إن الكنيسة القبطية هي الكنيسة الوحيدة التي تقدم صلاة تصاحب تقسيم الجسد المقدس في القداس الإلهي وتُسمَّي ”صلاة القسمة“. ثم تأتي الصلاة الربانية في نهاية القسمة ولا تُقال سرًا بل جهرًا كطلب مقدَّم من الجماعة سائلين الرب ”خبزنا الذي للغد أعطنا اليوم..“. فنحن نسأل الرب نعمة التناول من خبز الإفخارستيا.. خبز القيامة.. جسد الرب الذي يقدمه على المذبح.. إنه الخليقة الجديدة للإنسان في المسيح يسوع. الذي بدونه لا تجديد لطبيعتنا البشرية التي ماتت في آدم الأول، ولا دخول إلى حضرة الله.
وكمقدمة للصلاة الربانية في نهاية صلاة القسمة نقول:
لكي بقلب طاهر ونفس مستنيرة ووجه غير مخزي وإيمان بلا رياء ومحبة كاملة ورجاء ثابت، نجسر بدالة بغير خوف أن نطلب إليك يا الله الآب القدوس الذي في السماء ونقول أبانا الذي في السموات …(صلاة القسمة، القداس الإلهي)
وكلمة ”دالة“ في القبطية مأخوذة أصلًا من اليونانية ”Parrhesia“. وقد تكررت كلمة دالة (باريسيا) في العهد الجديد على الأقل 27 مرة، وفي الخولاجي حوالي 14 مرة و تعني: جهارًا/ مجاهرة، صراحة في الكلام، حرية الحديث علانية.
فكلمة دالة تشير إلى معنى الثقة والجرأة -بحضور المسيح بجسده ودمه المقدس معنا- ولأننا أبناء الآب السماوي في يسوع المسيح ربنا. ولأنها استعلان ظاهر لعمل الروح القدس فينا
ثُمَّ بِمَا أَنَّكُمْ أَبْنَاءٌ، أَرْسَلَ اللهُ رُوحَ ابْنِهِ إِلَى قُلُوبِكُمْ صَارِخًا: «يَا أَبَا الآبُ».(رسالة بولس إلى غلاطية 4: 6)
وكلمة أبَّا هي آرامية ينطقها الأطفال في فلسطين لنداء الأب. فالاتحاد بالمسيح في سر الإفخارستيا هو سبب هذه الثقة: وَلاَ نَخْجَلُ مِنْهُ فِي مَجِيئِهِ
(رسالة يوحنا الأولى 2: 28)… وَهذِهِ هِيَ الثِّقَةُ الَّتِي لَنَا عِنْدَهُ: أَنَّهُ إِنْ طَلَبْنَا شَيْئًا حَسَبَ مَشِيئَتِهِ يَسْمَعُ لَنَا.
(رسالة يوحنا الأولى 5: 14).
إن تقسيم الجسد تصاحبه صلاة جهرًا ولا يتم في صمت لأنه إعلان حياة المسيح في موته بقيامته. وطقوس الكنيسة القبطية لا تسمح بلمس جسد الرب ودمه إلا بطريقة كرازية وبقول الكلام الخلاصي المناسب. وهو ما سجله أحد آباء القرن الثالث عشر. فإن الصلاة الربانية تقال بعد القسمة، وهي صلاة إفخارستية من الدرجة الأولى. وقد شاع هذا وأصبح من المؤكد في مصر منذ العلاَّمة القديس أوريجينوس.
وكما قال الرب في صلاته إلى الآب ويكون الجميع واحداً فينا
( إنجيل يوحنا17)، نصلي أيضًا في أحد صلوات القسمة قائلين: وكما أنك واحدٌ في أبيك وروحك القدوس، نتحد نحن بك وأنت فينا، ويَكمُل قولك ”ويكون الجميع واحدًا فينا“. لكي بدالة ندعو الله أباك أبَّاً لنا ونقول بصوت جَهْوَري يا أبانا الذي في السموات.
إن صلاة المسيح في (يوحنا 21:17) نجد تفسيرها وتحقيقها هنا في الإفخارستيا. فتلك الوحدة هي وحدة سرية كيانية، وليست فكرة تتم على مستوى العقل بمعزل عن حضور المسيح في سر الإفخارستيا الذي هو امتداد -لا تكرار- للصليب. هذا يعلنه بذل المسيح لذاته وتقديم شخصه ذبيحة حب ليلة الصليب من وراء الزمن قبل يوم الجمعة، ولكي تبقى ذبيحة الصليب مستمرة فوق الزمن بلا تكرار بل استمرار. وبالتناول من الأسرار المقدسة بإيمان تصبح لنا شركة في مجال حياة الله الواحد الثالوث.
في الإفخارستيا نحن نقدم ذواتنا البشرية على هيئة خبز وخمر للمسيح ابن الله ”الوسيط الوحيد بين الله والناس“ ونطلب منه أن يرسل ويحِّل بروحه القدوس عليها، لكي يحوِّل تلك القرابين لتصير جسدًا مقدسًا له، تمامًا كما هيأ الروح القدس للمسيح جسده الإنساني في أحشاء العذراء: أنت يا سيدنا أرسِل نعمة روحك القدوس، لكي تطهِّر وتنقل هذه القرابين
(سر حلول الروح القدس- قداس غريغوري).
