لا توجد قضية إقليمية ارتبطت بالنظام الدولي وتحولاته مثلما ارتبطت قضية فلسطين، ولا يوجد صراع تأثر بتلك التحولات مثلما تأثر الصراع العربي-الإسرائيلي، ثم الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني.

ويلفت الانتباه ردود الفعل الدولية الراهنة على الحرب في غزة، منذ العملية التي نفذتها ، الجناح العسكري لحركة حماس، و. فقد أعلنت الحكومات الغربية، لاسيما الحكومة الأمريكية وحكومات بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، الدعم المطلق واللا-محدود لإسرائيل في حربها ضد حماس، ولم تكتف حكومات هذه الدول بتقديم الدعم المالي والعسكري والدبلوماسي لإسرائيل، بل أرسلت قوات عسكرية للمنطقة استعدادًا لأي تصعيد محتمل للحرب إذا ما دخلت فصائل أخرى من محور المقاومة أو تورطت دول أخرى في القتال ضد إسرائيل.

وعلى صعيد الرأي العام العالمي، لم نشهد تحركات تتناسب مع حجم الدمار الذي يتعرض له المدنيون في قطاع غزة، وربما كان الصمت هو السمة الغالبة على الرأي العام، الأمر الذي يشجع إسرائيل على التمادي في عدوانها المتواصل، وتكثيف القصف وتحويل غزة إلى خرائب مثلما توعد مسؤولوها، ردًا على هجوم حماس على مستوطنات وبلدات محيطة بالسياج الحدودي في منطقة غلاف غزة. الأمر الذي يشير إلى تحول لافت للنظر ومزعج في موقف الرأي العالمي مقارنة بما كان عليه الوضع في أثناء انتفاضة 1987، انتفاضة أطفال الحجارة، بل ومقارنة بالنجاح الذي حققته منظمات المجتمع المدني العربية والدولية في مؤتمر الأمم المتحدة لمناهضة العنصرية في “دربان” بجنوب إفريقيا في أغسطس عام 2001.

فما الذي حدث ولماذا خسر الشعب الفلسطيني تعاطف العالم؟

من قضية لاجئين إلى قضية تقرير مصير

ظل العالم ينظر لقضية فلسطين منذ حرب عام 1948، كقضية لاجئين، ولم تتغير هذه النظرة إلا بعد نجاح الدبلوماسية المصرية في فرض الاعتراف بقضية فلسطين كقضية شعب يتطلع إلى حق تقرير المصير من خلال وثيقة إطار السلام في ، وهي إحدى وثيقتين وقعها الرئيس ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بحضور الرئيس الأمريكي ، في 17 سبتمبر 1978، في منتجع في الولايات المتحدة.

لقد نصت الوثيقة التي تعد من نصوص اتفاق كامب ديفيد بوضوح إلى: تحقيق علاقة سلام وفقًا لروح المادة 2 من ميثاق الأمم المتحدة، وإجراء مفاوضات في المستقبل بين إسرائيل وأي دولة مجاورة مستعدة للتفاوض بشأن السلام والأمن معها، هما أمر ضروري لتنفيذ جميع البنود والمبادئ في قراري مجلس الأمن رقم 242 و338، الصادرين في أعقاب حرب يونيو 1967 وأكتوبر 1973. ومن المؤسف أن الاتفاقيات التي تم التوصل إليها بين إسرائيل ودول عربية أخرى لم تلتزم بهذا المبدأ، وجرت التسويات بالالتفاف على قرارات الأمم المتحدة.

كذلك نصت الوثيقة بشكل لا لبس فيه على: ضرورة اشتراك مصر وإسرائيل والأردن وممثلو الشعب الفلسطيني في المفاوضات الخاصة بحل المشكلة الفلسطينية بكل جوانبها. وحددت الوثيقة جداول زمنية من أجل نقل السلطة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بموجب قراري مجلس الأمن 242 و338، وتحديدًا في الضفة الغربية وغزة، لممثلين عن الشعب الفلسطيني.

