بحلول منتصف يوليو عام 1971، وبعد المعارك الدامية بين نظام الملك حسين والفصائل الفلسطينية في الأردن، تم القضاء على الوجود العسكري المسلح للمليشيات الفلسطينية، وخرج عرفات ومنظمة التحرير والمسلحون إلى لبنان.
وللمرة الثانية، أقامت الفصائل الفلسطينية المسلّحة دولة داخل الدولة المستضيفة لهم، وتسببوا في اشتعال الحرب الأهلية اللبنانية التي دامت لعقود.
* لبنان..
بدأت الحرب الأهلية كصدام مسلح بين الجيش اللبناني والمقاومة الفلسطينية في عام 1973، على خلفية ظهور حلف ديني مسيحي ماروني في مواجهة المقاومة الإسلامية الفلسطينية، وتكوين مليشيات، ورفض لبنان لقرارات القمة العربية في شأن الفلسطينيين، حتى طُردت منظمة التحرير للمرة الثانية من أشقائها العرب بعد تدخل إسرائيل وحلفائها هذه المرة.
اتهمت السلطات اللبنانية حركة فتح (ومن ثمّ منظمة التحرير الفلسطينية) بالسعي لتوريط لبنان من خلال مهاجمة الكيان الصهيوني من الأراضي اللبنانية؛ ما يُعرّض لبنان للقصف الإسرائيلي.
وبعد التنسيق المشترك بين حزب الكتائب اللبنانية بقيادة “إيلي حبيقة”، وجيش لبنان الجنوبي، بالاشتراك مع الجيش الإسرائيلي بقيادة شارون، وحركة أمل [الجناح العسكري المسلح لحركة المحرومين، التي أسسها الإمام موسى الصدر لتكون تنظيمًا سياسيًا للمسلمين الشيعة]، تم الاتفاق أن يكون يوم 16 سبتمبر 1982م هو يوم الانتهاء من سكان المخيمات الفلسطينية.
كان أول من دخل إلى المخيمات لتنفيذ عمليات إراقة الدماء بدم بارد هو حزب الكتائب اللبناني، وقاموا بأكثر من نصف أعمال المجازر الوحشية التي راح ضحيتها حوالي 3500 من الرجال والنساء والأطفال والعجائز، والتي عرفت إعلاميًا باسم مذبحة صبرا وشاتيلا، لكن الإعلام العربي يتعمد إغفال مسئولية الميلشيات اللبنانية عن المجزرة، وإلقاء التهمة بالكامل على إسرائيل، حتى لا يقال أن الشعوب العربية تذبح بعضها البعض.
* سوريا..
في أواخر يونيو 1976، بدأت سوريا في حصار تل الزعتر الفلسطيني، بواسطة قوات حافظ الأسد والنظام السوري، وحلفائه، واستمر الحصار لمدة 52 يومًا، حتى مات سكانها من الجوع بعد أكل الكلاب وأوراق الشجر، ورافق حصاره بقصف بنحو 55 ألف قذيفة؛ ليسقط مخيّم تل الزعتر في 12 أغسطس 1976، وتقتحمه الكتائب اللبنانية، والقوى اليمينية المتحالفة معها، بغطاء من الجيش السوري.
تكرر ارتكاب المجازر المروّعة من بقرٍ لبطون الحوامل، واغتصاب النساء، وهدم المنازل، وذبح الأطفال والنساء والشيوخ، في مخيمات جسر الباشا، والكارنتينا المجاورين لتل الزعتر، واللذان سقطا بيد القوات المهاجمة قبل أيام معدودة من سقوط تل الزعتر، مما عرف إعلاميا باسم: حرب المخيمات.
* العراق..
في 2 أغسطس من عام 1990 تقدمت فرق الحرس الجمهوري العراقي مخترقة الحدود الدولية باتجاه مدينة الكويت، وتوغلت المدرعات والدبابات وقامت بالسيطرة على المراكز الرئيسية في شتى أنحاء البلاد ومن ضمنها العاصمة.
قام الجيش العراقي بالسيطرة على الإذاعة والتلفزيون الكويتي، وتم اعتقال الآلاف من المدنيين الكويتيين بالإضافة إلى أعداد كبيرة من الأجانب الذين كانوا موجودين في الكويت آنذاك، والذين تم استخدامهم رهائن لاحقًا، وبدأت عمليات سلب ونهب واسعة النطاق من قبل القوات العراقية شملت جميع مرافق الكويت، من أبسط المواد الغذائية على رفوف الأسواق إلى أجهزة طبية متطورة، وبدأت حملات مُنظّمة لنقل ما تم الاستحواذ عليه إلى العراق، وارتكب الجيش العراقي العديد من جرائم الحرب في الكويت، مثل عمليات الإعدام بدون محاكمة، وكانت عمليات الإعدام تجري أمام منزل الضحية، وبحضور أسرته.
قامت السلطات العراقية ولأغراض دعائية بتنصيب حكومة صورية تحت مسمى جمهورية الكويت، برئاسة علاء حسين من 4 أغسطس إلى 8 أغسطس لمدة أربع أيام، ثمّ أعلن صدام حسين عن أعتبار الكويت المحافظة التاسعة عشر للعراق.
* مصر..
