في القرن الخامس الميلادي، حدث الانشقاق الكبير «و يسمى أيضًا بالانشقاق العظيم» بين الكنيستين الشرقية والغربية بسبب «مجمع خلقيدونية» «عام 451م»، فأصبحت كنائس الشرق تحت قيادة كنيسة الإسكندرية تُعرَف بالكنائس «الأرثوذكسية»، وهي كلمة يونانية تعني «الرأي الحق» أو «الرأي المستقيم»، وكنائس الغرب تحت قيادة كنيسة روما وسميت بالكنائس الكاثوليكية، وهي كلمة يونانية تعني «عام» أو «عالمي» أو «جامعة» لأنها جمعت كل الكنائس الغربية، ومنذ ذلك الوقت أصبح كل مسيحيي مصر من الأرثوذكس، وصار هناك قطيعة بين الشرق والغرب المسيحي.
في منتصف القرن الخامس عشر، وفي عهد البابا يوحنا الحادي عشر بطريرك الإسكندرية الأرثوذكسي، اجتهد ملوك أوروبا لإعادة الوحدة بين مسيحيي الشرق والغرب، واستقر الرأي على عقد مجمع بمدينة فلورنسا لهذا الهدف، يحضره بابا الفاتيكان يوجين الرابع Pope Eugene IV، وبطريرك القسطنطينية، وممثل للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، فلبى بطريرك الإسكندرية الدعوة وأرسل الأنبا يوحنا رئيس دير الأنبا أنطونيوس، لكنه وصل فلورنسا بعد انفضاض المجمع، وكانت نتيجة المجمع عودة الاتحاد بين كنيستي اليونان والرومان، وعاد رؤساء الكنائس إلى بلادهم بنية الاجتماع مرة أخرى، لكن لم يتحقق الاتحاد المنشود.
وفي القرن السابع عشر وصلت الإرساليات الكاثوليكية الغربية إلى مصر، وكان في طليعتها إرسالية الآباء الفرنسيسكان، وبدأ الآباء الجيزويت «اليسوعيون» نشاطهم الإرسالي بين مسيحيي البلاد، وتحول العديد من المسيحيين من المذهب الأرثوذكسي إلى المذهب الكاثوليكي، فقرر بابا الفاتيكان إنوسنت الحادي عشر pope Innocent XI عام 1687 تأسيس رعية لهؤلاء الكاثوليك الجدد، ووضعها تحت إشراف الآباء الفرنسيسكان، وأرسل عددًا من الشبان الكاثوليك الجدد إلى روما للدراسة بغية إعدادهم لاستلام المهام الكهنوتية لجماعتهم الناشئة، وتوالى تحول الأرثوذكس إلى الكنيسة الكاثوليكية، حتى إنه في عام 1741 تحول الأنبا أثناسيوس أسقف أورشليم القبطي الأرثوذكسي إلى المذهب الكاثوليكي، فكلفه بابا الفاتيكان بنديكتوس الرابع عشر Pope Benedict XIV برعاية جماعة الأقباط الكاثوليك في مصر، ولاحقـًا عاد الأنبا أثناسيوس للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ولكن هذا لم يوقف استمرار الأقباط الكاثوليك ونموهم.
لم يمر كثير من الوقت، حتى تحول الأنبا أنطونيوس فلايفل أسقف جرجا وأخميم وقفط وقوس ونقادة وإسنا وأرمنت للأقباط الأرثوذكس، إلى المذهب الكاثوليكي، وكان ذلك في العام 1758، وفي العام نفسه سافر فلايفل لمدينة روما وأقام بدير القديس إسطفانوس، وفي ذلك الوقت كان عدد الكاثوليك في مصر لا يزيد عن ألف وثلاثمائة فرد، ولهم نحو ست أو سبع كنائس كاثوليكية، بينما كان عدد الأرثوذكس في مصر نحو أربعين ألفًا.
عاد الأنبا أنطونيوس مرة أخرى إلى مصر بعد عامين قضاهما في روما مدرسًا للغة القبطية ومترجمًا لكتب كنيسة الإسكندرية الطقسية، بعدما نال درجة النائب الرسولي «نائب بابا روما» على طائفة الأقباط الكاثوليك، وسعى لنشر المذهب الكاثوليكي بين الأرثوذكس المصريين.
