المقال رقم 7 من 7 في سلسلة لماذا يعادي العرب إسرائيل؟
كثيرة هي الأسئلة التي طرحناها في هذه السلسلة، لكن كثيرة هي الأسئلة التي نهرب منها.. نحاول ههنا في المقال الختامي، مواجهة أنفسنا والقارئ بأربع أسئلة محددة: ما هي أحقيّة إسرائيل في تلك المنطقة؟ هل احتلت إسرائيل فلسطين؟ هل يُكسب التأخير شرعيّة للاحتلال؟ هل إسرائيل بريئة من الانتهاكات الإنسانية؟

 

لمن الأحقية في تلك المنطقة؟

اختلفت الآراء وتضاربت الأقاويل حول أحقية الإسرائيليون في تلك المنطقة، لكن أقدم الإشارات التي دُوّنت عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي كانت دينيّة تمامًا.

داود وجالوتالقصّة وردت في موسى، وهي نفس القصة التي وردت في القرآن الكريم. عندما أورد الكتابان الأقدسان قصة النبي داود وخصمه جالوت [بحسب القرآن] أو جِلياط [بحسب التوراة]، والتي نصر الله فيها عبده داود [اليهودي] على غريمه [الفلسطيني] وانتهت القصة الدينية بانتصار شعب الله اليهودي، وإقامة مملكة يهودية استمرت لعدة قرون، حكم فيها اليهود أنفسهم تحت نظام المملكة الموحدة التي أسسها ال [“” في القرآن].

خريطة المملكتين: يهوذا وإسرائيلخلف ال سلفه شاول على عرش مملكة بني إسرائيل، وبعده ابنه، ال، ومن بعد سليمان انقسمت المملكة إلى مملكتين، الشمالية وعاصمتها السامرة، و الجنوبية وعاصمتها أورشليم، ولم يدم الحكم الذاتي طويلًا ففي العام 920 ق.م. غزا شيشنق، ملك مصر، مملكة يهوذا واستولى عليها، وفي العام 740 ق.م. غزا الأشوريين أرض كنعان بالكامل واستولوا على كلا المملكتين المنقسمتين من الجميع.

معركة قرقميشلم يدم حكم الأشوريين طويلًا، إذ أنقلب عليهم البابليون الكلدان واستولوا على مملكة بني إسرائيل بالكامل، ونصبوا عليها الحاكم اليهودي “” أخر ملوك مملكة الجنوب، الذي تظاهر بالولاء للقوة البابلية الجديدة، ثم حاول لاحقًا الانقلاب على حكم البابليين والاستقلال، فهاجمه الملك البابلي الشهير ، وهدم أسوار أورشليم، وساوى بالأرض، وساق من تبقى من اليهود عبيدًا إلى بابل، وهو ما عرف ب الأوّل لليهود.

عاش اليهود في الأسر نحو 50 عامًا حتى أحتل الفرس مملكة بابل، ولاقى اليهود على يد الفرس معاملة حسنة، حتى أن ملكهم الكبير قد سمح لليهود بالعودة إلى أرض المملكة اليهودية وإعادة بناء الهيكل، وغدت مملكة يهوذا ولاية من ولايات الفرس حتى أتى عام 334 ق.م حينما أنتصر الإسكندر الأكبر على الفرس.

بعد وفاة ، حكم بطليموس الأول مصر مؤسسًا دولة البطالمة [البطالسة]، وحكم البطالسة اليهود رغم مقاومتهم العنيفة التي أكرهت بطليموس الأول على هدم أورشليم مرة أخرى، ودكّ أسوارها، وإرسال مئة ألف أسير من اليهود إلى مصر عام 320 ق.م.

المكابينأستوطن اليهود مدينة الإسكندرية، عروس البحر المتوسط التي لُقبت بـ”مدينة الرب”، وأنقسم اليهود بعد هدم أورشليم إلى جزئين: الأول، اتّبع الإغريق [اليونان] وسموا باليهود الإغريق، والجزء الثاني تمسّك بالهويّة اليهودية وسموا بال، نسبة إلى قائدهم يهوذا المكابي، الذي أستقل بأورشليم حتى أحتلهم الرومان بقيادة .

