في الخامس من يونيو من العام 67، شنت إسرائيل حرب غاشمة على مصر، سميت بحرب الأيام الستة. كانت هزيمة نكراء لمصر وللوطن العربي لقبها عبد الناصر بالـنكسة
محاولًا التقليل من تأثيرها وللتغطية على حالة التردي التي شابت الأوضاع السياسية في مصر بعدما تحولت البلاد إلى ضيعة خاصة له ولصديقه عبد الحكيم عامر، وكانت الهزيمة هي النتيجة المتوقعة.
احتلت إٍسرائيل قطعة من أرض مصر لحوالي سبع سنوات بينما احتلت فرنسا منطقة قناة السويس لحوالي سبع عقود بدأت من عام 1854، وامتاز الاحتلال الفرنسي بكونه: احتلالًا بالقانون.
الاحتلال الفرنسي لمصر
تعود بداية التأسيس للاحتلال بالقانون عندما أقنع “فرديناند دليسبس” الخديوي محمد سعيد باشا، والي مصر، بإصدار فرمان / عقد امتياز قناة السويس لصالح الشركة الفرنسية لقناة السويس، لحفر وتشغيل القناة لمدة 99 عاما بشروط مجحفة لمصر والمصريين، وبعدها تؤول ملكية القناة للحكومة المصرية. كانت أهم شروطه أن تتنازل الحكومة المصرية للشركة الفرنسية مجانًا عن جميع الأراضي المملوكة لها والمطلوبة لإنشاء قناة السويس وترعة الإسماعيلية، أما الشرط الأكثر إذلالًا للمصريين هو أن يكون 80% من العمال من المصريين بالسخرة، وفي المقابل تحصل مصر على 15% من صافي الأرباح مقابل الأراضي والامتيازات الممنوحة للشركة.
بدأ حفر القناة في عام 1859 وانتهى بعد عشر سنوات في عام 1869، بعرض 190 مترًا، وعمق 58 قدمًا، واستخراج 74 مليون متر مكعب من الرمال عن طريق نحو مليون مصري، وذلك في وقت كان عدد سكان مصر أقل من 4 ملايين. أخلفت الشركة الفرنسية وعدها بتوفير وسائل متطورة في الحفر لتخفيض النفقات، وأُكره العمال المصريون على العمل في ظروف قاسية معتمدين فقط على سواعدهم وعلى الفأس والقفّة، ثم نقضت الشركة وعدها ثانية بحفر قناة ماء عذب لمد العمال بمياه الشرب، ولقى أكثر من 120 ألف عامل حتفهم نتيجة شدة العطش والانهيارات الرملية، والأوبئة مثل الكوليرا والجدري والسل، والإجهاد والمعاملة السيئة، ومعظمهم لم يستدل على جثمانه ودُفن في الصحراء أو غرقًا تحت مياه القناة أو الردم، حتى أمم عبد الناصر القناة عام 1956، وفي المقابل شنت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل الحرب على مصر فيما عرف بالعدوان الثلاثي.
الاحتلال البريطاني لمصر
احتلت بريطانيا العظمى جميع أنحاء المملكة المصرية بِرُمَّتها وسيطرت عليها سيطرة تامة لحوالي سبع عقود، بدءًا من العام 1882 بعدما قصف الأسطول البريطاني مدينة الإسكندرية لمدة ثلاث أيام حتى دُمرت بالكامل وسوّيت بالأرض، ثم خاض جنود عرابي معركة التل الكبير في 13 سبتمبر 1882 وانتهت بهزيمة الجيش المصري واحتلال مصر بالكامل.
خلال تلك المدّة، كان لبريطانيا العظمى اليد العليا في البلاد إلى حد أنها كانت تقرر حرفيًا من يحكم مصر، بدءًا من رئيس الحكومة وحتى الملك ذاته، حتى أنها هددت الملك فاروق، أخر ملوك مصر، بالخلع في 4 فبراير 42 إن لم يستجب لرغبة المفوض السامي البريطاني سير مايلز لامبسون بتشكيل وزارة يرأسها مصطفى النحاس، ولما رفض فاروق الامتثال لأوامر لامبسون، حاصرت القوات البريطانية قصر عابدين بالدبابات لإجبار فاروق عن التنازل عن العرش، حتى تراجع فاروق وخضع لأوامر لامبسون.
