ضحكت عندما تذكرت الأيام الخوالي! وقتما كنت أتلقى رسائل السباب والتهديد والوعيد من مجهولين على صندوق الرسائل بـ"فيسبوك" إبان يناير 2011 ويونيو 2013 وحتى بضع أسابيع مضت. إذ تذكرني أحدهم أكثر الله من خيره وأرسل لي شاكرًا بعد نشر مقالتي "لا هاسلّم بالمكتوب" رسالة إلكترونية رعدية مليئة بالسُباب، قبل أن يفر أو تفر بعدها هاربة بالبلوك كي لا أعرف اسمه أو شكله!
ربما لأنني مسست أحد أصنامه الإكليريكية المصفحة “اللامعة!” دون أن أدري! طبعا أمر أثار حفيظته وأشعل النار في سرواله حتى غطى الدُّخَان جنبات المكان، وقرر بعدها أن يرسل لي رسالة ينتقد فيها “إعجابي” بالبابا تواضروس الثاني ومعي “زملائي” ممن يرتدون “سلطانية التنوير” كما قال! بالرغم من إنني لم ألاحظ مطلقًا أي إشادة للبابا في حديثي بأي مقال!
عامًة، أنا فعلًا معجب بمعظم تصرفات البابا وأفعاله فعلا بالمناسبة، والسبب أنه كرر ما قاله أحد “كبار مشايخ” الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في مصر الجديدة الذي ذكرته تلميحًا في سياق كلامي سواء بالنقد أو الهجاء المبطن، في حين لم أذكر معه البابا في هذا الهجاء! وأعقبها برابط إلكتروني لأقوال البابا التي لم أهتم أو أذكر في وقتها إنني قرأتها أو شاهدتها فعلًا، مع أنه قرأت تصريحات القمص المبجل المخضرم “المطيباتي” الذي أتحامل عليه!
قد يكون هذا لأنني أخاف بطش البابا مثلًا أو لأنني أنافقه، وهذا القارئ المجهول الشجاع كشفني على حقيقتي قبل أن “يخلع” بعيدًا!
لقد أدرك إنني (حسب كلامه) قررت أن ابتلع الحذاء -حسب تعبيره الأنيق العميق- ومعي زملائي في الكنترول، وشركائي في الخدمة التنويرية بالمواقع الإلكترونية، أو نتعفف عن مهاجمة قداسة البابا، بل أن “نتشطر” على فضيلة الأب الورع المظلوم (علشان بنخاف وكدزة!).
عمومًا، لا أخفي أحد سرًا، عندما أكتب وأقول إن فعلًا ليس أحد بعينه هو محور الفكرة، ربما يكفي أحدهما -الاتنين واحد يا “بابا”- لأن يمثل الفكرة الإكليريكية الفلسفية الجميلة (الرضا والقناعة والانهزامية والانبطاح ومعانقة الألم والفرح بالضعف والاحتفاء بالفشل والخيبة وقبلهم طبعًا التسليم بالفقر والإفلاس المادي، حلو! حلو وزي السكر!) لأن هذا طبعا وفق “الحكمة” العميقة، يقربنا من الله إله الضعفاء (خليك ضعيف.. ربنا بيحب الضعفاء.. إلهنا إله الضعفاء.. قول ماء.. ماااء!)
لذا..
فمن سرقك أيضا واغتصبك واغتصب قوتك أمس، فتبرع له بمالك اليوم طوعًا وطواعية، وفوقها سلم له جسدك يا عزيزي كي يبيعه قطعًا قطعًا، وهكذا تكون “المسيحي الكامل” الحقيقي كما أفهمك “كثير” من رجال الدين في مصر كذبًا مع الأسف!
ربما جاء شعار الثورة الفرنسية الفكري الأشهر اشنقوا أخر ملك بأمعاء أخر قس ليؤسس بداية لفكرة العَلمانية والليبرالية والحداثة الحقة، والتحرر من زَيف ووهم ومعتقد عصمة الإكليروس، وتحطيم صنم حكمتهم العميقة وفكرهم الصائب في جميع المواضيع، من الفلسفة إلى السياسة والاقتصاد وعلم النفس والبقية تأتي، اليوم تبيع نفسك، غدا وطنك و”شوف الشاري مين؟” (أو “فين؟”)
للأسف، غياب التنوير الذي ارتديت أنا وزملائي الجبناء “سلطانيته”، عندما لم نهاجم البطريرك! ارتبط في مصر بغياب الفكر العلماني والحداثي، شيء بديهي ومتوقع بما أنه ليس مفروضًا ومقررًا لا في المدارس والجامعات.
التنوير أو الفكر العلماني لا يفتح بابًا للاسترزاق المادي المباشر والكبير والسريع كالاتجار في الدين أو في الجسد أو حتى في العورات العائلية بالذات في الشبكات الاجتماعية من يوتيوب وحتى تيك توك، إنما النقد الديني والسياسي البناء (بالذات للرموز والصروح والقامات) يجلب الفقر والنحس ويطفش النساء!
التنوير والفكر العلماني لا يلفت نظر النساء، وغيابه خلق قطعانًا كبيرةً من الخراف والماعز، مصابة بمتلازمة ستوكهولم، إن خطفها الذئب، تعاطفت معه، لا ثارت ضده، في حين راعي الخراف لا يجد أي غضاضة أن يبلغ الشرطة عن مخبأ جيفارا فيقبض عليه ويعدم، لإن حرب جيفارا مع أعداء الراعي (أو سمهم الذئاب) كانت تزعج قطيع الأغنام والماعز!
دعني أذكرك أيضًا في عجالة بمقاومة “محمد كُريّم” في مصر للحملة الفرنسية، الذي تم القبض عليه والحكم عليه بالإعدام، إلا أن نابليون أرسل إليه وأحضره وقال له: يؤسفني أن أعدم رجلًا دافع عن بلاده بجرأتك، ولا أريد أن يذكرني التاريخ بأنني أعدم أبطالًا يدافعون عن أوطانهم، لذلك عفوت عنك مقابل عشرة ألاف قطعة من الذهب تعويضًا عمن قتل من جنودي، فقال له محمد كريّم: ليس معي ما يكفي من المال ولكن لي دين عند التجار بأكثر من مائة ألف قطعة من الذهب، فقال له نابليون سأسمح لك بمهلة لتحصيل أموالك. فمَا كان من كريّم إلا أن ذهب إلى السوق وهو مقيد في أغلال ومحاط بجنود المحتل الفرنسي، وكان عنده الأمل فيمن ضحى من أجلهم من أبناء وطنه، فلم يستجب تاجر واحد، بل اتهموه أنه كان سببًا في دمار الإسكندرية وسببًا في تدهور الأحوال الاقتصادية!
” الثائر لأجل مجتمع جاهل، هو شخص أضرم النيران بجسده كي يضيء الطريق، لشخص ضرير ”
صديقي.. إن عشت فللرب تعيش وإن مت فللرب تموت، لكن لا تقاتل من أجل “الماعز”، ولا تمت من أجل الجبناء، فحياتك ثمينة حتى إن كنت وسط القطعان خروف أسود!
والحدق يفهم..
وللحديث بقية إن كان للعمر بقية!
اقرأ أيضا:
وعهدوا إلينا بإصلاح سفينة مثقوبة،
من أجل إيمانهم الذي صنع لنا أملا،
صرنا لا نكتب -وقت الموت- عن حداد وحزن،
وإنما نكتب عن حنق وسخط!
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