“لِلْقَتْلِ وَقْتٌ وَلِلشِّفَاءِ وَقْتٌ، لِلْهَدْمِ وَقْتٌ وَلِلْبِنَاءِ وَقْتٌ، لِلْبُكَاءِ وَقْتٌ وَلِلضَّحْكِ وَقْتٌ، لِلنَّوْحِ وَقْتٌ وَلِلرَّقْصِ وَقْتٌ”

(سفر الجامعة 3: 3، 4)

ذكر الكتاب المقدس في سفر الجامعة -على لسان الله- إن لكل شيء تحت السماء وقت، وذكر وقتًا لاثنان وعشرون فعلا، من القتل وحتى الرقص، إلا أنه لم يذكر أبدًا ضمنهم وقتًا للاستسلام!

يصعب تصور رقصًا بلا طرب، أو بلا فرح، في أهازيج النصر على مدار العصور من قدماء المصريين والإغريق مرورًا بشعب الله المختار آنذاك اليهود، وحتى في أصغر دويلة في العالم في عصرنا الحديث، والنصر في الحروب، هو عكس الهزيمة التي هي أشرف ألف مرة من الاستسلام الذي كما قلت بأعلى، لم يكتب له الله في إنجيله أي وقت، وإن كتب للبكاء وللخسارة وقتًا! فربما كان مبدأ الاستسلام والانهزامية والرضا بالواقع أكثر ألمًا على النفس وليس له مكان ولا زمان في فلسفة الله ونحن لا ندري، في حين للبكاء والضحك والسرور وللهزيمة للرقص.. وقت!

“يصوّر لنا النقش البارز على جدران المعابد المصرية من كل العصور الملوك وهم يرقصون أمام أزوريس وغيره من الآلهة، وفي التي يضمها العهد القديم نجد ذلك التقليد المأخوذ من عبادة أزوريس مجسَّدًا بوضوح في فكرة المزامير نفسها، ودعوتها المتكررة “رنموا للرب، أهتفوا للرب وغنُّوا”.

(ناجح المعموري)

سَبِّحُوهُ بِصَوْتِ الصُّورِ. سَبِّحُوهُ بِرَبَابٍ وَعُودٍ. 4سَبِّحُوهُ بِدُفّ وَرَقْصٍ. سَبِّحُوهُ بِأَوْتَارٍ وَمِزْمَارٍ. 5سَبِّحُوهُ بِصُنُوجِ التَّصْوِيتِ. سَبِّحُوهُ بِصُنُوجِ الْهُتَافِ.

(مزمور 150: 3- 5)

اهْتِفُوا وَرَنِّمُوا وَغَنُّوا. رَنِّمُوا لِلرَّبِّ بِعُودٍ. بِعُودٍ وَصَوْتِ نَشِيدٍ. بِالأَبْوَاقِ وَصَوْتِ الصُّورِ اهْتِفُوا قُدَّامَ الْمَلِكِ الرَّبِّ!

(مزمور 98: 4- 6)

أُرَنِّمُ لَكَ تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً. بِرَبَابٍ ذَاتِ عَشَرَةِ أَوْتَارٍ أُرَنِّمُ لَكَ.

(مزمور 144: 9)

لِيَبْتَهِجْ بَنُو صِهْيَوْنَ بِمَلِكِهِمْ. لِيُسَبِّحُوا اسْمَهُ بِرَقْصٍ. بِدُفّ وَعُودٍ لِيُرَنِّمُوا لَهُ. لأَنَّ الرَّبَّ رَاضٍ عَنْ شَعْبِهِ. يُجَمِّلُ الْوُدَعَاءَ بِالْخَلاَصِ. لِيَبْتَهِجِ الأَتْقِيَاءُ بِمَجْدٍ. لِيُرَنِّمُوا عَلَى مَضَاجِعِهِمْ. تَنْوِيهَاتُ اللهِ فِي أَفْوَاهِهِمْ، وَسَيْفٌ ذُو حَدَّيْنِ فِي يَدِهِمْ. لِيَصْنَعُوا نَقْمَةً فِي الأُمَمِ، وَتَأْدِيبَاتٍ فِي الشُّعُوبِ.

