في مُحاولة قراءة المصادر التاريخية التي وصلتنا منذ أكثر من ألفيّ عام عن “مملكة إسرائيل”، لابد أن نضع في الاعتبار أنها لم تكن تكتب تاريخًا بحتًا. كانت عناصر السياسة واللاهوت لا تنفصل عن عملية التأريخ، وما نقوم به حاليًا من فصل بين ما هو تاريخ وما هو سياسة وما هو لاهوت، لم يكن موجودًا في العصور التي كُتب فيها التناخ. في الكتاب الذي تقرأ فيه التأريخ، أنت تقرأ في نفس الوقت أسطورة، وفي الوقت الذي تقرأ فيه اللاهوت، أنت تقرأ في نفس الوقت سياسة.(مايكل لويس، سلسلة: “تكوين التوراة“)
التناخ: هو الكتاب المقدّس العبريّ، ويطلق علي مجموعة الأسفار التي قبلها اليهود كنصوص مقدسة، وتشمل البنتاتوخ [التوراة]، والنبيّيم [الأنبياء]، والكتوبيم [الكتابات]. وهذه الأسفار موجودة بين يديّ أي مسيحي بوصفها: العهد القديم، وتشكّل النصف الأول من كتابه المقدّس.
مجال هذه الورقة ليس كل كتب التناخ، بل الكتب التي تصف الأحداث ذات الصلة، والتي تُسجّل نشأة وتطور وسقوط نظام الحكم الملكي في إسرائيل، والتحديات التي مرّت بها عبر ملوكها وتأريخاتهم الدينية المنحصرة في أسفار: القضاة، وصموئيل، وأخبار الملوك، وأخبار الأيام. قد نحتاج إلى الاستشهاد بأيٍّ من أسفار التناخ مرجعًا لأي من التفصيلات، لكن الدراسة في شقها السياسي تركّز على صعود وسقوط نظام الحكم الملكي المنحصر فيما ذكرنا من مصادر.
يعتقد المؤمنون بوحوية هذه الكتب، أن كاتب أسفار صموئيل وأخبار الملوك هو كاتب واحد وهو النبي صموئيل. هذا الاعتقاد "بحاجة لمصدر"، والأرجح تاريخيًا أنه اعتقاد خاطئ، فالكتبة والمُحررون عدّة، ويدوّنون في زمن لاحق على الأحداث بثلاث إلى سبع قرون.
ما قبل النظام الملكي
بمقتضى الكتابات العبرانية، لم يعرف بنو إسرائيل في بداياتهم نظامًا للحكم سوى النظام الأبوي. فالمملكة والشعب قصتهما تبدأ بـ “أب” لأثني عشر ابنًا وابنة واحدة. كان اسمه بالميلاد “يعقوب”، ثم تغير اسمه إلى “إسرائيل”.
مصدرنا الوحيد لأحداث الجزء القادم هو العهد القديم للكتاب المقدس. لذلك، لا يستطيع المؤرخون اعتمادها كأحداث مؤكدة لعدم وجود مصادر خارجية تدعمها. لكننا نسردها كتمهيد وتوضيح للخلفية الاجتماعية في عصور ما قبل التاريخ.
البنات لا مكان لهن في الحكم الأسري في هذا العصر، أما بالنسبة للأبناء الذكور فقد كان لهم نظام عائلي يعطي الابن الأكبر [البكري] سلطة حكم مميزة على إخوته، تعادل قوة السلطة الأبوية في الصلاحيات. وهذه السلطة لا تُكتسب بالميلاد، ولا يُمَكّن البكر منها بوفاة الأب تلقائيًا. بل لها مراسيم وطقوس خاصة تتم في شيخوخة الأب، ومبنية على وضع اليد اليمنى من الأب، على رأس الابن البكر، ومباركته، وإعلان استحقاقه للقيادة، وعُرف هذا باسم: “حق البكورية”.
هذه السلطة الأسرية كان لها دورًا فعالًا ومفهومًا في قيادة الأسرة، أو العشيرة والقبيلة بعد ذلك، ولربما تكون هذه المراسم هي الأب الشرعي لعمليات تتويج الملوك لأكبر أبنائهم في الأسر المالكة. كل هذا قول حسن ومعروف، لكن اللافت للنظر أن “البكورية” لم تكن تخضع للقدر كما تبدو عليه من مسماها. فالملاحظ عبر قصص “البنتاتوخ” [التوراة] نكتشف أن “حق البكورية” نادرًا ما يناله الابن البكري فعلاً، فهو يمكن أن يُباع ويُشترى أو أن يتم التنازل عنه، يمكن أيضًا سرقته أو اغتصابه، ويمكن حتى ممارسة الاستغلال لضعف إبصار الأب العجوز وخداعه.
والمسألة هنا لسنا بصدد تقييمها الأخلاقي بل تقييمها السياسي. فمثل هذه السلوكيات الغالبة، والتي قد تراها لا أخلاقية أو حتى غير منظمة لأنها إفساد لنظام السماء التي اختارت من يكون البكر ومن لا يكون، هي أيضًا التي تعطي الأمل لمن وُلد متأخرًا أن يصير القائد. وفق الواقع التطبيقي، شكّلت هذه الانتهاكات الأخلاقية ما يمكن اعتباره تمكينًا للأذكى، أو الأغنى، أو الأقوى، أو الأمكر، حتى وإن لم يكن بكرًا. ويمكن اعتبار قسوتها بمثابة آليات طبيعية لاستبعاد الأغبى، الأقل مسؤولية، الأفقر، الأضعف، الأتعس، من مكانة القيادة حتى لو وُلد بكرًا. وعلى هذا، يمكننا القول إن نظام “حق البكورية” لم يكن يحصل عليه الابن البكر فعليًا إلا بتراضي بقية الإخوة، أما غير الراضين فأمامهم عمرًا لإثبات قدراتهم [بشكلها البدائي] إن كان أحدهم يرى نفسه الأصلح.