وهكذا أيضًا نعيش وجوديًا وكيانيًا سر التجسد الإلهي، ليس على مستوى الفكرة والذكرى والعقل بل وجوديًا وكيانيًا وحضوريًا في المسيح الحي. إنه امتداد لا تكرار : هوذا حاضرٌ معنا على هذه المائدة عمانوئيل إلهنا
. (صلاة القسمة)
فالمسيح إلهنا هو الذبيحة، وهو أيضًا الكاهن الأعظم والوحيد الذي يقدم ذاته ذبيحة للآب: لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضًا.
فالمسيح حاضرٌ في الإفخارستيا يرشم ويبارك ويقدس القرابين الموضوعة على المذبح: أنت يا سيدنا بصوتك وحدك حوِّل هذين الموضوعين (الخبز والخمر) . أنت الحال (الحاضر) معنا هيِّيء لنا هذه الخدمة المملوءة سرًا
(سر حلول الروح القدس- قداس غريغوري).
فالإفخارستيا هي استحضار لكل أحداث التجسد وتدبير الخلاص. ليس فقط سر التجسد الإلهي والصلب بل ومعمودية المسيح في نهر الأردن عندما قَبِلَ ابن الله الروح القدس في جسد بشريته لأجلنا لكي نتقدس من أجلهم أقدس أنا ذاتي
: أنت يا سيدنا أغرس فينا ذِكر [تذكار] خدمتك المقدسة [معمودية المسيح في الأردن]. أنت أرسل علينا نعمة روحك القدوس
( سر حلول الروح القدس- قداس غريغوري).
نسألك أيها الرب إلهنا نحن الخطاة غير المستحقين.. ليحل روحك القدوس علينا وعلي هذه القرابين الموضوعة ويطهرها وينقلها ويظهرها قدسًا لقديسيك
(صلاة استدعاء الروح القدس- القداس الباسيلي).
إن عمل الروح القدس هنا ليس فقط الاستحالة السرية للخبز والخمر إلى جسد ودم المسيح الإله، وإنما أيضًا يعطي نعمةً للحاضرين، وأيضًا الاستحقاق لتناول الأسرار المقدسة. فليس من يستحق للتناول من جسد الرب ودمه للاتحاد بالرب مهما كانت توبته وجهاده بل استحقاق التناول هو نعمة من الروح القدس.
وتشير صلواتنا الليتورجية إلى هذا الاستحقاق للأسرار الإلهية المقدسة بأنه نعمة الروح القدس فنقول عند نزول مجدك عل أسرارك، تُرفَع عقولنا لمشاهدة جلالك. عند استحالة الخبز والخمر إلى جسدك ودمك تتحول نفوسنا إلى مشاركة مجدك، وتتحد نفوسنا بألوهيتك (صلاة القسمة للقديس كيرلس) .
فحلول الروح القدس على القرابين تجعلها ”قدسًا“، وحلول الروح القدس علينا تجعلنا ”قديسين“. وهكذا تتحقق الشركة بين الله القدوس والقديسين.
وكما كان عمل الروح القدس في إعداد جسد المسيح ببطن العذراء حيث اتحد اللاهوت بالناسوت هكذا في الإفخارستيا. وكما كان قَبُول المسيح للروح القدس في بشريته عند معموديته بنهر الأرْدُنّ لأجلنا هكذا يحل الروح القدس علينا كما على القرابين ويجعلنا قديسين لنستحق التناول والاتحاد بالقدسات. لهذا نصلي قرب ختام القداس ونشير إلى ما تحقق خلال القداس للقرابين ولنا مسبحين: القدسات للقديسين مبارك الرب يسوع المسيح وقدوس الروح القدس آمين.
وعندما نقترب من لحظة التناول من القدسات نتهلل باتحادنا وتألهنا في الجسد المحيي للرب ونصلي في ختام صلاة القسمة قائلين: وكما أنك واحدٌ في أبيك وروحك القدوس، نتحد نحن بك وأنت فينا، ويَكمُل قولك ”ويكون الجميع واحدًا فينا“. لكي بدالة ندعو الله أباك أبَّاً لنا ونقول بصوت جَهْوَري يا أبانا الذي في السموات.
وهكذا تأتي الصلاة الربانية إلى الآب إعلانًا عن كمال تدبير الآب السماوي الذي أرسل الأبن ليهيء الكنيسة ويخلقها من جديد من خلال جسده الإلهي. وقد تمَّم فيها كل خدمته خلال مسيرته على الأرض. وها هي الكنيسة تقدم القرابين للآب ويقبلها الروح القدس لأنها مقدمة في الابن، ليس كأحداث خارجية للذكرى العقلية، بل عمل خلاص ممتد في كياننا لا ينقطع أنت الحال [الحاضر] معنا هيَّيء لنا هذه الخدمة المملوءة سرًا. أنت أغرس فينا ذِكر [تذكار] خدمتك المقدسة.. أنت أرسل علينا نعمة روحك القدوس، لكي تطهر وتنقل هذه القرابين الموضوعة إلى جسد ودم خلاصنا.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