أما عن الانتهاكات ضد الشعب المصري فلا تعد ولا تحصى، أشهرها على الإطلاق مذبحة دنشواي، حيث تطور الأمر بين خمسة ضباط إنجليز وبعض الفلاحين المصريين أدى إلى مقتل عدد من المصريين بالنار بينهم امرأة، ووفاة ضابطٍ بريطاني بضربة شمس. كان رد فعل المعتمد البريطاني اللورد كرومر قاسيًا جدًا وسريعًا، فقد أقام محكمةً عرفيةً عقدت أولى جلساتها في 24 يونيو بعد تحقيقٍ دام أحد عشر يومًا فقط، وقدّم 92 قرويًا للمحاكمة بتهمة القتل العمد، ونجح مدّعي النيابة “إبراهيم الهلباوي” ليس فقط بتبرئة ضباط الاحتلال وجنوده من القتل وحرق الأجران، وإنما أيضًا في إثبات أنهم كانوا ضحايا، وأن أهالي دنشواي هم المذنبون. ألصقت التهمة بستٍ وثلاثين منهم، وحُكم بإعدام أربعة شنقًا، ومعاقبة أثنى عشر بالسجن، تراوحت أحكامهم بين الأشغال الشاقة المؤبدة وخمس عشرة سنة وسبع سنين وسنة، وعلى خمسة آخرون بالجلد خمسين جلدةً،
واستغلت بريطانيا موارد مصر أسوأ استغلال خلال الحرب العالمية الثانية وأستنفذنها لمصلحة المجهود الحربي البريطاني، وتحولت مدينة العلمين المصرية إلى ساحة حرب بين القوات البريطانية بقيادة مونتجمري، والنازية بقيادة روميل، في حرب لا ناقة لمصر فيها ولا جمل. وهكذا كان الحال حتى وقع عبد الناصر اتفاقية الجلاء في أكتوبر 54، وفي 18 يونيو 56 تم إجلاء أخر جندي أجنبي عن مصر.
الاحتلال الإيطالي لليبيا
وعلى الصعيد العربي، احتلت إيطاليا دولة ليبيا العربية الشقيقة في سبتمبر 1911، وقاد الشيخ عمر المختار الكفاح المسلح ضد السفاح جراتسياني الملقب بجزار أثيوبيا، الذي أقام العديد من معسكرات العمل والمعتقلات الجماعية التي مات فيها عشرات الآلاف من السجناء الليبيين من الجوع أو المرض، إذا لم يقتلوا شنقًا أو إعدامًا بالرصاص، وأقام “المحكمة الطائرة” التي كانت هيئتها تنتقل من مكان إلى آخر بطائرة خاصة لتحكم بشنق الليبيين على الفور رجالًا ونساء في محاكمات صورية.
داهم جراتسياني نجوع الليبيين واجبر سكانها على ترك أراضيهم وممتلكاتهم، وساقهم في قوافل إلى المعتقلات الجماعية، وأشهرها معتقل “العقيلة” الذي أعُتقل فيه أقارب المجاهدين الليبين، مثل “قبيلة المنفة” وهي قبيلة عمر المختار وأنزل بهم الطليان أشد أنواع القهر والعذاب، أو “قبيلة العواقير” الذين جمعهم الطليان واجبروهم على السير على الأقدام إلى مسافة تصل إلى 300 كيلومتر في طرق وعرة أو صحراوية وفي مناخ قاس شديد الحرارة، وكان حين يبطئ كبار السن والضعفاء في المسير، يعمد حراسهم الإيطاليون إلى أخذهم جانبا، وإعدامهم رميا بالرصاص، لأن أوامر غراتسياني كانت شديدة، بحيث لا تسمح بأي تأخير للوصول إلى المواقع المقررة لاعتقالهم، لكن رحلة العذاب والموت هذه لم تكن إلا البداية فالذين وصلوا أحياء كان ينتظرهم مسلسل آخر للآلام والإهانة والقهر.
وقاد جراتسياني عملية الهجوم على “مدينة الكفرة” مشرفًا على الفظائع التي ارتُكبت فيها من قبل جنود الطليان ضد الليبيين المسالمين، وكان جراتسياني يأمر طياريه بإلقاء قنابل الغازات السامة مثل غاز الفسجين، وهو من اشد الغازات فتكا وأكثر سمية من الكلور 15 مرة.