هذه النظرة قد تمكننا من فهم مسألة الصراع على المُلك بين أخوين، أو قتال الابن لأبيه، أو قتل الأب لابنه في مرحلة أبعد. والأمر نفسه يمكن أن يُقال حول خروج المُلك بالكليّة إلى أسرة مختلفة وسبط مختلف. أيضًا، يجب ألا ننسى حق الأب في اختيار نوعية البركات للأبناء، واختيار من يأخذ حق البكورية أساسًا؛ إذ يمكن للأب تغيير كل القواعد وفقما يشاء.
لنأخذ مثالًا من أسباط إسرائيل
البكورية لمن؟ رأوبين هو أكبر أبناء يعقوب، والمفترض أن يرث أباه يعقوب. لكن هذا لا يحدث. كيف ولماذا؟ ومن الذي نال البكورية إذن؟
في التقليد اليهوي: [والذي كتبه كهنة مملكة يهوذا] نجد رواية عن رأوبين أنه زنا مع بلهة، خادمة راحيل زوجة يعقوب، والأمر له خلفية أكثر تعقيدًا، فزوجة يعقوب لم تكن تنجب، مما دعاها أن تطلب من زوجها أن يدخل على جاريتها “بلهة” كي يقيم له نسلًا، ووافقها يعقوب. وعلى ذلك، فزنا رأوبين مع بلهة يعتبر بمثابة زنا المحارم؛ لأنه ضاجع امرأة أبيه. ومثل هذه الحادثة أطاحت باستحقاق رأوبين لحق البكورية. المفترض أن يمرر حق البكورية للابن التالي؛ شمعون، لكن هذا أيضًا لم يحدث. والتقليد اليهوي يبرر هذا بأن شمعون ولاوي قد دخلا أرض شكيم وذبحا أهلها ونهباها بشكل خسيس [القصة أطول من أن تُحكى، لكنها ذات صلة باغتصاب “دينة” ابنة يعقوب من أمير شكيم، وُضع شرط للصلح والزواج: أن يُختتن كل ذكور شكيم. وفيما هم متوجعون، تم الغدر بهم وقُتل كل ذكر وسُبيت كل أنثى ونُهبت كل أرض شكيم]، وعلى هذا خرج شمعون أيضًا من “حق البكورية” وتم التمرير للابن التالي، لاوي، والذي كان مشتركًا مع شمعون في المذبحة، فيمرر حق البكورية مرة رابعة للابن التالي. إلى من؟ يهوذا بالطبع! فكاتب التقليد اليهوي هم كهنة مملكة يهوذا. [1].
في التقليد الإيلوهيمي: [والذي مصدره كهنة مملكة إسرائيل] نجد أن حق البكورية لم ينله أحد من أبناء يعقوب نهائيًا، إنما مُرر لأحفاد يعقوب بشكل مباشر. الرواية ذات صلة بأرض مصر وحدثت في مصر حين ارتحل يعقوب وأبناؤه إلى يوسف وسكنوا في أرض جاسان. يذهب يوسف لأبيه يعقوب وهو على فراش الموت، ويقدم له -بناءً على طلب مسبق من يعقوب- ابنيه الاثنين: منسّى وإفرايم، وكلاهما مصري، وُلد في مصر، من أم مصرية، بنت كاهن أون: أسنات بنت فوطي فارع. تفاصيل الرواية تقول إن يوسف وضع ابنه الأكبر؛ منسّى، على يمين يعقوب، ووضع أفرايم على يساره، لكن يعقوب يعكس يديه ويضع اليد اليمنى، والتي تمثّل حق البكورية، على رأس إفرايم؛ الأخ الأصغر، ويضع اليد اليسرى على رأس منسّى؛ بكر يوسف. يعترض يوسف ويقول لأبيه أن يصحح وضع يديه؛ لأن منسّى هو البكر، لكن يعقوب يخبره أنه يعلم ماذا يفعل ويُصر على أن تكون البكورية للحفيد الأصغر؛ إفرايم، المصري الأصل والمولد وحفيد كاهن أون، [أون: هي “عين شمس” حاليًا] [2].
يعتقد أغلب المؤمنين بأن أسباط إسرائيل هم ١٢ سبطًا موزعين على ١٢ ابنًا ليعقوب، وهذا الاعتقاد خاطئ طبقا للتناخ الذي يحدد أنهم ١٣ سبطًا موزعين على ١١ ابنًا، وحفيدين ليعقوب.
م | الابن | الأم | المصدر لإثبات النسب | السبط |
1 | رأوبين | ليئة | [3] | سبط رأوبين |
2 | شمعون | ليئة | [4] | سبط شمعون |
3 | لاوي | ليئة | [5] | سبط لاوي |
4 | يهوذا | ليئة | [6] | سبط يهوذا |
5 | دان | بلهة | [7] | سبط دان |
6 | نفتالي | بلهة | [8] | سبط نفتالي |
7 | جاد | زلفة | [9] | سبط جاد |
8 | أشير | زلفة | [10] | سبط أشير |
9 | يساكر | ليئة | [11] | سبط ياساكر |
10 | زبولون | ليئة | [12] | سبط زبولون |
11 12 | يوسف | راحيل | [13] | سبط إفرايم |
سبط منسى | ||||
13 | بنيامين | راحيل | [14] | سبط بنيامين |
لماذا زاد العدد إلى ١٣ سبطًا؟ لأن الابن الذي عاش أغلب عمره في مصر، يوسف، أحبّ مصر وفضّلها على موطنه، وصار اسم يوسف: “صفنات فعنيح” وسمى أحد أبنائة “منسّى” لأن الرب أنساه إسرائيل، فاستثناه أباه يعقوب من حمل اسمه، وبدلًا منه طلب أن يأخذ الحفيدين المصريين: إفرايم ومنسّى، عوضًا عنه [15].
لماذا قلَّ العدد في مواضع أخرى إلى ١٢ سبطًا إذن؟ حسابيًا لم يقل، الأسباط دائمًا ١٣ ولكلٍّ ذريته. الإشكالية الرقمية تأتي أنه لا يتم حساب سبط لاوي [الذي يمثّل الكهنة] ضمن الشعب. هذا السبط محيّر وله استثناءات خاصة، وكُتبت فرضيات عدة لتفسير هذه الاستثناءات، فهو لا يتملَّك أرضًا ولا يعمل عملًا سوى الخدمة الدينية، والتي تستلزم منه أن يتواجد في محيط إقامة كل الأسباط الاثني عشر المتبقية. وفي المقابل، يحصل على نسبة من التقدمات والذبائح.
