لا يوجد كائن من كان، لا جماعة ولا تنظيم ولا نخبة قادر على هدم مؤسساتنا أبدًا، وأهمها مؤسسة الفساد، ففي أي جهة حكومية تزورها، ستجد الفساد ضاربًا بجذوره التاريخية المؤسسية المقدسة في أعماق تلك الجهة بأقسامها وقطاعاتها ودواليبها وأدراجها المفتوحة دائمًا، التي مهما امتلأت من مال المواطنين الراشين تقول “هل من مزيد؟”.
ولا جدوى أن يبدأ أي إصلاح أو تطوير هيكلي أو مؤسسي في أروقة الحكومة من القاعدة ولا من القلب ولا حتى من الرأس، بل يجب أن يبدأ من رأس الرأس!
أحيانا أشعر أن مصر أكبر بكثير جدا من أن يتولى رئاسة وزاراتها شخص واحد أو شخصين! لا أعرف لماذا! هل رئاسة الحكومة المصرية تحتاج لـ5 نواب لرئيس الوزراء مثلا؟ الله أعلم، لكن ما المانع؟ التكاليف؟
أعتقد أن سعر جناح طائرة مدنية واحدة مما تشتريه سنويًا مصر للطيران مثلًا، يغطى مصاريفهم سنوات وسنوات للأمام.
ما أعرفه هو أن أكثر أشخاص قادرون على حل مشاكل أي مؤسسة هم سكان تلك المؤسسة، هم الذين يعرفون شعابها ومسالكها وثغراتها والثقوب التي يتسرب منها الماء إلى أرضية سفينتهم الغارقة عاما بعد عام.
لذا فأول مهام أي وزير هي الاجتماع بالكثير من الناس في وزارته وليس فقط وكلاءه أو رؤساء القطاعات (الذين غالبا يعيشون في عالم خاص بهم) لبحث جميع مشاكل تلك المؤسسة وطرح كل الحلول الممكنة لعلاجها بل وتنميتها وتطويرها سريعًا، لكن الشـيء الوحيد الذي يسيطر على تفكير أي موظف مصري صغر أم كبر لعلاج مشاكل منظمته هو “زيادة الأجور”. كل تفكيره منحصـر ومحصور بهذه النقطة فقط.
طبعا نقطة مهمة جدًا، لكن ليس جوهر الحياة ولا الهدف الأسمى في الوجود هو “كيف تستطيع أن تقبض خمسة آلاف جنيهًا شهريًا، وتنصرف الساعة الثانية ظهرًا، كما يحلم كل موظف حكومي مصري شاب! ولا أيضا في استعجال الانصراف بأي ثمن قبل موعد مدفع الإفطار بـ 6 ساعات، ولا في انتظار إجازة الـ 8 أيام متتالية في عيد الأضحى بكل لهفة! جوهر الحياة والهدف الأسمى في الوجود ليس أيضًا في كيف تجد موطئ قدم لابنك أو ابن أخيك في نفس شركتك الحكومية. جوهر الحياة وهدفها الأسمى في أن تجعل لحياتك وحياة من حولك أفضل، فتسعد أنت وهم.
خد عندك مثلًا، كادر للأطباء، ظل يتمدد حتى شمل أطباء الأسنان فالأطباء البيطريين، ثم الصيادلة، ثم الممرضات، ثم أخيرًا فنيّ الأشعة! لكن ما الذي يعود على المريض؟
خد عندك أيضا، كادر للمعلمين، ظل يتمدد بعدها هو الآخر ليشمل الأخصائيين الاجتماعيين. لكن ما الذي عاد على التلاميذ؟
أين المستشفيات؟ أين المستلزمات الطبية؟ أين الأدوية؟ أين الأجهزة الطبية؟ أين الأسرة؟ أين التعقيم؟ أين الإسعاف؟ أين…؟ لا يوجد. المهم “أجور” الناس! وليحترق المرضى وذويهم في 70 داهية!
أين المدارس؟ أو الفصول؟ أين الكراسي؟ أين الحمامات؟ ووسائل مواصلات للتلاميذ صباحًا؟ أين حصص الرياضة والهوايات؟ أين مراكز التقوية؟ أين أجهزة الكمبيوتر؟ أين المناهج؟ لا يوجد. المهم “أجور” الناس! وليحترق التلاميذ وذويهم في 80 داهية!
كل ما يهم هو الكادر والنقود، التي أن زادت للضعف لم يختلف عطاء الموظف في أي شيء! وظل يشكو بعدها أيضًا! والحكومة تعلم ذلك. ولن تفعل شيئًا، لأنها لن تقدر، وإن قامت بشيء سيكون بحدود الـ10% سنويًا (التي تساوي في المتوسط 70 أو 80 جنيه “عمي” لا يسمنوا ولا يغنوا من جوع) وبعد قليل سيسخط هذا الموظف الشكاء على تلك الحكومة العظيمة، وهذا الشكاء هو كيان قوامه 4 مليون موظف، يلعنونها ويدعون عليها ويطالب برحيلها الفوري!
إن لم نبحث جديًا ونحصر مشاكل كل وزارة مع صغار موظفيها قبل كبارها، الذين إن لم يرضخوا ويتنازلوا ويتكرموا بوضع أفكار وحلول ابتكارية أو حتى تقليدية لمشاكل مؤسساتهم بعيدًا عن “الأجور” و”الكادرات”، وبعيدًا عن تعيين “الغلابة” و”اللي بيجروا على غلابة”، وبعيدًا عن “الانتقام من فلان وفلانة”، وبعيدًا عن البحث عن “تركيب تكييف في مكتبنا” في كل مكان ومنذ قديم الأزل. فسيظل القطاع العام والقطاع الحكومي بكل فساده وعفنه وبطئه وقذارته كما هو.
وما لم يوضع المواطن واحتياجاته وطلباته في المقدمة ويأخذها كاملة وبشكل مرضي، وما لم يفكر الموظفون الحكوميون المصـريون -قبل الوزراء- في كيفية تحقيق ذلك وسريعًا، فسيبقى أيضًا الوضع على ما هو عليه.
ولن تزيد الأجور، ولن يتم تعيين حمادة، ولا ابن عمه عمرو. ولن يتم تركيب تكييف في مكتب شئون العاملين. ولن… ولن…
وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