(مزمور 149: 2- 7)

قدمت طالبة نوبية منذ أيام عرضًا راقصًا شخصيًا جميلًا ومبهجًا في احتفالها واحتفائها بتخرجها في الجامعة، انتصارها المبين على تحديات ومشاكل ومصاعب تواجه كثير من الطلبة، وقد يكون رقصها أكثر احتشامًا من رقص النبي ال شخصيًا، أهم ملوك الكتاب المقدس، الذي فتش الله قلبه، فوجده كقلب الله، الذي يصف رقصه القمص بأنه “كان رقصًا وقورًا (حسب تفسير أول 50 مزمور للأب القمص الكبير- إصدار مطبوعات).

ورغم عدم الارتباط الضمني بين الرقص، والخلاعة أو العري، لازال كثير من أفراد المجتمعات الشرقية العربية الرجعية يدين كافة أشكال الرقص، والبهجة، والسباحة، والغناء وتربية الكلاب، والموسيقي، والتعطر والتمثيل والغناء بل حتى التفكير! فلا عجب إنهم وجدوا في لحم الطالبة النوبية فريسة سهلة لتفريغ عقد نقصهم في إنسان لم يجرم في حق إنسان آخر.

أكثر وأشهر أنواع الرقص في آخر نصف قرن وربما أرباحها هو ما تحدثت عنه “نبيلة عبيد” (أو “سونيا سليم”) في فيلم “الراقصة والسياسي” في سيناريو “مصطفى محرم” المأخوذ عن قصة للروائي إحسان عبد القدوس، وهي تحدث “صلاح قابيل” (خالد بك مدكور) هو ما يقوم به السياسيون  -وطبعا الإعلاميين- أمام الجماهير من خلف الميكروفونات! ورغم أن الرقص عندهم بالألسنة وليس بالخصر و”على الناس” وليس “للناس”، إلا أنه أضر بهؤلاء الناس أكثر بكثير جدا مما فعله رقصها هي وزملائها، إن لم يكن قضى على أغلبهم أيضا!

ليس هذا فحسب، لكن كثيرًا ما أصبحنا نردف تأدبا مصطلح الرقص “على الناس” أيضا لمن يتباهى ويتفاخر على الناس بما عنده وبما له -وعليه ما عليه!- حتى خارج الشبكات الاجتماعية طمعًا في لفت الانتباه بشكل جنوني، في حين لم تجد الثقافة الأمريكية الشعبية أي غضاضة في وصفها بالـ”عهر” من أجل لفت الانتباه (اتنشن هورينج)، إلا أن الأمر تطور عندنا في مصر في أخر ربع قرن وأصبحنا نستخدم لفظة “القفز” (التنطيط) بدلًا من “الرقص!”، ولاقى التعبير الكثير من الاستحسان إذ انتشر في كل مكان بمصر، حتى وإن لم يلق الرقص نفسه مكانًا ولا وقتًا!

الرقص في واقع الأمر كما عبر عنه الفنان الراحل “سعيد صالح” في مسرحية “العيال كبرت” لا يحتاج لشهادة قدر ما يحتاج إلى “ليونة”، بدءًا من صغار الموظفين (أو المعيدين) الطامحين في الترقيات والإجازات في المصالح والجامعات الحكومية، والجميلات في لجان الأسئلة الشفوية بالجامعات، مرورًا بغالبية الإعلاميين، وربما انتهاءً بممثلات طمحوا في بطولات كبيرة مع مخرج يساري خمسيني فاته قطار النجاح الباتع!

قابلنا “أولادًا جالسين في السوق ينادون بعضهم بعضا ويقولون لنا: زمرنا لكم فلم ترقصوا نحنا لكم فلم تبكوا” إلا أن زمار الحي لا يطرب، وربما إن غاب الطرب غاب الرقص، ولا معنى للطرب ونحن مهزومين دائمًا، مرة بسبب ، ومرة 11 سبتمبر، ومرة الأزمة الاقتصادية العالمية، ومرة كوفيد 19، ومرة أوكرانيا.. و.. و..

إما دائمًا الرقص على الناس وجثثهم موجود وحاضر، من انستجرام وحتى تيك توك، ومن نادي باريس وحتى صندوق النقد الدولي، المهم عند الجميع الآن هي النقطة، وبالذات لو كانت بعملة الـ”بريكس”.

وللحديث بقية، إن كان في العمر بقية!

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

وللرقص وقت! 1
[ + مقالات ]