يمكنك أن تنظر للأمر كواقع فرضته مقتضيات وطبيعة الكهنوت، لكن الأمر يخلو في شقّه السياسي من مسألة الفصل بين السلطات مثلًا، فمهنة الكاهن متداخلة مع نظام الحكم ويمكنها أن تصير ملكًا للمملكة أو تتداخل فعليًا كحكومة أو مستشار وأحيانًا كمعارضة، أي أنها تملك سلطة الحكم الزمني بالإضافة إلى السلطة الدينية. مع العلم أنه لم يكن ممنوعًا من تملك الأرض سوى الجير، وهي لفظة تطلق على المغتربين الذين لديهم تصريح إقامة أو “أجانب” بمصطلحات العصر. فلماذا يُعامَل سبط لاوي معاملةَ المقيم أو الزائر الأجنبي المغترب؟
يرى بعض المؤرخين أن حَدَث "الخروج من أرض مصر" حدث بسيط تم تضخيمه، وأن كل شعب إسرائيل لم يكن في مصر بل جماعة صغيرة منهم هي التي كانت، وهَرَبَت، بينما بقيّة شعب إسرائيل كانت في أراضيها بشكل طبيعي، والجماعة الذين كانوا في مصر هم من أصبحوا فيما بعد معروفين باسم سبط لاوي. وهذا يفسّر حمل شخصيات هذا السبط لأسماء مصرية وليست عبرية. ويفسّر عدم تملًكهم للأراضي في إسرائيل لأنهم "متمصّرون". ويظل مثل هذا الرأي [المِهنيً] برتبة "فرضيًة" تقدّم أفضل تفسير ممكن، لكن دون تأكيدات قوية على حدوثه.
بدايات نشأة المملكة
بدأ بعد عصر النبي موسى عصرًا جديدًا يسمى بـ “عصر القُضاة”، والكتاب الذي يتكلم عن هذا العصر هو ضمن النبييم [الأنبياء] ويحمل نفس الاسم: “سفر القُضاة”، لكنه يأتي من زمن متأخر عن الفترة التي يسجلها. القضاء كان قضاءً شرعيًا دينيًا يُصدر الأحكام بسلطة الحق الإلهي. خضوع أصحاب النزاع للقضاء يأتي من خضوعهم الديني، وإيمانهم بتواصل القاضي مع السماء قبل إصدار الحكم، هذا يعني أن القضاة كانوا بمثابة أنبياء صغار. ومن هنا أتى إدراج السفر ضمن مجموع النبييم.
سيتطور النظام القضائي بمعزل عن السلطة السياسية، ولكن من دون التخلي عن السلطة الدينية. ويشكّل بعد ذلك كُتب الهالاخاه، وهي مجموعات من الكتب تتباين مذهبيًا لتشكّل مجتمعةً: المجموع الشرعي للأحكام المستنبطة من الشريعة. وهذا يخرج بنا بعيدًا عن الشق السياسي، وسنكتفي بتوضيح ملاحظة أننا نلمح في هذا العصر ظهورات ضئيلة لكن متنامية لدور المرأة، إذ نجدها أحيانًا كقاضية أو نبيّة أنثى. فيما بعد، ستحظر الهالاخاه على الإناث دراسة الشريعة أو قراءتها، باعتبارها وظيفة كهنوتية. [16].
آخر القُضاة كان نبيًا اسمه صموئيل، قصته مذكورة ضمن النبييم في كتاب يحمل اسمه: “سفر صموئيل”، ويحدث في أواخر هذه الحِقْبَة أن تطلب قبائل إسرائيل، المنحدرة من نسل النبي يعقوب، أن يكون لهم ملكًا كبقية الأُمم بدلًا من نظام القُضاة الشرعيين، فيتم مسح أول ملك لإسرائيل وهو الملك شاول. [“طالوت” في القصص القرآني]
مملكة شاول
كان شاول من سبط بنيامين، هو أول ملوك إسرائيل، ومسحه النبي صموئيل ملكًا على إسرائيل. وبالرغم من أن عصر القُضاة كان قد انتهى، إلا أن دور رجال الدين [الكهنة والأنبياء] كان مستمرًا.
لفظة "مسحه ملكًا" هي لفظة ذات طبيعة كهنوتية، تعبّر عن الشعيرة الدينية التي تناظر "تتويج الملك"، وذلك بمسحه بالزيت المقدّس، ويُسمى الممسوح ملكًا: "مسيح الرب". وعلى هذا، يطلق التناخ اسم "مسيح" على أربع شخصيات لأربعة ملوك حكموا مملكة إسرائيل قبل ميلاد "يسوع"، ومن ثمّ يمكن تفهم انتظارهم للـ"مسيح" [ماشيح - ماسايّاه] بمعنى انتظارهم لملك [حاكم] وليس نبيًا.
قوّة المملكة كانت تُستمد من دعم رؤساء الأسباط ورؤساء الكهنة والأنبياء. الملك يحتاج دعم رؤساء الأسباط لأن الجيش كان يتكوّن من كتائب الأسباط، ومن دون دعم رؤساء الأسباط لن يكون هناك جيشًا. وكان الملك يحتاج دعم الكهنة والأنبياء لأن الدين وقتئذ ﻻ ينفصل عن الحياة العامة كأداة حكم وتنظيم لمصالح الشعب ونزاعاتهم، مما كان السبب في تنصيب الملك داود من بعد الملك شاول. اختلف شاول مع صموئيل النبي والكاهن الذي مسحه ملكًا، وكانت النهاية أن صموئيل مسح ملك آخر، هذه المرة من سبط يهوذا، وهو الملك داود.
