المقال رقم 3 من 5 في سلسلة التأريخ في ضوء ما بعد الحداثة

أبقت ما بعد الحداثة على المادية الجدلية كأحد أعمدتها، وعليه فما بعد الحداثة تسعى أن تتجنب بشتّى الطرُق أستخدام “علامات التوقُّف” stop signs أي كلمات دورها أن تُنهي سلسلة الأسئلة.

مثلًا: حينما تتجوّل في مَتحف مع صَديق فتَسأله عن شيء ما في أحد التماثيل، فيُجيبك: it is how it is، “إنها كما هي”، لا تصلُح هذه الإجابة في أي منهجيّة البحث. تدعو ما بعد الحداثة لتجنُّب هذه اللغة إذ تعمل فقط كعلامة ينتهي عندها السّؤال.

أما أطروحة الماديّة الجدلية فهي أن لكل شيء مادّي: سبب، ولكل سبب: مُسبِّب، ولكل مُسبِّب: مُسبِّب،، وهكذا.

الأمر أشبه بيوم  تخرُج فيه مع طفلك فتجِد شوارع مدينتك مُبتلة، فيتسائل الطفل: “لماذا ابتلّت الشّوارع؟” فتُجيب: “بسبب المطر!”، فيسألك: “من أين جاء المطر؟” فتُجيب: “من السّحُب!” فيسألك: “ومن أين جاءت السّحُب؟”، إلخ.

هكذا العلم، أمّا العقل الذي يعتاد إخماد البحث وراء الأسباب فهو عقل كسول، لا يُقدِّر قيمة البحث حتّى وإن ادّعى غير ذلك. هو كمان يسأله طفله: “من أين جاء المطر؟” فيُجيب: “لا يُهمّ” أو “سانتا كلوز فعلها!”.

عادة ما لا يستخدم الكاتِب المُحترف علامة التّوقُّف بهذه المُباشرة، ولكن عليك كقارئ أن تجدها وأن تُدرك إشكاليّاتها.

حينما تقرأ مقالًا في الاقتصاد ويعتمد الكاتِب على مصدرٍ غير معلوم لك كقارئ ولا يُمكنك التأكُّد منه أو فحصه فهذه علامة توقُّف.

حينما تُناقش شخصًا في موضوعٍ ما فيُحيلك إلى شعوره بدلًا من أن يُحيلك إلى شيء قابل للتّعاطي معه وتحليله فهذه علامة توقُّف.

حينما يُحدِّثك مقال علمي عن الإنفجار الكبير كعلّة أولى بها بدأ الزّمن، فبهذا يمنعك من أن تسأل ماذا كان “قبل” الانفجار الكبير، وهذه أيضًا علامة توقُّف.

نقيض الماديّة الجدليّة هو الميتافيزيقا،. فيما تُناقش الماديّة الجدليّة الظّاهرة بكونها حلقة في دائرة السّبب والمُسبَّب، تناقش الميتافيزيقا الظاهرة بمعزل عن المُحيط، بعيدًا عن الأسباب التي أنتجت الظّاهرة [1]. تظهَر أبعاد القراءة الميتافيزيقيّة للظواهر في مُناقشة تاريخ الفكر الديني، وأيضاً تظهر معها علامات التوقُّف. فحينما تسأل عن بداية حركة دينية دائماً ما يُردّ الأمر لموقف ذاتي بالكامل لمؤسِّس الحركة، أيّ يتمّ إعتباره ظاهرة مُنقطعة عن المُحيط الذي نشأت فيه وغير مدفوعة بظروفهِ وطبيعته، فتصير الظّاهرة نُقطة توقُّف غير قابلة للتّخطِّي وللتّساؤل عن مُسبباتها، كما يقول راكيتوف: الميتافيزيقا لا ترى إمكانيّة ظهور ما هو جديد. [2]

لكن تذكّر أن الشّخص نفسه قد يستخدم الماديّة الجدليّة أحيانًا والميتافيزيقا أحيانا أخرى، فكثيرًا ما تجِد من يتقبّلون النّشوء والارتقاء بيولوجيًا ثم يرتدّون للميتافيزيقا في الحديث عن الوعي بكونهِ مُفارقاً للتطوُّر البيولوجي.

الأمر عينه في التّاريخ، فنجِد الكثيرين يُطبّقون رؤية الماديّة الجدليّة طالما لم تتصادم مع ما يعتقدون فيه شخصيّاً. لذا فدورك كقارئ أن تفحص ما يكمُن وراء قِراءة المؤرّخ من فرضيّات، لا أن تقبل تَصوُّره النّهائي وتتبنّاه باعتباره “الحقيقة”.

هوامش ومصادر:
  1. Anatoliĭ Ilʹich Rakitov, and H. Campbell Creighton, The Principles of philosophy. Progress, 1989, p. 35 [🡁]
  2. ibid. [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: التأريخ في ضوء ما بعد الحداثة[الجزء السابق] 🠼 [٢] التجريب[الجزء التالي] 🠼 [٤] البنيويّة: “العلامة”
جون إدوارد
[ + مقالات ]