ربما كانت نقطة الضعف في وثيقة إطار السلام في الشرق الأوسط، هي الجزء المتعلق بالفلسطينيين، هو أنها تحدثت عن إنشاء “سلطة حكم ذاتي” في الضفة الغربية وقطاع غزة على أن تتبع لاحقا “بمحادثات الوضع النهائي” لكن الممثل الشرعي للفلسطينيين لم يكن طرفًا في الاتفاق، وهو ما حاول المفاوض المصري تداركه حتى قبل توقيع اتفاقية الإطار من خلال الدعوة لمؤتمر عقد في ديسمبر 1977 في فندق مينا هاوس في الجيزة في القاهرة، دُعيت إليه والمملكة العربية السعودية وسوريا والأردن، لكن هذه الدول لم تحضر، ووُضِع علم منظمة التحرير الفلسطينية في القاعة، مما دفع رئيس الوفد الإسرائيلي “إلياهو بن أليسار” إلى رفض دخول قاعة الاجتماعات بسبب وجود العلم الفلسطيني.

لقد كان الهدف من هذا المؤتمر هو عقد أول مباحثات سلام مباشرة بين الفلسطينيين وإسرائيل، وطرحت الدعوة منظمة التحرير الفلسطينية كعنوان للشعب الفلسطيني، في مواجهة رفض إسرائيل الاعتراف بالمنظمة وتعنتها في مسألة التمثيل الفلسطيني، إلى أن دخلت في مفاوضات سرية معها انتهت بإبرام اتفاق للسلام في أوسلو في 13 سبتمبر عام 1993.

لقد حققت منظمة التحرير الفلسطينية اختراقات دبلوماسية مهمة بعد خروجها من بيروت في عام 1982، على الصعيد الدولي بدعم من مصر والدول العربية والصديقة واكتسبت اعترافًا دوليًا واسعًا نتيجة لقدرتها على مخاطبة الرأي العالمي وتعديل الصورة النمطية عن نضالها من أجل تحرير فلسطين وإقامة دولة فلسطينية لحل للصراع مع إسرائيل، ووظفت انتفاضة الحجارة في ديسمبر 1987 في تقديم وجه جديد من وجوه المقاومة وإدارة الصراع مع إسرائيل. ولم تفقد المنظمة هذا الزخم والمكاسب التي حققتها بموجب اتفاق أوسلو، رغم محدوديتها، حتى بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد الثانية بخصوص قضايا الحل النهائي في عام 2000.

كذلك نجحت المنظمة في تحقيق اختراق للجانب الإسرائيلي من خلال تشجيع بعض الشخصيات التي تحدت قرارًا إسرائيليًا يحظر الاتصال مع منظمة التحرير الفلسطينية واستثمرت في معسكر السلام داخل إسرائيل، ولم تفقد هذا الزخم حتى بعد انطلاق انتفاضة الأقصى رغم أنها كانت انتفاضة مسلحة وتخللتها أعمال عنف مقارنة بانتفاضة الحجارة.

ونجحت المنظمة في تأكيد تمثيلها للشعب الفلسطيني من خلال إنشاء سلطة فلسطينية في غزة وفي رام الله بالضفة الغربية التي تقع في المنطقة (أ) التي تم نقلها بشكل كامل للسلطة، إلى أن حدث الانقسام مع حركة حماس أثر انقلاب لحماس في عام 2006، بعد عام من انتخابات تشريعية في عام 2005، لتبرز من جديد قضية تمثيل الشعب الفلسطيني واستغلال الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لهذا الانقسام لتجميد عملية السلام.

ورغم ذلك أصبح العالم يعترف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وفي مقدمتها حقه في إقامة دولة مستقلة فيما بات يعرف بصيغة “حل الدولتين”. وهو الحل الذي تسعى إسرائيل لتقويضه من خلال التوسع في بناء المستوطنات في الأراضي المحتلة رغم الإدانة الأمريكية والدولية.