كان داود أحد أعضاء حاشية الملك شاول وكان زوجًا لابنته ميكال. رأى شاول أن داود يهدد مُلكه، وحاول أن يقتل كل الكهنة المؤيدين لداود واستطاع ذلك. ظلّ شاول ملكًا إلى أن مات في معركة ضد الفلسطينيين [17]، وبعده انقسمت المملكة بين داود الذي كان يحكم نصف المملكة الجنوبي [مملكة يهوذا]، وبين إيشبوشت [إشبعل] ابن شاول، والذي حكم نصف المملكة الشمالي [مملكة إسرائيل]. فيما بعد، تم اغتيال إشبعل وهو نائم [18]، وتم تنصيب داود ملكًا على كل شعب إسرائيل في مملكة واحدة عاصمتها أورشليم. [مملكة إسرائيل الكبرى، والمُختلف تاريخيًا على وجودها]
نكرر: السردية التاريخية والسياسية التي سردناها اﻵن، ليست مدوّنة سوى في مصادر مُتأخرة عن زمن الأحداث نفسها بحوالي ثلاث إلى أربع قرون، ومُستقاة من مصدر واحد؛ عبراني، وعلى هذا فنحن أمام وجهة نظر الشعب العبراني في تاريخه، أو ربما في لاهوته أو آماله أو تطلُعاته، بأكثر مما نحن أمام وقائع محققة تاريخيًا، أو ماضٍ مُوثّق بالشكل الأكاديمي للتوثيق التاريخي.
مملكة داود [إسرائيل الكبرى]
عندما أصبح داود ملكًا على كل الشعب العبراني، قام ببضعة إنجازات سياسية مميزة:
نقل العاصمة من حبرون [عاصمة مملكة يهوذا] إلى أورشليم [19]، وأورشليم وقتها لم تكن تابعة لأيّ من أسباط بني إسرائيل بل استولى عليها الملك داود وجعلها العاصمة الجديدة، وعلى هذا، ولكونها غير تابعة لأي من الأسباط فهو بذلك لم يُهن / يرفع من شأن سبط على حساب سبط آخر. ويشكل عام فسياسة الملك داود كانت تعتمد على التوازنات داخليًا والتوسّعات خارجيًا.
أورشليم أصبحت العاصمة السياسية، ولجعلها العاصمة الدينية بشكل مركزي، نُقل إليها تابوت العهد، الذي يحتوي لوحيّ الشريعة، واللذان يُعتقد أن زمنيهما يرجع لعصر النبي موسى نفسه. ولكون أورشليم عاصمة دينية جديدة، فهذا يعني الاحتياج لرؤساء كهنة جدد. اختار الملك داود كاهنًا من الشمال وآخر من الجنوب كي يكونا رؤساء كهنة في أورشليم، ونفس الأمر يمكن أن يقال عن توازنات داود بين الجانبين وعدم الأفضلية بينهما. كاهن الشمال [أبياثار] كان يُعتقد أنه من عائلة النبي موسى، وكاهن الجنوب [صادوق] كان يُعتقد أنه من نسل هارون الكاهن. وبذلك يكون التوافق الذي أحدثه الملك داود في اختيار الكاهنين ليس فقط مسألة توازنات، إنما أيضا تقديم نوعٍ من الاحترام والمكانة لعائلتين متأصلتين من سبط ﻻوي، هما: عائلة النبي موسى، وعائلة هارون الكاهن.
كان الملك داود مزواجًا من بنات الأمم [20]، مغامراته الجنسية تخطت القفز فوق أسطح المنازل وتصل للإطاحة بالنصوص الدينية التي تحذر من اشتهاء “امرأة قريبك”. فهو اشتهى وزنى ودبر لقتل زوج عشيقته بثشبع، بالإضافة لكثرة زيجاته من أجنبيات، أدت إلى توبيخات دينية من السماء، لكن جميعها لا يتخطى التأنيب الودود لمرحلة “السماء تعاقب الملك” كما في حالة موسى عندما كسر لوحي العهد مثلًا. تبدو بوضوح انحيازات “يهوة” لداود الذي يكسر ويحطم كل تراث أصولي وكل موروث ثقافي واجتماعي. فهو الملك الذي يرقص عاريًا ويحرّض الشعب على الرقص والغناء ويخلق من الجمال دينًا بطيء التأثير ذي خطوات واثقة.
تَقَلُّبَات داود وتَخَبُّطَاته ونجاحاته وإخفاقاته دُوِّنَت في كتاب خاص ضمن مجموعة الكتوبيم، ويحمل اسمه: “مزامير داود” [الزَّابُور في الإسلام]، وهو عمل ذاتي أدبيّ بامتياز، تَبْرُز فيه قدرات وأحاسيس الجانب الإنساني من “الملك العربيد” عندما يجلس منعزلًا في خلوة مع خالقه. يعترف الملك بِكُلِّ خطاياه دون تبرير ودون سبب يجبره على الإفصاح، يبتهج، يغني، يتشاجر مع الله، يكتئب، يعبث، يرقص داود على الأوراق بشكل يدعوك للرقص معه ومشاركته الفرح والألم. وعبر الزمن، تحوَّلت المزامير [والتي كتب بعضها شعراء غير داود] إلى نمط شعبي مُرَتَّل، في لغته الأصلية كان يُلَحَّن ويُنشَد، خاصةً أنه في بعض أجزائه يقترب من أدب الملاحم. هذا الكتاب رغم ترجمته لكل لغات العالم، لا يفقد جَرَسَه الموسيقي الخَلَّاب بأي لغة. رهبان مصر [الأقباط] يَتَرَنَّمون بنصوصه سبع مرات كل يوم في مواقيت محددة تسمى: صلوات السَّوَاعي.
المُلاحظ في التناخ أن خطايا داود مُعترفٌ بها، لكن مَن يُعاقَب على خطايا الملك هو الشعب، لا الملك ذاته. أوبئة، مجاعات، وهزائم حرب، كلها دُوّنت كعقوبات إلهية على خطايا الملك، والقصة هنا وإن بدت لنا عجيبة وغير عادلة، لكنها في ثقافة عصرها كانت مقبولة جدًا في تفسير وجود الشر والألم طبقا لمبدأ “العدالة الجزائية”، فكل الشرور سببها الملك وأخطائه التي يعاقب عليها الشعب من يهوه المُؤدِب العادل. ربما يكون يهوه قاسيًا بعقاب شعب بكامله على خطايا أحد أفراده، لكن يهوه لا يخطئ.