ثم ثار اليهود على الحكم الروماني وحاولوا نيل الاستقلال، فحاصرهم الرومان ودخل تيطس، القائد الروماني، أورشليم عام 70 م. ودمرها بأسوارها مع بقايا الهيكل بالكامل واحرقه، وأخذ اليهود عبيدًا يباعون في شوارع روما.

في عهد ال عام 106 م.، عاد اليهود مرة أخرى لأورشليم، وأخذوا في الإعداد للثورة من جديد بقيادة شمعون بار كوخبا، حتى تولى الإمبراطور عرش روما، وحوّل أورشليم إلى مستعمرة رومانية، وحظر على اليهود ممارسة شعائرهم، وأرسل قواته فاحتلت أورشليم وقهر اليهود وقتل بار كوخبا في العام 135 م.، وذبح 580 ألفًا من اليهود، وتشتت الأحياء منهم في كافة بقاع الأرض، وسمي العصر الأخير: دياسبورا “عصر الشتات”.

يمكن أن نستمر في السردية حتى يومنا هذا نهاية ب، لكن يكفينا هذا الحد للوصول لنتيجة أن اليهود على مدار تاريخهم، لم يتوقفوا عن محاولاتهم المستمرة ونضالهم لاستعادة أراضيهم المغتصبة منذ قرون، وبالتالي يعتبر العالم الغربي على الأقل أن ما فعلته إسرائيل هو تحرير أراضيهم المحتلة التي طردوا منها قبل قرون عدّة.

كمحاولة لاجتناب المعضلة الدينية في بداية السرد، وأنَّ الله قد نصر اليهود على الفلسطينيين في الكتابين الأقدسين لدى المسكونة، لم يفند المتعاطفون مع القضية الفلسطينية تلك المعضلة إﻻ بوسائل إلحادية مثل إنكار ما جاء بالقرآن والتوراة بالكلّية على أساس أنها قصص ديني ﻻ يعتد به تاريخيًا، وفشلت كل هذه المساعي لأن القصص الديني المنعدم المصادر التاريخية ﻻ يتجاوز المملكة الموحدة من عصر شاول إلى عصر سليمان، وكل ما كُتب في هذا المقال منذ الانقسام لمملكتين [إسرائيل ويهوذا] مصدره التاريخ ومن أعداء اليهود ﻻ من حلفائهم، لذا فهو في أعلى مراتب الصحة التاريخية. فالزعم بأسطورية التوراة والقرآن هو محض هراء.

الوسيلة الأخرى لتجنّب المعضلة الدينية كانت بإنكار العلاقة بين الفلسطينيين الذين هزمهم نبي الله داود، والفلسطينيين الحاليين، بالقول بأنهما شعبين مختلفين تمامًا، وهي فرضية لها أدلتها ووجاهتها ﻻ محالة، لكن ما يعنينا هو الشق السياسي من هذا الطرح وأنهم بذلك ينفون أي علاقة بين الشعب الفلسطيني الحالي والأرض المتنازع عليها، ولو وافقناهم هذا الطرح يصبح الشعب اليهودي هو صاحب الحق التاريخي الوحيد في تلك البقعة من الأرض، باعتبارهم أحفاد داود وسليمان، من دون حق تاريخي للفلسطينيين المعاصرين، لانقطاع نسبهم عن فلسطينيو جليات [جالوت] من سكّان البحر المتوسط، والذي تقول الرواية التوراتية بأنه قد تم إبادتهم وفناء ذريتهم.

 

هل احتلت إسرائيل أرض فلسطين؟

قبل الإجابة السريعة بـ”نعم”، فإن إجابة هذا السؤال تفصح عن مفهومك الشخصي للاحتلال وقد تدين آخرين بنفس المعيار. فإن كان الاحتلال هو: سيطرة فعّالة من قبل سلطة على إقليمٍ لا يخضع للسيادة الرسميّة من هذه السلطة، سواء يشمل انتهاك السيادة الفعليّة أو لا يشملها، إذن ستكون إسرائيل دولة احتلال قطعًا، لكن على هذا المقياس أيضًا فأن:

– سوريا دولة احتلال، فقد احتلت سوريا أختها العربية الشقيقة لبنان منذ عام 1976 وحتى عام 2005 أي نحو 29 عامًا، ولم تخرج مظاهرة واحدة تطالب بتحرير الأراضي اللبنانية من المحتل السوري، بل وربما لم يسمع معظم المواطنين العرب بالاحتلال السوري للبنان.