في هذه المرحلة لم يكن الموقف الدولي العام من القضية الفلسطينية موقفًا سلبيًا، ونالت منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح تأييدًا واسعًا على المستوى العالمي، وحققت اختراقات مهمة في الولايات المتحدة وعلى الساحة الأوروبية، رغم تكرار المواجهات المسلحة بين فصائل المقاومة الفلسطينية التي تتزعمها حماس. وحظيت المقاومة الفلسطينية بتأييد دولي وتحرك المجتمع الدولي لوضع حد لجموح إسرائيل وإفراطها في استخدام القوة المسلحة، لكن المواقف الدولية بشكل عام لم تكن قوية بما يكفي لفرض تسوية على إسرائيل، ومارست ضغوطًا على الجانب الفلسطيني لتقديم تنازلات، أو وقف التوسع الاستيطاني الإسرائيلي الذي يقوض أساس حل الدولتين.

ولم تكن منظمات المجتمع المدني العالمية ولا قوى السلام و في إسرائيل تملك قوة ضغط تكفي لتعديل التوازن، لكنهم استطاعوا من خلال تحالف دولي واسع لوضع حدود لجموح إسرائيل. لقد رصدنا في مقالين سابقين التغيرات في البيئة الداخلية للصراع على المستوى الفلسطيني وعلى المستوى الإسرائيلي وكذلك التغير في البيئة الإقليمية للصراع، وكيف كان لهذه التغيرات تأثير سلبي على القدرة الفلسطينية والعربية على إدارة الصراع. وكان الرهان على تعديل الموقف الدولي من القضية على نحو يدعم الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، ويظهر الموقف الدولي الراهن لماذا يفتقد هذا الرهان زخمه ولماذا يحظى العدوان الإسرائيلي بمثل هذا الدعم؟

من العنصرية إلى “الحرب على الإرهاب”

اكتسبت القضية الفلسطينية قوة دفع كبيرة بعد حرب أكتوبر 1973، ونجحت الوفود العربية في استصدار القرار رقم 3379، من الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 10 نوفمبر 1975 بأغلبية 72 دولة مقابل 35 وامتناع 32 دولة عن التصويت، باعتبار الصهيونية شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري، ومطالبة الدول بمقاومة الأيديولوجيا الصهيونية باعتبارها خطرًا على الأمن والسلم العالميين.

شكّل هذا القرار رافعة أساسية لدعم الكفاح الفلسطيني على المستوى الدولي، ومنح المقاومة الفلسطينية مشروعية قانونية باعتبارها حركة للكفاح من أجل التحرير الوطني وتقرير المصير. وظلت الولايات المتحدة تحاول -بضغوط من اللوبي الإسرائيلي- تحاول إبطال هذا القرار، إلى أن تمكنت من تحقيق ذلك في عام 1991 بعد حرب الخليج الثانية، وفي إطار التحضير لمؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط، ونجحت في استبدال القرار المذكور بالقرار رقم 8646 الصادر في 16 ديسمبر 1991، بأغلبية 111 دولة، ضد 25 دولة، وامتناع 13 دولة عن التصويت، فيما تغيبت 17 دولة عن الحضور.

نص القرار الجديد على “نبذ” الحكم الوارد في القرار رقم 3379. وكان هذا القرار ثمرة لجهود بذلتها أمريكا من خلال حملة استهدفت الدول التي أيدت القرار وممارسة الضغط السياسي والاقتصادي بانتظار الظروف المناسبة للمطالبة بالإلغاء، وقوبل إلغاء القرار بحملة مضادة بمشاركة من الدول العربية والمنظمات غير الحكومية الغربية والحقوقية، ونجحت هذه الحملة في استصدار قرار بضرورة إعادة الاعتبار للقرار 3379، خلال مؤتمر “ديربان” لمناهضة العنصرية الذي عُقد في جنوب إفريقيا، في أول سبتمبر 2001، الأمر الذي دفع الوفدين الرسميين الأمريكي والإسرائيلي إلى الانسحاب من المؤتمر.

