حسب الكتاب المقدس والآباء: ”في البَدْء كان الكلمة [اللوغوس Logos] كل شيء به كان“ (يوحنا 1) ”فإنه فيه [المسيح كلمة الله اللوغوس] خُلِقَ الكل: ما في السموات وما علي الأرض، ما يُرَي وما لا يُرَى، سواءً كان عروشًا أم سيادات أم رياسات أم سلاطين. الكل به وله قد خُلِق“ (كو١٦:١).

إن خَلْقْ الله للإنسان هو نعمة. فالإنسان كان عدمًا غير موجود، وأنعم الله عليه بالوجود. هذه أوّل نعمة… الوجود من العدم.

والنعمة الثانية التي أضيفت وبشكل خاص إلى الإنسان هي نعمة الصورة الإلهية ”نخلق الإنسان على صورتنا كمثالنا(سفر التكوين).

لقد خلق الله الآب البشر حسب صورته [الذي هو أقنوم الابن ”بهاء مجد الآب و رسم جوهره“] بواسطة كلمته يسوع المسيح. والصورة والمثال عند الآباء وبخاصة آباء الإسكندرية هي الحياة العقلية الداخلية التي يحياها الإنسان. فالعقل هو قدرة روحية و فكرية، وهو أحد مكونات صورة الله في الإنسان. وقد أعطاها الله الإنسان ليكون له قدرة، بسبب تشبهه بخالقه، على أن يتأمل ويدرك ويفهم ماهو كائن، وبذلك أعطاه إدراك ومعرفة أزلية الله.

ولأن الله يعرف أن البشر لهم إرادة حرة قد خلقهم سبحانه عليها ليتشبهوا به تبارك اسمه، لذلك دعَّم الله الإنسان بنعمة ثالثة، وهي الوصية والبيئة الخاصة التي خلقهم فيها وهي الفردوس.

وبذلك فإن الوصية أو الشريعة ليست هي مصدر النعمة، بل هي تحفظ النعمة لأنها تحفظ حرية الإرادة فتظل مقيمة في النعمة. بالتالي فإن الحياة حسب الصورة الإلهية هي فوق وأعظم بكثير من الحياة حسب الشريعة والوصية بقدر عظمة الهدف عن الوسيلة للهدف. وهذا هو الأساس في قول المسيح إن ”السبت [الوصية] هو لأجل الإنسان، وليس الإنسان لأجل السبت

فالإنسان هو الذي نال الصورة الإلهية، بالتالي كيان الإنسان نفسه هو النعمة حسب الكتاب المقدس وحسب شرح ق. لأن الإنسان ”خُتِمَ“ بختم ابن الله، أي نال الصورة الإلهية لابن الله.

وفي التراث المسيحي الشرقي فإن الشريعة لا يُشار إليها بكلمة ”قانون Law“، لأنها ليست فروض أو أوامر “Commandment” بل وصية، أي علامة تُرشد مَن يريد إلى الطريق المستقيم.

فإن غاية خلقة الإنسان على صورة الله هو أن يصل إلى الله نفسه ويصير على مثال خالقه. بالتالي فإن الشريعة ليست غاية بل وسيلة لأن المصير النهائي والأبدي للإنسان أن يكون على مثال خالقه. فصورة ومثال الله أعظم بكثير من ”افعل ولا تفعل“.

أنطولوجية المعرفة عند الإنسان:

هنا تجدر العودة إلى جوانب أنطولوجية [وجودية] المعرفة عند الإنسان. فالإنسان يعرف، ليس لأنه قادر على التفكير، وإنما يعرف لأن كيانه كله يحيا مثل الله، وهذه الحياة هي التي تشكِّل وتكوِّن المعرفة الإنسانية، أي المعرفة النابعة من كيانه المخلوق حسب الله أي حسب صورته، هذه ليست مثل المعرفة الآتية من العدم الذي هو صورة الإنسان الطبيعية التي جاء منها. فالإنسان بدون الله تصير معرفته عدمية نسبة إلى أصله الآتي من العدم/ اللا وجود/ الفساد. فالحياة هي التي تكوِّن المعرفة وليس المعرفة هي التي تكوِّن الحياة. هنا يتضح ما نسميه بالمعرفة الكاذبة التي تنبع من تعدي فكر الإنسان التدبير الذي خلقه الله عليه من خيرية الطبيعة والمعرفة التي بالضرورة تتجه إلى العدم كذلك. لأن الإنسان إذا استخدم فكره بدون الله ليتأمل كيانه، فإنه يجد في كيانه العدم واللا وجود.

فالتجرد من معرفة الله يسوق الإنسان نحو ما لا وجود له، أي ما هو كائن في فكر الإنسان وخياله فقط، ولا وجود طبيعيًا أو حقيقيًا له، لأنه لم يُخلَق بواسطة الله.

