزالة  شكوك الإنسان، بل  تصحيح مفاهيمه من ناحية علاقته بالله ، التي هي الأساس في حياة الإنسان .  فلقد شرح الرب أن القصد من خلق الإنسان هو دخوله في شركة حياة مع الله  الواحد الثالوث ، من خلال اتحاده  في بشرية ابن الله المتجسد يسوع المسيح ” الله الذي ظهر في الجسد “ .

ففي حديثه بهذا الإصحاح يُخبر المسيح تلاميذه عن صعوده الُمرتقَب  إلي السماء و الهدف منه : ” أنا أمضي لأعد لكم مكانا ، وإن مضيت وأعددت لكم مكانا آتي أيضا وآخذكم إليَّ ، حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضا“ ع ٢ . فالمسيح يقول علانية أن هدف تجسده هو أن يكون للإنسان حياة شركة مع الله .

هنا بدأت تظهر شكوك الإنسان على لسان توما تلميذ المسيح ” قال له توما:     « يا سيد، لسنا نعلم أين تذهب ، فكيف نقدر أن نعرف الطريق ؟ »“ع ٥ .    إنها مشكلة المعرفة والتي بدأت برغبة و أن يعرفا كل شئ مثل الله . وبسببها أكلا من شجرة معرفة الخير والشر بغواية من .

لذلك قدَم الرب يسوع المسيح الرؤية الإلهية لكيفية التوفيق بين معرفة الإنسان المحدودة التي تريد أن تحيط بكل حقيقة الله الغير محدود . فحياة الشركة أو شركة الحياة بين الله والإنسان هي الحل لمعضلة عجز معرفة الإنسان عن إدراك حقيقة الله . مثلما الطفل في رحم الأم ، فهو جزء منها وهي تحتويه ، ولكن تظل معرفته قاصرة عن الإدراك الكلي بالأم . فعلي الرغم من القصور المعرفي فإن مرحلة حياة الإنسان ، عندما كان جزءاً من رحم أمه  ولحم من لحمها وعظم من عظامها ، هي أسعد مراحل حياة الإنسان ، لدرجة أن علم النفس وضع لها مصطلحا خاصا بها Nostalgia ، يصف به حنين الإنسان واشتياقه لحياة شركة مُشبعة مثلما كانت مع أمه . و قد وصفه الفن بطريقته الخاصة  كما في بعض الأغاني ” لا أعرف من أين ، ولكني أتيت “. وربما تكون شركة الزواج هي محاكاة لإشتياق الإنسان لحياة الشركة التي أساساتها في الله ثم تمثلت في الأم وبعد ذلك الزواج    ” ويصير الإثنان جسداً واحداً “ .

وفي إجابة المسيح المطوَّلة عن حياة الشركة بين الله والإنسان ، أستعلن لنا الرب يسوع المسيح عن المصدرالأزلي لحياة الشركة هذه ، وهي حياة الشركة بين أشخاص/ أقانيم الله الواحد : ” أني أنا في الآب والآب فيَّ “ ع ١٠. إنها  حياة الشركة التي يريد الله أن يُدخِل الإنسان إلي مجالها . فلما فشل آدم في بلوغ تلك الشركة كانت مبادرة الله ومحبته بإفتقاد الإنسان بالتجسد الإلهي . فبظهور الله في الجسد حقق تلك الشركة بين الإلهي والإنساني في شخص يسوع المسيح الذي هو ” أبن الله / أبن الإنسان “ . لذلك ، فكل مَن يتحد ببشرية يسوع ” أبن الإنسان“ ، تتحقق له الشركة بالمسيح ” ابن الله “ : ” ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي“ ع ٦ . فالله لا يفشل حتى لو فشل الإنسان .