وفي الفترة ما بين يناير 1924 إلى يونيو 1925، قام الطيران الإيطالي في تلك المدة بـ 3103 طلعة في مجموع ساعات طيران بلغت 2630 ساعة، قطع خلالها 400 ألف كيلومتر، وقذف فيها 22770 أنبوبًا متفجرًا، و47649 قنبلة حارقة ومتفجرة من بينها الكثير من الغازات السامة، وقد مات المئات من الليبيين خنقا بهذه الغازات المحرمة عالميًا، وهكذا ناضلت ليبيا حتى استقلت في ديسمبر 1951 تحت اسم المملكة الليبية.
الاحتلال الفرنسي للجزائر
واحتلت فرنسا الجزائر العربية الشقيقة في يوليو 1830، وقاموا بمحو الهُوِيَّة الجزائرية، حتى إن رئيس وزراء فرنسا آنذاك Camille Chautemps (كاميلي شوطون) أصدر قرارًا نص على حظر استعمال اللغة العربية واعتبارها لغة أجنبية في الجزائر، وجعل اللغة الوحيدة للبلاد هي اللغة الفرنسية.
على مدار 132 عامًا، أذاق الاحتلال الفرنسي الشعب الجزائري الويلات حتى لُقبت الجزائر بلقب المليون شهيد، ففي 8 مايو 1945 خرج الآلاف في ولايات سطيف وقالمة وخراطة (شرق)، ابتهاجًا بنهاية الحرب العالمية الثانية، آمِلين أن تفي فرنسا بالوعد الذي قطعته لهم وهو الاستجابة لمطلب الاستقلال، الذي رفعوه إليها عبر أحزاب وطنية، وقابلت فرنسا الجماهير المبتهجة بقمع عسكري، فقتلت أكثر من 45 ألف ضحية، حسب تقديرات جزائرية.
خلال “معركة الجزائر” سنة 1957، اختفى أكثر من 8000 رجل من سكان العاصمة، بعدما اختُطفوا من منازلهم وتعرّضوا لتعذيب رهيب وقتل بطرق بشعة أبرزها طريقة جمبري بيجار
وتتمثّل هذه الطريقة في “غرس الرجال مِن أقدامهم داخل قوالب إسمنتية من أرجلهم وتركهم على هذه الحال حتى يجف الإسمنت، وبعدها يُحملون في طائرات عسكرية ويُرموا في عرض البحر حيث يموتون غرقا.
أو مذبحة نهر السين في 17 أكتوبر 1961، حيث تصدّت القوات الفرنسية في باريس لقرابة 60 ألف متظاهر جزائري طالبوا بالاستقلال، وكانت نتيجة القمع مقتل 1500 جزائري بالرصاص أو غرقا في نهر السين، و800 مفقود وآلاف المعتقلين.
ومع ذلك فلا يكن عوام العرب وﻻ المصريون أي عداء ولا لبريطانيا، ولا فرنسا، ولا إيطاليا، ولا يمتنعون عن زيارة تلك الدول، ولا يتهمون الزوار بتهم ساذجة مثل التطبيع، بل على العكس تمامًا فأن حلم أي شاب مصري وفتاة مصرية هو زيارة عاصمة الضباب لندن، وعاصمة النور والحب باريس، وعاصمة الفن والجمال روما.
لماذا يتناسى المصريون ويلات الاحتلال البريطاني لمصر والفرنسي والإيطالي للدول العربية الشقيقة، والذي كان قطعًا أسوأ وأشد فظاعة وأطول مدة، والأعلى من حيث الخسائر في الأرواح والممتلكات، والأوسع من حيث منطقة سيطرة ونفوذ المحتل، ويستمرون بمعاداة إسرائيل، ويرفضون السلام معها ويتهمون الداعين لإقامة العلاقات السياسية والتجارية والثقافية مع إسرائيل بالخيانة؟
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
صدر للكاتب:
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ ٢٠١٧
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [قيصر جديد] ٢٠١٨
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [صراع العروش] ٢٠٢٢
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [العملية ظافر] ٢٠٢٤