في كل كُتب التناخ، لا يوجد نص ديني واحد عن البعث أو الحياة الأخروية. لذلك، كانت العقوبات الإلهية عن الخطايا الدينية تتم على الأرض وليس في يوم الحساب. وعلى هذا، كان يتم تأويل "معضلة الشر" على أنها عقاب عادل من إله قاسٍ يفتقر لمبدأ "شخصية العقاب"، ويعاقب عقابًا جماعيًا بالهزائم في المعارك، أو بالأوبئة، أو الكوارث الطبيعية، نتيجة خطيئة فردية، ولا بأس أن يُعاقب الأبناء عن ذنوب الآباء وحتى الجيل الثالث والرابع من الأحفاد [21]. ومثل هذه الأفكار لها توظيف سياسي في مجتمعات البداوة العشائرية لحث أفرادها على التدخل في شؤون الآخرين بشكل وصائي [يجب أن أمنعك من الخطأ كيلا يغضب الإله ونعاقب جميعًا]، مما يساعد على قمع الأخطاء من المحيطين، ومن ثمّ التنظيم الاجتماعي، وهو يُعتبر مسوغًا إضافيًا مقبولًا لمعاقبة قرية أو مدينة بأكملها في الحروب أيضًا. فلا قيمة ولا وزن للأفراد إلا من خلال الجماعة.
إن لم تقتنع تمامًا، فالسياسة أكثر إقناعًا. داود ببساطة كان ناجحًا جدًا في صناعة مكتسبات مما قد تراه لا أخلاقيًا. زيجاته الأممية وتنافس نساء الشعوب على مغامراتٍ معه أو طفلٍ منه، قد أدّت بشكل غير مسبوق لتحسين علاقاته بالأمم والشعوب الأخرى التي صاهرها. الكهنة الذين لديهم نصوص في تحريم الزواج بالأجنبيات صمتوا عن الملك داود بسبب الجيش. جيش الملك داود لم يعد معتمدًا بالكليّة على كتائب الأسباط، لكنه ضمّ كتائب أممية نتيجة زيجاته من هذه الأمم [22]، وعلى هذه الأوضاع، أصبح لداود جيش أممي متعدد الجنسيات، مستقل، يدين له بالولاء، من غير اعتماد على كتائب الأسباط، ومع الوقت، ومع نجاح حكم داود، استطاع بهذا الجيش أن يغزو ويضم لمملكته أراض جديدة مثل أدوم وموآب.
تسمى المملكة في عصر الملك داود "مملكة إسرائيل الكبرى" لأنها بلغت أكبر مساحة لها في عهد الملك داود، حيث كانت تمتد "من نهر العريش في مصر [ليس نهر النيل]، إلى نهر الفرات". عادةً ما يتم التوظيف العسكري والسياسي لهذه المملكة في العصر الحديث، بالارتكاز على نصوص دينية سابقة تقدم وعودًا إلهية بمملكة إسرائيل الكبرى من نهر مصر إلى نهر الفرات، وذلك لغرض التجييش والتعبئة العامة للمؤمنين بوحوّية هذه النصوص. ترتكب كل هذه التوظيفات إشكالية أصولية بتأويل "مملكة إسرائيل الكبرى" باعتبارها "وعدًا مستقبليًا"، وليس "حدثًا تاريخيًا".
أكبر أبناء داود كان يُدعى “أمنون”، والذي كان من المفترض أن يكون وريث أبيه الشرعي في حكم المملكة. لكن ما حدث أن أمنون اغتصب أخته غير الشقيقة “تامار”، وكنتيجة لذلك، انتقم لها أخوها الشقيق، أبشالوم، بقتل أمنون [23]. فيما بعد، يتمرد أبشالوم على حكم أبيه داود، ويستعين بتأييد الأسباط التي قلَّ الاعتماد عليها، ويُكوّن جيشًا ويخرج لمقاتلة أبيه وجيشه الأممي في ساحة الحرب، وفي النهاية ينتصر جيش داود ويُقتل أبشالوم.
في نهاية حكم داود، عندما صار كهلًا على فراش الموت، حدث أن تنازع اثنان من أبنائه على اعتلاء عرش المملكة، وهما: أدونيا وسليمان. أدونيا كان أكبر أبناء داود، لكن سليمان كان ابن بتشابع [بثشبع] زوجة داود المُفضلة. كان في جانب أدونيا بعض الأُمراء ورؤساء الأسباط، بالإضافة إلى أبياثار؛ رئيس كهنة الشمال، والذي قد يكون من نسل موسى. أما سليمان فكان يدعمه النبي ناثان وأُمه بتشابع، واللذان لهما تأثير كبير على داود، وبالتالي الجيش، بالإضافة إلى صادوق؛ رئيس كهنة الجنوب، والذي يُعتقد أنه من نسل هارون. بات النزاع بينهما يُهدد بانقسام المملكة، لكن كنتيجة نهائية؛ أصبح سليمان في النهاية هو الملك دون حرب. وبعد موت داود واعتلاء سليمان عرش المملكة، أمر بقتل أخيه أدونيا، ونفي أبياثار الكاهن لمدينة عناتوت [24].
مملكة سليمان
كان الملك سليمان مزواجًا أمميًا أكثر من أبيه، الملك داود، حتى فاقه شهرة في عدد الزوجات، لكن أشهر ما كُتب عن سليمان هو بناء المعبد الأول في أورشليم، الذي عرف فيما بعد باسم: معبد سليمان [ليس هيكل سليمان]. ولم يكتسب المعبد شهرته نتيجة ضخامته، إذ بالنهاية لا يدخله إلا الكهنة، لكن ما جعله مميزًا هو المعنى الذي يمثّله: حضور الإله “يهوه” في وسط شعبه.
للدين هندسة بناء معمارية. فكان معبد سليمان ينقسم لقسمين: القدس، وقُدس الأقداس [الهيكل]. قُدس الأقداس أو هيكل معبد سليمان هو بناء مُكعب، كل أضلاعه متساوية، وتم وضع تابوت العهد فيه تحت حراسة الشيروبيم الذهبي.
