Search
Close this search box.
ضمن عشرات وربما مئات من حكايات الطفولة تقفز من الذاكرة حكاية ذاك المدرس النابه الذي وقف بين تلاميذه الصبية، وأخرج من جيبه عملة نقدية ورقية تتجاوز مصروفهم اليومي، وقال لهم، من يرد هذه العملة فليأتي ليأخذها، فلم يحرك تلاميذ الفصل ساكنًا، وقد سرت بينهم همهمات مضغمة، إلا تلميذًا واحدًا، ترك مكانه واتجه حيث المدرس وأخذ العملة، وسط صمت مطبق من بقية التلاميذ، لم يقطعه إلا تصفيق المدرس، وعاد الصبي إلى مكانه، فرحًا بهدية الأستاذ الثمينة. في ظني أن الحكاية تؤكد أهمية بناء الثقة بين طرفيها، وأن يصدق الصبية عرض المدرس وجديته.

تخيلت نفسي أنه قدر لي أن أعيش زمن الحكاية، ذاك الزمن السحيق والمتخيل، وقد اقتربت من الصبية في الفترة ما بين عرض المدرس وتقدم ذاك التلميذ الذي “صدّق” المدرس، وأتخيلهم وقد اقتربت رؤسهم في حلَقات يهمهمون فيمَا عُرض عليهم، واحدة من الحلَقات راحت تشكك في جدية العرض، واستدعى من فيها، خبراتهم السابقة، التي تؤكد نكوص المدرس عن وعده، وتحول المشهد إلى حالة من التهكم على من يتقدم ليحظى بهدية المدرس الذي يشاركهم -بغير إعلان- تهكمهم. فكان العزوف قرارهم، وعندما دق جرس الفسحة، التقى التلاميذ يتندرون على تلك الواقعة بعيدًا عن عيون المدرس، ويشيدون بذكائهم وصحة قرارهم بعدم الاستجابة.

حلقة أخرى راحت تستدعي تجارِب الفصول المجاورة التي تعيش نفس أجواء المدرسة، بتنويعات مختلفة في تفاصيل الحكاية، أن المدرس طلب تشكيل لجنة من التلاميذ، تتلقى أسماء من يريد الفوز بما عرضه المدرس، بشروط: الانتظام في الحضور المدرسي، والنجاح في امتحانات الشهر، والالتزام بتعليمات المدرسة، والتحلي بالأخلاق وغيرها، ويتقدم لها من تنطبق عليه هذه الشروط، ثم تنظم اللجنة عملية تصويت الفصل على من يرونه الأجدر، وتجمع أوراق التصويت وترتبها، وتعلن من فاز وفق اختيار أغلبية الفصل، خرج التلاميذ من الفصل وبقيت اللجنة، وبعد دقائق تعلن اللجنة اتفاق غالبية التلاميذ على عدم استحقاق أيًا من المتقدمين لعطية المدرس، وبقيت العملة النقدية في حوزة المدرس.

فيمَا كانت حلقة ثالثة تستعرض تجرِبة مدرسة ثالثة، التي اختلف فيها عرض المدرس، وكان هو المشرف على شئون فصله، أن يفسح المجال لاختيار أحدهم ليحمل عنه مهمة الإشراف، ويكون اسم المدرس مطروحًا ضمن الاختيارات، وهو عرض متكرر بشكل دوري، اللافت أن النتيجة كانت واحدة، مع بقاء الإجراءات وطقوس التصويت كما هي في كل دورة، كان المدرس هو الفائز. كان وراء فوزه نشاط بعض من التلاميذ مهمتهم خلق حالة من الخوف من عواقب عدم اختياره، وتتعدد المبررات والحكايات، ولا تختلف النتائج… في تأكيد لدور الخوف.

التجارِب السلبية والمتكررة هي التي تحاصر محاولات المدرس في اكتساب ثقة التلاميذ، ويدعم هذا الحصار من يخشون من نجاح عرضه، فيطلقون قنابل دخانهم عبر ترويج إشاعاتهم، وهم يسعون لعدم نجاح مسعاه خَشْيَة أن تنتقل إلى فصولهم، وبعضهم يدرك مردود قيادة هذا الفصل الذي ينعكس في تقارير إدارة المدرسة ومفتشي الوزارة بمزيد من الترقيات الدورية والاستثنائية له، وتأكيد جدارته ليس في فصله وحسب بل وفي استحقاقه لإدارة المدرسة، أو على الأقل الاقتداء بتجربته.

كان للمدرس، بطل حكايتنا، أدواته التي يحرص على تفعيلها؛ منها حرصه على تنمية مداركه في فهم احتياجات فصله، وتوزيع مسؤوليات تدبيرها على النبهاء من التلاميذ، وحرصه على الحوار الإيجابي معهم، وتدريبهم على قَبُول التعدد والتنوع، باعتبارهما سر قوة فصله ونجاحه، ويدعم كل هذا قدرة المدرس على عدم الميل لفصيل منهم بسبب تميز شخوص هذا الفصيل فيمَا يعتقدون أو يملكون أو خلفياتهم الاجتماعية أو الاقتصادية أو قوتهم أو قدرتهم على فرض اختياراتهم، باعتبار أن هذه كلها هي دعامات لَمَّا يسع لبناءه في تكوين جيل يعيش ال في أبسط معانيها، وحين ينتقل الجيل من مرحلة دراسية لأخرى تنتقل معه الخبرات الإيجابية هذه، وتصبح نسق تفكير وأسلوب حياة، تنتقل منهم إلى مجتمعاتهم الصغيرة، ومنها إلى دوائر أوسع، بهدوء لكن بقوة، ببطء لكن إلى الأمام.

كان سر نجاح هذا المدرس المتخيل في أمانته وتجرده، وحبه لفصله وتلاميذه، ووضوح الهدف عنده، واهتمامه بأن يسجل دفتر أحوال المدرسة تجربته لتبقى لأجيال قادمة، فللزمن أحكامه وللتاريخ تقييماته، والمتجاوزة للمصادرة والمنع، وقدرته على التوثيق تقفز وتتأصل بتطور أدوات التواصل والانتشار.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

كمال زاخر
كاتب ومفكر قبطي في التيار العلماني المصري  [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: : صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