– جمهورية إيران الإسلامية دولة أحتلال، فهي تحتل منطقة إقليم الأهواز، منذ عام 1925، وتمارس تمييزًا دينيًا على مسلمي السنّة في تلك المنطقة، وتحتل الجمهورية الإسلامية، إيران، أيضًا ثلاث جزر إماراتية عربية هم: طنب الكبرى، وطنب الصغرى، وأبو موسى، منذ عام 1972، ولم ينتفض العرب لتحرير الإمارات العربية من المحتل الإسلامي.

– تركيا، عاصمة الخلافة الإسلامية، هي دولة احتلال، إذ تحتل لواء الإسكندرونة السوري منذ عام 1939، أي قبل نشأة إسرائيل، ولم ينتفض العرب يومًا لتحرير الأراضي السورية من قبضة المحتل التركي.

هي منظمة احتلال، ولقد استعرضنا إنها كانت تحتل مناطق من الأردن، وما فعله ال في كمحاولة منه لتحرير أراضيه من المحتل الفلسطيني، ولم يتظاهر العرب لتحرير المملكة الأردنية الهاشمية من المحتل الفلسطيني.

– العراق كانت دولة أحتلال، عندما احتل الشقيقة الصغرى الكويت طمعًا في البترول، هذا الاحتلال الذي تظاهر مصريون وفلسطينيون تأييدًا له، وليس العكس.

– المملكة المصرية في عهد كانت دولة احتلال عندما احتلت أراضي الحجاز ونجد والمدينة المنورة ومكة وجدة، ومع ذلك لا يعتبر السعوديون أخوانهم المصريون أعداء أو محتلين.

– الغزوات العربية [الفتوحات الإسلامية] ستكون قطعًا احتلال، وغزو الأندلس الذي يتباكون اليوم لضياعها، هو حتمًا احتلال، وما فعله الأندلسيون إذن هو تحرير أراضيهم المغتصبة من الاحتلال، في حين فشلت كل الدول الأخري التي أحتلها العرب في تحرير أنفسهم [وفي مقدمتهم مصر] بعد قرون من الثورات والانتفاضات ضد المحتل العربي تكللت جميعها بالفشل، والاحتلال العثماني ومن قبله العباسي والأموي وال تحت مسميات الخلافة الإسلامية.

كل هذا كان أحتلالًا بنفس المعيار الذي نطبقه على إسرائيل.. وإلا فما هو مفهوم الاحتلال من وجهة نظرك؟

 

هل يكتسب الاحتلال، بمرور الوقت، الشرعية؟

قبل الإجابة السريعة بـ”ﻻ” المثالية، فإن إجابة هذا السؤال تخضع أيضًا لمفاهيم شخصية ملتبسة، وقد تفصح أيضا عن إدانة لآخرين بنفس المعيار. كمثال: هل تتابع السنون على الغزو العربي [الفتح الإسلامي] لمصر ينفي عنه صفة الاحتلال ويكسبه شرعية؟ قولًا واحدًا: الإجابة “نعم” قطعًا!

بالرغم أن الاحتلال العربي لمصر كان إحتلالًا بكل ما تعنيه الكلمة من معان، فإنه بعد عدة عقود صار أمرًا واقعًا، وأختلط العربي مع المصري وتزاوجوا وتناسلوا، وصاروا شعبًا واحدًا متعدد الروافد والثقافات، وأيّ حديث عن استمرار عداء المصري المعاصر للعرب هو بالتأكيد محض سخرية مضحكة.

يكتسب الاحتلال الشرعية بمرور الوقت وتتحول العلاقة من علاقة “عداء” إلى علاقة “طبيعية”. تمامًا كما حدث بين مصر وبين الاحتلال الفرنسي والإنجليزي وغيرهم. وعلى هذا، بعد مرور السنون، ستصبح دولة إسرائيل واقعًا مقبولًا، سواء كانت احتلال أو مجرد استرداد لأراضيها المحتلة، لكنه في النهاية سيصبح شرعيًا وأمرًا واقعًا.