الشيروبيم [شاروبيم Cherubim] هو جمع لكلمة شيروب Cherub، وهم طبقة من الملائكة لا تتداخل مع البشر، ومهمتها تنحصر في حمل العرش الإلهي. يتعامل المسيحيون المعاصرون مع الشيروبيم على أنهم جزء من الملائكة، فيتصورونه في لوحاتهم كأطفال أو رجال مجنّحة، كتصور البشر عن شكل الملائكة. لكن هذا التصور الفني المعاصر برسم الملائكة على شبه إنسان ذي أجنحة هو أمر استقر بداية من العصور الوسطى والفن [المسيحي] السائد في عصر النهضة، والمختلف كليًا عن كل تصورات الإنسان البدائي، الذي اعتاد وصف الكائنات الخارقة على شكل حيوان ما، يُشكّل الصفة المُراد إبرازها. الحيوان الخارق قد يكون بالأغلب ذي رأس إنسان، وذي أجنحة.
لم ير أحد كيف نحت الفنان اليهودي البدائي تصوره للشيروب، ولا حتى اليهود أنفسهم، ولا كهنتهم المحظور عليهم دخول قُدس الأقداس [يدخله رئيس الكهنة مرة في العام، مقيدًا بالسلاسل من ساقيه، حتى إن مات بالداخل يسحبونه دون دخول الهيكل المحظور]، وأقرب تصور للشيروب اليهودي المنحوت كتمثال ذهبي، أنه كائن أسطوري شبيه بأبي الهول في مصر، أو كاريبو، أو لاماسو، أو الثور المجنح في بلاد آشور وما بين النهرين.
كان هناك شيروب عن يمين التابوت وآخر عن يساره، كلاهما باسطان الأجنحة فوق التابوت حيث يتلامسان. الشيروبيم، مثل أبو الهول في مصر أو الثور المجنح في بابل، لم يكونا إلهًا أو نصفي إله أو يرمزان لإله، لكن كان يتم وضعهما لحراسة المعابد أو ما شابه. في حالة الشيروبيم الذهبي فإنهما كانا يمثلان عرش الله أو حضوره في الهيكل [قدس الأقداس].
كان حكم سليمان مستقرًا، لكنه كان يميّز بين الجانبين الشمالي والجنوبي من المملكة. مقاطعة سبط يهوذا [الجنوب] كان لها مكانة مميزة عن باقي مقاطعات أسباط بني إسرائيل. لم تكن الضرائب في هذا العصر مالية، لكن الضريبة كانت تقدم كعمل مجاني للمملكة. كل مُقاطعة أو سبط كان يعمل في المملكة لمدة شهر، إلا سبط يهوذا، كان معفيًا من الخدمة العامة، لذا تكونت نظرة سلبية تجاهه من مقاطعات الجانب الشمالي من المملكة [تضم عشرة أسباط من بني إسرائيل]، وأسموا الوُكلاء القائمين على تنظيم هذا العمل: “وُكلاء تسخير” [25]. لكن هذه النظرة لم تصل حد الانفصال، وظلت المملكة مُتماسكة ومُوّحدة طيلة فترة حكمه.
بعد موت الملك سليمان، أصبح ابنه رحبعام هو الملك. فذهب لأرض شكيم [ضمن الجانب الشمالي] كي يتم تتويجه. فسألوه إن كان سيستمر على منهج أبيه في التمييز، أم سيخفف عنهم الأحمال التي حمّلها سليمان؟ فأجابهم أنه مستمر في نفس طريق أبيه، فثاروا عليه ورجموا “وكيل السُخرة” الذي عيّنه، وتوّجوا “يربعام بن نباط” من سبط إفرايم ملكًا عليهم.
وهنا، بحسب النظرة العبرانية للتاريخ، أصبح هناك: مملكتان..
المملكتان..
مملكة إسرائيل في الشمال،والتي تضم أراضي ١٠ أسباط: دان، نفتالي، أشير، زبولون، ياساكر، منسّى، جاد، إفرايم، رأوبين.
ومملكة يهوذا في الجنوب، والتي تضم أراضي سبطين: يهوذا وبنيامين.
مملكة إسرائيل عاصمتها شكيم [السامرة] في أرض إفرايم، وملكها: يربعام بن ناباط.
ومملكة يهوذا عاصمتها أورشليم في أقصى شمال أرض يهوذا، وملكها: رحبعام بن سليمان.
وقت انقسام المملكة هو أواخر القرن العاشر قبل الميلاد، [تقريبًا سنة 933 قبل الميلاد]. ومن بعد هذا التاريخ بقليل يبدأ ظهور تقاطعات ما بين السردية الكتابية وبين المصادر الخارجية من الأركيولوجي. بعض المؤرخين يعتقدون أن هذه كانت البداية الحقيقية للشعب العبراني وأنه لم تكن هناك مملكة موحدة يومًا، لكن ما يعنينا أن السردية بدأت من الأصل بمملكتين متجاورتين، وظلتا هكذا لمدة قرنين تقريبًا حتى عام 722 قبل الميلاد.
لم تكن أورشليم [القدس] ضمن مملكة إسرائيل. استدعى ذلك مملكة إسرائيل إلى القيام بعمليات إحلال للعاصمة السياسية والدينية أورشليم، وما تمثّله وجدانيًا من معتقدات دينية لليهود. لذلك، صنعت مملكة إسرائيل عجولًا ذهبية [الكلمة الأدق هي ثور مجنّح – لاماسو] ليكون جزءًا بديلًا مناظرًا للشيروب الذهبي، في تصوّر أكثر تعقيدًا لعملية الإحلال.
إن ما نراه في النصوص المقدسة في التناخ اليهودي [العهد القديم] أو حتى القرآن الكريم، من نقد ومهاجمة وغضب ديني على إسرائيل، هو أصداء الغضب الصادر من أنبياء مملكة يهوذا على عبادة العجل الذهبي في إسرائيل، وهو فعليًا ليس أمرًا دينيًا صرفًا كما تبدو عليه النصوص المقدسة، بل مهاجمة سياسية لبيت إيل التي تحوي أحد تماثيل اللاماسو الذهبية، لذا نجد الخطاب يأتي تحقيريًا بوصف اللاماسو بالعجل أو البقرة، بينما هو “ثور”، وأيضًا يأتي بصيغة المفرد: قد زنخ عجلك يا سامرة
[26]، بينما في الحقيقة التاريخية فهما اثنان: واحد في “بيت إيل” أقصى الجنوب، والآخر في مدينة “دان” أقصى الشمال.