أثار تحول الأنبا أنطونيوس فلايفل حقد الأرثوذكس عليه، وأعلن بابا الإسكندرية الأنبا مرقس السابع أن فلايفلاً صار محرومًا «أي إنه لم يعد ينتمي للكنيسة الأرثوذكسية»، لكن لم يكتف البابا مرقس بذلك وإنما اضطهد فلايفل بمساعدة العثمانيين، وقدم الأقباط الأرثوذكس الشكوى في حقه إلى والي مصر العثماني أحمد كامل باشا، وشهدوا عليه زورًا بكل التهم المختلفة والكاذبة انتقامًا منه، فقبض على أنطونيوس فلايفل عام 1763، وسجن أحد عشر يومًا عُذب فيهم عذابًا أليمًا قاسيًا وتعرض داخل السجن للجوع والعطش وحاولوا أن يقتلوه، وعندما لم تثبت تهمهم الزائفة عليه، خلّى سبيله أخيرًا، ولما وجد فلايفل الحقد وسوء المعاملة والاضطهاد من قبل الأرثوذكس، سافر إلى روما مرة أخرى بحثـًا عن السكينة، وفي العام 1774 قدم استقالته عن منصبه بسبب كبر سنه واعتلال صحته إلى أن تنيح بسلام في العام 1807.
وفي عام 1791 حدثت مشاجرات ومخاصمات ومنازعات بين القبط الكاثوليك والقبط الأرثوذكس، استمرت لنحو ثلاث سنوات، حتى وصل خبر تلك المنازعات إلى والي مصر السلطان محمود الثاني، إلى أن اهتدى الفريقان المتناحران في 1794 إلى عقد اتفاق سلام يتضمن بضعة شروط، وكُتب الاتفاق في وثيقة بحضور «البادري كيرلس» و«البادري أكليمنطس» ممثلين عن الأقباط الكاثوليك «بادري Padre كلمة إيطالية تعني الاب أو الوالد»، والخواجه «كارلوى شنتى» قنصل النمسا، والمُعلّم إبراهيم الجوهري «رئيس كتاب القطر المصري وهي تعادل رتبة رئاسة الوزارة حاليًا» والمُعلّم جرجس أخيه عن الأقباط الأرثوذكس، ونص الاتفاق على عدم الزواج بين أبناء الطائفتين منذ ذلك التاريخ فصاعدًا، وألا يدخل قسوس الأرثوذكس بيوت الكاثوليكيين ليبشروا فيها، ولا قسوس الكاثوليكيين يدخلوا بيوت الأرثوذكس ليبشروا فيها، لئلا يحصل بسبب ذلك نزاع، كما اتفق الطرفان على ألا تصل أي منازعة أو خصومة مستقبلية بينهم إلى حكام السياسة ولا حكام الشرع، وأن تحل المنازعات فيما بينهم بوساطة الموقعين على الوثيقة.
وفي العقد الثاني من القرن التاسع عشر، وفي عهد بطريرك الأقباط الأرثوذكس الأنبا بطرس الجاولي، عادت محاولات ومساعي الوحدة بين الأرثوذكس والكاثوليك، والتي قادها المعلم غالي «كبير مباشرين القطر المصري وهي تعادل رتبة وزير المالية الآن» التابع للكنيسة الكاثوليكية، وبمباركة محمد علي الكبير الذي كان تواقـًا للاتحاد مع الغرب، وكان يرى أن مصر ستتقدم وترتقي لو اتصلت بمركز المسيحية في أوروبا، لذا حبذ مشروع الاتحاد وعضده، وفي عام 1814 اجتمع مجمع الكنيسة الأرثوذكسية للخروج بهذا المشروع إلى حيز التنفيذ، وأرسل بابا الفاتيكان بيوس السابع Pius VII خطابًا إلى بطريرك الإسكندرية يحثه فيه على التمسك بالاتحاد، ولكن مع الأسف لم ينجح المشروع، فقد عارض الأنبا «يوساب الابح» أسقف أخميم الوحدة المنتظرة، ويقال إنه بعد أن حُررت وثيقة الاتحاد، ووقع عليها البطريرك الأنبا بطرس الجاولي وسائر الأساقفة وسلّمت إلى الأنبا يوساب للتوقيع عليها، مزقها، وقضى بذلك على وحدة الكنيسة.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
صدر للكاتب:
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ ٢٠١٧
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [قيصر جديد] ٢٠١٨
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [صراع العروش] ٢٠٢٢
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [العملية ظافر] ٢٠٢٤