”اللوجوس Logos“.. خَلَقَ .. ”اللوجي Logi“:

حسب تسليم الآباء فإن كلمة الله اللوغوس Logos، أعطي ما يُعرَف عند الآباء باسم Logi، أي القوانين والحدود التي ترسم حدود كل طبيعة مخلوقة، فتجعل لها صلة بالله وبباقي المخلوقات، إذ تُحدِّد طبيعة وعمل كل مخلوق على حدة، وكل المخلوقات معًا في وحدة واحدة وفي انسجام. وتُقسَّم الخليقة بالنسبة إلى اتصالها بالخالق الله اللوغوس/ Logos، إلى الخليقة العاقلة Logi والخليقة غير العاقلة Alogi.

فالوجود خيرٌ لأنه ينتمي إلى الحدود التي أعطاها الله لكل مخلوق. هذه الحدود Logi هي الوجود والصفات والعلاقات المعقدَّة مع الخليقة كلها التي يدبِّرها اللوغوس ابن الله حسب مسرته.

إن عناصر الكون التي تبدو متنافرة مثل النار والماء لا يمكن أن توجد معًا بسبب تنافر طبائعها، وبذلك فإن وجودها هو دليل على أنها ليست موجودة بذاتها بل بسبب اللوغوس الذي أوجدها.

لقد خلق الله الإنسان على صورته ومثاله لكي يؤسس في الإنسان الأساس الثابت والأبدي لعلاقة أبدية بالله، لأن الإنسان يتأمل خالقه كلمة الله ويرى فيه الآب ويتجدد بالشوق إلى الخالق. وهكذا تصبح عودة الإنسان إلى ذاته وكيانه المخلوق على صورة الله هي بداية التديُّن السليم. ومن لا يؤمن بذاته وبكيانه، فهو غير قادر علي أن يؤمن بآخر، حتى لو كان هذا الآخر هو الله : ”ها ملكوت الله في داخلكم“.

الإنسان وتزييف المعرفة:

إن سقوط الإنسان كان بتزييف كيانه، بالانتقال من الحالة التي خُلِق عليها كصورة لله، إلى حالة أخرى هي أن يكون الإنسان صورة لنفسه بدون الله. فالتعارض بين ما خلقه الله، وما كوَّنه الإنسان عن نفسه، هو ما يسمى بسقوط الإنسانية. وأنحدر الآب الأول من صورة الله إلى صورة ذاته. ومن هنا نشأ التعارض بين محبة الله ومحبة الذات ومحبة الغريب. ولم يكن عبثًا أن أول وصية والوصية الثانية كانت تتعلق بهذا الخلل لأن محبة القريب التي تتساوى بمحبة الإنسان لنفسه هي الوضع الإنساني الذي جاءت الوصية علامة ترشد الإنسان للطريق إليه لكي يصل إلى تجاوز عشقه لنفسه.

فإن دعوة البشر إلى الوجود من العدم ـإن صحَّت هذه التسمية- كانت دليل وبسبب حضور/ وجود كينونة اللوغوس كلمة الله ومحبته للبشر. ولكن متى تجرَّد البشر من معرفتهم بالله يصبح فكرهم معملًا لاختراع ما لا وجود له، أي الشر، الذي هو الزَّيف حيث لا وجود له حسب أصله. فالبشر هم الذين تخيلوا الشر وتصورونه على مثالهم بعد أن تغربوا عن صورة الله فيهم، وأختاروا ذواتهم بدون الله مرجعًا لفكرهم، وهم بذلك غافلون أن مرجعهم هو العدم واللا وجود.

ولكن ما معنى أن يتصور الإنسان والناس الشر على مثالهم؟ بأنهم يعتقدون أن الشر له وجود وكيان مثلما الإنسان موجود وكائن. ثم يعطي الإنسان كل صفاته أو بعضها لهذا الذي اخترعوه. فنجد في التاريخ أن البشر اخترعوا الأصنام وتوهموا أن ما لا وجود له موجود بالفعل. وما أشبه اليوم بالبارحة فيمَا تفتق ذهن البشر إليه من زَيف جديد بالعبث في البشري الذي نراه في الغرب الآن.

ويجدر القول أن هذا الزَّيف الجديد إنما يطفح بزيفه وعدميته واللا وجود الذي له أكثر بكثير من الأصنام في القديم، لأن امتداد الخط البياني له يضرب في صميم الكيان الإنساني وليس خارجًا عنه كما في الأصنام، فهو يقود إلى فناء الجنس البشري والعودة إلى العدم.

والسُبح لله.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

ثالوثية النعمة في الوجود الإنساني 1
[ + مقالات ]