والصورة الفنية [الدينية / الوجدانية] من ذلك هي أن مملكة إسرائيل قد لا تستطيع تكرار بديلٍ لتابوت العهد وقُدس الأقداس الموجودين في هيكل معبد سليمان بأورشليم الواقعة خارج مملكتهم وفي مملكة يهوذا. ولا يستطيعون صناعة دين جديد يخالف دين أبيهم يعقوب [إسرائيل] بالكليّة، لكن مملكة إسرائيل صنعت تصورًا دينيًا وطاقمًا كهنوتيًا بديلًا، اختار ملك إسرائيل الكهنة من العامة وليس من سبط لاوي الكهنوتي. وربما صاغ ذلك بمنظور إصلاحي مثلما فعل مارتن لوثر الذي ألغى الكهنوت بجعل الكل على رتبة كاهن. عادةً، تلقى هذه القرارات تأييدًا شعبيًا من عوام الإسرائيليين الذين ارتقوا إلى الكهنوت بقرار ملكي. لكن أيضًا كنتيجة، غَضِب كهنة مملكة يهوذا، بل والكهنة [اللاويين] عمومًا، الذين حُقّرت وضاعت وظيفتهم، ولا مهنة لهم هكذا سوى التسوّل من باقي الأسباط وعاشوا كلاجئين.
فالقصة ليست ثورًا أو عجلًا ذهبيًا، وثنيًا، كما نعتقد [أو كما نقل كهنة مملكة يهوذا لنا المشهد برؤية دينية نعتقد ألا سياسة فيها]، فهذا التصور الساذج عن: إسرائيليون يعبدون عجلًا أو بقرة، لن يتبعه أي طفل إسرائيلي يحفظ الوصايا العشر التي تُحرم ذلك قطعًا. لقد قدمت مملكة إسرائيل منظورًا ثوريًا جديدًا لنفس الإله ونفس الدين ونفس الطقوس، وكان منظورًا عظيمًا ناظر وماثل وربما تفوق على هيكل سليمان الأسطوري، بصناعة أُسطورة أكثر عمقًا.
لقد كان على يربعام؛ ملك إسرائيل، أن يُضفي على العجول الذهبية بعدًا وجدانيًا يخلق للأسطورة توظيفًا ومعنى. زوجا الشيروبيم الذهبيين كانا يحيطان تابوت العهد في قُدس الأقداس، باعتباره عرش مُلك يهوه، بينما زوجا اللاماسو الذهبيين كان أحدهما في “دان” أقصى الشمال، والآخر في “بيت إيل” أقصى الجنوب. إنهما يحيطان بمملكة إسرائيل إذن. وعلى هذا، إن اعتليت جبل جرزيم [27] ونظرت إلى هندسة البناء الديني لمملكة إسرائيل الجديدة، ستراها تحوي تصويرًا فنيًا مناظرًا لهيكل معبد سليمان، يضع أرض “مملكة إسرائيل” مكان تابوت العهد بين الحارسين الذهبيين. والمعنى الوجداني هنا أن عرش مُلك يهوه قد اتسع ليحتوي مملكة إسرائيل، بين زوجي اللاماسو، كما كان تابوت العهد بين زوجي الشيروبيم.
على هذا النحو والوصف والمعنى: لم تصنع إسرائيل بديلًا مستحيلًا لتابوت العهد، بل أعادت تقديم ذاتها على أنها: هي العهد.
المكمّلات قد تكون أهم: فقد صارت “مملكة إسرائيل” هي: عرش مُلك يهوه. وأضحت أرض إسرائيل: هيكلًا للرب. وصار الإسرائيليون العوام والحرافيش والزعر: كهنة للرب. وأمست الأغاني الحماسية: ترنيمًا للرب. هل تخلع نعليك على باب المسجد أو الكنيسة أو المعبد؟ اخلع نعليك الآن على أبواب مملكة إسرائيل إذن، فأنت تخطو على الأرض المقدسة. وتلك صورة أقوى، وأعمق تأثيرًا في النفوس، ولم تكلّف سوى زوج عجول لاماسو ذهبية.
عجول اللاماسو مثلها مثل الشيروبيم، لم تكن أصنامًا ولا تُقدَّم لها العبادة، وكانت وظيفتها هي استخدام الفن كوسيلة وجدانية للتعبير عن الحراسة وتقديم الامتنان للوديعة الدينية. وكما كان الشيروب تأثرًا فنيًا بالثور المُجنح في بابل، كان اللاماسو تأثرًا بالإله الكنعاني: إيل (El)، الذي كان يتم تصويره بثور.
هذا التشويش والتداخل في الرمز الديني كان له توظيف سياسي مفيد. فكرة أن إله العبرانيين في الشمال [إله إسرائيل] و”إيل” [إله الكنعانيين] متداخلان أو متشابهان أو هما نفس الإله، ونفس لاماسو الثور، قد ساعدت بشكل ما في تأقلم العبرانيين من مملكة إسرائيل مع جيرانهم الكنعانيين. وفكرة أن شعبًا ما يقدم آلهته باعتبارها نفس آلهة الشعوب المجاورة بشكل عام، هي فكرة تعكس سعيًا للدمج والاندماج مع الشعوب المجاورة. وربما تكون هذه النظرة أكثر وضوحًا مع الحضارات والثقافات الأكبر والأضخم مثل علاقة اليونان بالرومان، والتي تحوي بالضرورة أفكارًا دينية أن كل رمز أو إله له نظير عند الشعب الآخر، مثل زيوس ونظيره چوبيتر، وغيرهم.