و تعود شكوك الإنسان المتولدة من رغبته في معرفة ما لا طاقة له به بسبب محدودية طبيعته الإنسانية عن الإحاطة بالكيان المطلق لله : ” قال له فيلبس : « يا سيد، أرنا الآب و كفانا »“ ع ٨ . هنا تظهر المفارقة بين طموح الإنسان مِن جهة علاقته بالله ، فهو يريد أن يعرف الغير محدود ، وبين العطاء الإلهي غير المحدود تجاه الإنسان الذي أحبه الله و خلقه و يريد أن يكون له شركة في حياة من خلال الإتحاد ببشرية الله الذي ظهر في الجسد . فإذا جاز لنا التشبيه نقول إنها المفارقة بين أم تشتاق أن يتكوَن أبنها في أحشائها لأنها أحبته قبل أن يوجد ، وبين أبن يري نفسه منفصلا عن أمه  و يريد أن يعرف عنها الكثير دون شركة معها . والمفارقة أنه بدون أن يكون جزءاً من لحمها وعظامها فليس له فرصة الوجود من الأساس، بل ولن تكون له فرصة ليعرف ولو القليل عنها وعن الحياة التي ستكون له من خلالها .

هنا أعاد الرب توجيه فكر الإنسان إلي أن حاجته ليست للمعرفة المجردة عن الله لأنها تفوق طبيعة الإنسان المحدودة . ولكن الحاجة هي إلى دخول مجال حياة الشركة مع الله الواحد وأقانيمه الثلاثة  والتي تكشف عن محبة الله غير المحدودة : ” أني أنا في أبي، وأنتم في ، وأنا فيكم “ ع ٢٠. بهذه الشركة في حياة الله تكون للإنسان حياة حقيقية ، أي خالدة وأبدية لا تنتهي بإنتهاء العمر ” إني أنا حي فأنتم ستحيون “ع ١٩.هذا ما وصفه القديسون بأنه ” تأله الإنسان “ من خلال اتحادنا بالطبيعة البشرية الجديدة للإنسان في المسيح يسوع الإله .

إن هذه الشركة تبدأ منذ الآن بأن يفتح الإنسان قلبه ليَقبَل الإيمان بالرب يسوع  المسيح  أبن الله ، فيرسل الله الآب روحه القدوس ليسكن قلب الإنسان ” إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي ، وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزيا آخر ليمكث معكم إلى الأبد ، روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله ، لأنه لا يراه ولا يعرفه ، وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم ويكون فيكم “ ع ١٥ . عندئذ يحقق الروح القدس للإنسان شركته مع الله الواحد مثلث الأقانيم : ” إن أحبني أحد يحفظ كلامي، ويحبه أبي، وإليه نأتي، وعنده نصنع منزلا “ع ٢٣.

إن حياة الشركة هذه بين الله والإنسان قد بدأها الرب فعلاً وهذا واضح جداً عندما أعلن أن الذين يؤمنون به يكونون إمتداداً له علي الأرض بعد صعوده  إلي السماء ” الحق الحق أقول لكم : من يؤمن بي فالأعمال التي أنا أعملها يعملها هو أيضا ، ويعمل أعظم منها ، لأني ماض إلى أبي . ومهما سألتم باسمي فذلك أفعله ليتمجد الآب بالابن . إن سألتم شيئا باسمي فإني أفعله “ ع ١٢.

إن الله في المسيحية ليس نهاية ربما قد نصل إليها أو لا نصل . أنه البداية و هو الذي يضمن النهاية . لذلك قال ” أنا هو البداية و النهاية ، الأول والآخر “ .    وقد أكد أنه الضامن والضمان لمصيرنا السعيد معه قائلا ” انا امضي لأعد لكم مكانا وآخذكم اليَّ … حيث أكون أنا تكونون أنتم ايضا . وتعلمون حيث اذهب وتعلمون الطريق“ ع ٣ . فلما تساءل توما “ياسيد لسنا نعلم اين تذهب فكيف نقدر ان نعرف الطريق“ ع ٥ ، قال له يسوع “انا هو الطريق والحق والحياة …الذي رآني فقد رأي الآب .. أنا في أبي وابي فىَّ “ ع ٦. هذا التصريح من الرب جعل البداية في الرب والطريق معه والنهاية السعيدة معه أكيدة طالما نحن في المسيح . لذلك بدأ حديثه بطمأنتنا   “ لاتضطرب قلوبكم ، انتم تؤمنون بالله فآمنوا بي “.  ثم ختم حديثه  ”سلاما أترك لكم . سلامي أعطيكم . ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا . لا تضطرب قلوبكم ولا ترهب “ ع ٢٧.

والسبح لله .

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

يوحنا١٤: بين التراكم المعرفي، وبين حياة الشركة 1
[ + مقالات ]