وكردة فعل سريعة، دعا الرئيس المصري محمد حسني مبارك لاجتماع قمة عاجل يوم 10 أغسطس، بحضور الشيخ جابر الصباح أمير الكويت وولي عهده وحضور طارق عزيز وزير خارجية العراق، والملك فهد ولي عهد الحرمين الشريفين، وياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، والملك حسين ملك الأردن، ورئاسة الرئيس مبارك، وتم طرح مشروع قرار يدين الغزو العراقي للكويت ويدعو لإرسال قوات عربية للمشاركة، في الدفاع عن المملكة العربية السعودية.
في الجلسة الختامية، تم تقديم المشروع النهائي للقرار، وكان على القادة العرب التصويت عليه، فأتهم طارق عزيز مصر وسوريا والسعودية بالاتفاق المسبق على قرار إدانة العراق، أما ياسر عرفات فطلب من الشيخ سعد العبد الله الصباح إمهال صدام فرصة يومان، للتفاوض معه ومحاولة إقناعه قبل الموافقة على مشروع إدانة العراق، فأجابه الشيخ سعد العبد الله بحزم : “ولا حتى ساعتين !! ألا تدري ماذا يحدث للكويتين من قتل وسجن وتعذيب وها أنت تطلب مني مهلة يومين!؟ ولا حتى ساعتين!!”
بعد التصويت على مشروع القرار، وافق رئيس وملك 12 دولة على القرار، هم: مصر والكويت والسعودية والبحرين والإمارات وقطر والمغرب وسلطنة عمان وسوريا والصومال ولبنان وجيبوتي، فيما عارضه أو أمتنع عن التصويت 8 رؤساء، منهم: الملك عبد الله ملك الأردن، وعلي عبدالله صالح رئيس اليمن، وياسر عرفات رئيس سلطة التحرير الفلسطينية، ومعمر القذافي زعيم ليبيا، الذي أرغى وأزبد ضد إدانة العراق بعد صدور القرار بالإجماع.
قسّم القرار العالم العربي، حتى إن الأمين العامة للجامعة العربية استقال من منصبه، إلا أن القرار كان قد أتُخذ، وأصبح من حق السعودية طلب قوات عربية وأجنبية للدفاع عنها، وفي 12 أغسطس أعلن صدام حسين رده على القرار، وذلك بربط الانسحاب من الكويت بانسحاب إسرائيل فورًا وبلا شروط -على حد نص البيان الذي أذاعه التليفزيون العراقي- من فلسطين وسوريا ولبنان.
من الضفّة الغربية إلى جامعة القاهرة
في اليوم التالي من إعلان الرئيس صدام حسين لربط غزو الكويت بالاحتلال الإسرائيلي، تظاهر في 13 أغسطس الآلاف من الفلسطينيين في الضفة الغربية -الذين يعانون من نار الاحتلال الإسرائيلي منذ عقود- تأييدًا لصدام حسين، وهتفوا “بالروح بالدم نفديك يا صدام“، وحملوا صور للرئيس المصري، حسني مبارك، وقد رسموا على جبهته نجمة داودـ وذلك لأن جهوده أثمرت عن إدانة العراق، ومشاركة الدول العربية في التحالف العسكري الدولي، والذي ستقوده الولايات المتحدة لتحرير الكويت.
أما المصريون الذين يتظاهرون منذ عقود ضد احتلال فلسطين العربية الشقيقة، فقد تظاهروا أيضًا بعد قرار الجامعة العربية، لكن تأييدًا لاحتلال الكويت العربية الشقيقة أيضًا، وفي 3 فبراير خرجت مظاهرة عارمة للطلاب المصريين من جامعة القاهرة ضمت ما يقرب من ثلاثة آلاف طالب، ضد أمريكا وتأييدًا لصدام، وانتهت بمقتل أحد الطلاب بعد الاشتباك مع قوات الأمن المصري.
ردة فعل الفلسطينيون والمصريون من حرب الكويت، أو موقف الشعوب العربية من حرب المخيمات، يشيران بما لا يدعو للشك أن العرب لا يهتمون ولا يكترثون باحتلال أراضيهم، المهم إلا يكون المحتل أجنبيًا.. عندها فقط ينتفضون، أما أن كان المحتل عربيًا مثلهم فلا يكترثون، أو ربما يتظاهروا تأييدًا له مثلما فعلوا حرفيًا مع صدام حسين في احتلاله للكويت.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
صدر للكاتب:
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ ٢٠١٧
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [قيصر جديد] ٢٠١٨
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [صراع العروش] ٢٠٢٢
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [العملية ظافر] ٢٠٢٤
نحاول تخمين اهتماماتك… ربما يهمك أن تقرأ أيضا:
- «النقب» طرح مصري بديل لحماية القضية الفلسطينية النقب ليست صحراء جرداء، بل هي منطقة جنوب الأرض المحتلة، يقطنها ضمن سكانها بدو فلسطينيون في نحو 38 قرية، وتبلغ مساحة النقب نحو 14 ألف كيلومتر مربع، وترتبط اجتماعيًا بقبائل الأردن وشبه الجزيرة العربية وسيناء، وأشهر مدنها وأكبرها "بئر سبع"، وتمتد صحراء النقب حتى مدينة إيلات...