تساعد أفكار الآلهة المتناظرة أو المتماثلة أو حتى الأفكار الأعمق مثل توحيد الإله الواحد في أديان مختلفة [مثل "الله" في الأديان الإبراهيمية، والإسلام بالأخص] على تعزيز الثقة بصحة العقيدة الذاتية (لزيادة مساحة معتنقيها ولو بالشبه وبالخطأ وبالتحريف) وأيضًا تعزيز مسألة قبول الآخر (فالآخرين الذين يعبدون نفس آلهتنا، هم شبهنا، هم مثلنا، هم: "نحن"). ووفقًا لنظرية "نسق المعتقد" لعالم الاجتماع: ميلتون روكيتش (1960): إنّ التناظر أو التماثل أو التطابق بين المعتقدات يحدد مواقف الجماعة من الجماعات الأخرى بشكل كبير، فكل من يشاركنا المعتقد، هم: "نحن"، وكل من يخالف معتقداتنا هم: "الآخرين"، المعادين أو الخصوم.
وعلى هذا، فالمقولة الدينية الشهيرة التي سنها قداسة البابا شنودة الثالث لتكون مفتتحًا لكل عظاته العامة: بسم الإله الواحد الذي نعبده جميعًا
، وإن كانت [لاماسو] ليست دقيقة لاهوتيًا، إلا أن لها توظيفًا سياسيًا واضح الأثر على أقباط مصر، فهي تجعلنا نشعر أننا لسنا أديانًا مختلفة بالكليّة، بل مناظير مختلفة في العادات والتقاليد والشعائر والسنن لنفس الإله الواحد الذي نعبده جميعًا. في العصر الحديث ترعى الدول ذات الشعوب المتعددة الثقافات مثل هذه السياسات والأفكار لمساعدة أخلاقيات التعايش السلمي على النمو، وزيادة مساحات الاختلاط بين شعبين متعاديين أو متخاصمين، خاصة بعد الحروب أو الاحتلال أو الغزو، كي تستطيع الجماعات التأقلم مع الجماعات الأخرى. [مع الحفاظ على الخصوصية الثقافية في نطاق “التنوع والتمايز” الثقافي والاجتماعي]، وعندما لا ترعى الدول مثل هذا، فمن المرجح أن تزداد النزاعات والمشاحنات نتيجة التكتلات والانحيازات الدينية والعقائدية.
على الرغم من ذلك، كانت مملكة يهوذا، الأكثر أرثوذكسية وانغلاقًا، هي الأطول عمرًا والأكثر استقرارًا من مملكة إسرائيل التي سعت إلى الاندماج السلمي بالتماهي مع آلهة مجاورة. إن المرونة في تقليص المسافات مع الكهنوت جعلت المذهب البروتستانتي الإصلاحي ينقسم إلى 1700 فرقة، ومع مملكة إسرائيل الثورية أدت إلى تبدل سريع في الأسر الحاكمة للمملكة، فلم تَدُم أسرة في الحكم جيلين أو ثلاثة حتى يُنتَزع عرش مملكة إسرائيل من أسرة جديدة، ولم لا نحكم نحن وجميعنا متساوون؟ هل ترى أن سبطك أفضل من سبطي حتى تتسيّد وتُملَّك علينا؟ أدى غياب التنظيم الداخلي بالاعتماد على النسق العائلي الأبوي البدائي [عدم تطور نظام الأسباط إلى نمط أكثر احترافية في إدارة الاختلاف وتداول السلطة] إلى انشغال في اختلافات داخلية أضعفت مملكة إسرائيل بالمجمل وفَتَّتَها إلى دويلات صغيرة وهشة يصعب عليها التعاون لتكوين جيش يحميها، في ظل تنامٍ مُعزَّز وتراكمي لقوى أقدم حضارتين ومملكتين مركزيتين عرفهما العالم: مملكة آشور شمالًا، والمملكة المصرية جنوبًا.
المملكة التي صارت مملكتين، وبعد قرنين من مملكتين متجاورتين، متخاصمتين حينا ومتعاديتين أحيانًا، [كُتب خلالهما أسفار العهد القديم] سقطت منهما مملكة إسرائيل بالكليّة وانهارت تحت غزو مملكة آشور، أسياد المنطقة الشمالية، وأصحاب أقدم حضارة عرفها العالم، بينما ظلت مملكة يهوذا باقية، يفصلها عن السقوط قرن إضافي من الزمان، ويفصلها عن مملكة مصر، أسياد المنطقة الجنوبية، شريط ساحلي من سكان فلسطين.
الشريط الحدودي العازل المشار إليه يماثل شريط "غزّة" حاليًا، وقد ظهر "أهل غزّة" في الكتابات المصرية القديمة باسم "قوم البلاست"، ومنها Palestine الإنجليزية بمعنى القوم الـ"بالست"ـيين، وهم ليسوا أحفاد "جليات" الفلسطيني ["جالوت" في القرآن] بل قوم صديق للمصريين الذين وطّنوهم في هذه المنطقة لحماية الحدود الشمالية الشرقية لمصر، وليسوا عربًا. ومملكة مصر القديمة لا تطيق العرب بالمجمل ولا رعاة الغنم بالخصوص، ويرونهم: رجس، وقد سجّلت كتب التناخ كل هذا، لكنه يخرج عن نطاق هذه الورقة.
يصف التناخ المشهد النهائي لسقوط مملكة إسرائيل على يد مملكة آشور في نبوءة من سطر واحد:
ويضرب الرب شعب إسرائيل فيهتزون كالقصب في الماء، ويستأصِلَهم من هذه الأرض الصالحة التي أعطاها لآباءهم ويبددهم إلى عبر الفرات(سفر الملوك الأوّل ١٤ :١٥)
سقطت مملكة إسرائيل وبقيت مملكة يهوذا، وخلال المئة عام الأخيرة في عمر مملكة يهوذا، ظلّت تقدم الدعم والمأوى لبقايا النازحين الأحياء من إسرائيل. وبعد أن كان أنبياء مملكة يهوذا، الأكثر أصالة واستقامة، يتهكمون، ويغضبون، ويتعصبون لقرنين كاملين من: اللاماسو، عجل السامرة، الذي كان عمره أقصر من نظيره الشيروبيم: ملائكة حراسة عرش مُلك يهوه، التي طارت بأجنحتها من التقليد البابلي إلى التقليد اليهوي لتستقر في بناء لا يدخله أحد، واحتجبت عن البشر فاستعصت علينا في الرؤية، والتفتيش، والفحص، والنقد، والتحقق العقائدي.