إجابة هذا السؤال، تخلق استشكاليه جديدة أكثر أهمية: إذا كانت شرعية الاحتلال تُكتسب بالوقت، وهذا يصب في مصلحة إسرائيل المحتلة لفلسطين، فما المسار الاستراتيجي الذي ينبغي على العرب التوحد والدفع فيه؟ دولة أم دولتين؟ أم ترى أحدا يقبل بفناء الفلسطينيين، أو تهجيرهم، ويعتبر هذا مسارًا مطروحًا، فيهلل لحماس والجهاد التي تعجّل بتصفية القضية الفلسطينية، ثم الانتحار؟!!

 

هل إسرائيل بريئة من الانتهاكات للإنسانية؟

قطعًا لا. إسرائيل دولة مُتهمة بارتكاب العديد من “جرائم الحرب” والانتهاكات التي قد تصنف “جرائم ضد الإنسانية” عبر تاريخها المحتدم بالصراع.. كحال معظم دول العالم، وفي مقدمتها بريطانيا وفرنسا وإيطاليا ومثلها مثل بعض الدول العربية إن لم يكن جميعها.

بلماحإسرائيل دولة استخدمت العنف والدم، وقامت وتأسست على أكتاف المنظمات الصهيونية العسكرية كالبالماخ والهاجاناه والإرجون أو إتسل والشتيرن أو ليحي، مثلها كمثل عصر الإمبراطوريات الدينية المقدسة، الفارسية أو الرومانية أو الامبراطوريات العربية [نُظم الخلافة الإسلامية] تمامًا بل ربما أقل منها عنفًا بمراحل، بل أن المقارنة بين العصابات الصهيونية المنهمكة في بسط النفوذ داخليًا في “منطقتها” والتي تستطيع صياغة تمددها بشكل فيه حماية لحدودها وتأمينها (على الأقل إعلاميًا ودوليًا)، يعد هدفها نبيلًا مقارنة بالغزوات الإسلامية التي في حالة حرب واستعمار توسعي للعالم بأسره. نظرة بسيطة ومعاصرة لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام [داعش] والذي وصلت مخاطره لمصر وليبيا، أو خطر منظمات إرهابية أخرى أو حتى أفراد مثل بن ﻻدن، هددت النصف اﻵخر من كوكب الأرض وفجّرت مبانٍ تجارية عالمية. من سيسمح للإسلام السياسي والجهادي أن يعبر أسيا وأفريقيا ثانية؟ وإن كان لن يسمح فلماذا يسمح للصهاينة، سوى لأن إنتهاكاتهم قومية داخلية ﻻ تستعدي العالم؟

Armenian genocideبطريقة أخرى، حتى ولو اعتبرنا إسرائيل دولة دينية صهيونية، [وهو أمر خلافي حتى بين العرب أنفسهم، ومستبعد تمامًا بالنسبة للأوربيين والغربيين] فما هو وزن مذابحها إذا ما قورنت بمذابح الإمبراطورية العثمانية، والتي كانت تهدف في الأساس إلى احتلال الدول المسالمة، وفي سبيل ذلك اقترفت جرائم يشيب لهولها الولدان، والتي استمرت حتى بداية القرن العشرين، وأشهرها Armenian Genocide (مذابح الإبادة الجماعية للأرمن) التي اقترفتها حكومة تركيا الفتاة في الدولة العثمانية [عاصمة الخلافة الإسلامية وقتئذ] ضد الأقلية الأرمينية المسيحية، وراح ضحيتها ما يقرب من 1.8 مليون ضحية نتيجة التهجير القسري، والإعدامات الجماعية، والاغتصاب، والتعذيب بالموت جوعًا، ومسيرات الموت، ومعسكرات الاعتقال، والحرق الجماعي، ومع ذلك لا يعادي المصريون الأتراك ولا يعتبروهم أعداء، بل ويرفض أغلبهم الاعتراف بمذابح إبادة الأرمن.

ويظل السؤال الأخير مفتوحًا: لماذا يعادي العرب إسرائيل؟

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: لماذا يعادي العرب إسرائيل؟[الجزء السابق] 🠼 (٦) هل نحن نعادي السامية؟
بيشوي القمص
[ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ ٢٠١٧
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [قيصر جديد] ٢٠١٨
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [صراع العروش] ٢٠٢٢
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [العملية ظافر] ٢٠٢٤