واستند هذا الموقف إلى ظروف موضوعية وتوافر إرادة سياسية رسمية وأدوات شعبية مُحرِّكة وفاعلة، من خلال حشد المنظمات غير الحكومية المشاركة في مؤتمر “دربان” لصالح إعادة الاعتبار للقرار. لكن هجمات 11 سبتمبر مكنت القوى الغربية من استعادة زمام المبادرة من خلال وضع القضية الفلسطينية في سياق “الحرب على الإرهاب” الذي أصبح الشعار المهيمن على السياسة الخارجية الأمريكية والإسرائيلية، ساعدها على ذلك اختزال المقاومة الفلسطينية في حركة حماس وفي الفصائل الإسلامية مثل الجهاد الإسلامي. وسعت إسرائيل إلى استثمار الموقف العالمي من الحرب على الإرهاب ومن الحرب التي شنها تحالف دولي تقوده الولايات المتحدة ضد الدولة الإسلامية في العراق والشام في الفترة بين عامي 2016 و2017.

وكمثال على استغلال إسرائيل لهذه الحرب نشر الصحفي والمحاضر الإسرائيلي “آدي شفارتز” تقريرًا موجزًا في معهد ميسجاف للأمن القومي والصهيونية الذي يديره “مائير بن شبات”، المستشار الأمني السابق لرئيس الوزراء ورئيس الشاباك الأسبق، بعنوان “دروس مستفادة لإسرائيل في حربها في غزة من حرب القوى الغربية على داعش”، أشار فيه إلى أن التحالف الذي يقوده الغرب لمحاربة داعش في العراق وسوريا. وركز بشكل خاص على وصف وزير الدفاع الأمريكي السابق للقتال ضد داعش في معقلهم في الموصل بالعراق بأنها “حرب إبادة”، مشيرًا إلى أن الدمار الذي لحق بالموصل هو الأعنف منذ ويشبه تدمير مدينة درسدن في ألمانيا على أيدي الحلفاء، ويشير إلى أن الأمم المتحدة قدرت أن أكثر من 80 بالمائة من المباني في الموصل لم يعد صالحا للسكنى. ودعم شفارتز بصور للدمار في الموصل ومدينة الرقة في سوريا وهي معقل آخر لداعش لتطبيع العقل الغربي على مشاهد الدمار التي يراها الآن في غزة.

بالتأكيد هناك خلاف بين تنظيم الدولة الإسلامية، داعش، وبين المقاومة الفلسطينية التي تمارس حقا مشروعًا في مقاومة الاحتلال الذي يفرض حصارًا مميتًا على قطاع غزة، والذي يواصل سياساته العدوانية ضد الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس. وهو ما أكده الأمين العام للأمم المتحدة في تصريحاته في مجلس الأمن يوم الثلاثاء والتي أثارت غضبًا إسرائيليًا وهجومًا من القوى الغربية الداعمة لها، والتي أفشلت محاولة ثانية لإصدار قرار لوقف إطلاق النار، الأمر الذي شجع إسرائيل الواقعة تحت ضغط كبير من أسر الأسرى في غزة إلى تكثيف ضرباتها الجوية والصاروخية للقطاع على نحو يزيد من الغضب لدى الشعوب العربية، في محاولة لتحقيق أكبر دمار ممكن لقطاع غزة وتغيير ملامحه الجغرافية قبل أن تتصاعد ضغوط الرأي العام الداخلي والخارجي عليها لوقف إطلاق النار، بعد أن تأكد لديها استحالة القضاء على حماس أو على قدرتها العسكرية واستحالة تحقيق حلمها بتهجير الفلسطينيين من القطاع، وفداحة ثمن التدخل البري في القطاع، أو إعادة احتلاله.

إن الموقف المشين الذي تتخذه القوى الدولية التي كان من المفترض تمارس دورها المعهود في كبح جماح إسرائيل ووضع حد لانتهاكاتها الصارخة للقانون الدولي الإنساني ولبروتوكولات جنيف الخاصة بمعاملة المدنيين في أثناء الصراعات. إن هذا الموقف وكذلك غياب الأصوات المنددة بالعدوان الإسرائيلي من قبل المنظمات غير الحكومية الدولية، أحد ملامح التغيرات الكبيرة في بنية النظام الدولي التي تتطلب تحليلًا أكثر عمقا للوقوف على أسباب هذا التحول وكيفية تغييره.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

أشرف راضي

أشرف راضي

[ + مقالات ]